الأحد ديسمبر 22, 2024

عيسى عليه السلام لم يدَّع الألوهية

وهنا بيت القصيد في موضوع الردّ على من افترى على سيدنا عيسى عليه السلام بأنه علّم الناس أنه الله أو ابن الله والعياذ بالله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ:{وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 116، 117]، قال القرطبيّ في تفسيره ما نصّه: «اختُلف في وقت هذه المقالة، فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال، وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين، أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادَّعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشدّ في التوبيخ والتقريع. الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيَّروا بعده وادَّعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: النصارى لم يتخذوا مريم إلـهًا، فكيف قال ذلك فيهم؟ قيل: لـمَّا كان من قولهم: إنها لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلـهًا لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة مَنْ ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثاب القائلين له».

ثم قال: «خرّج الترمذيّ عن أبي هريرة قال: تلقَّى عيسى حجته ولقَّاه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ} [المائدة: 116]. قال أبو هريرة عن النبي ﷺ: «فلقَّاه الله {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح([1]). وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين، أحدهما: تنـزيهًا له عما أُضيف إليه. الثاني: خضوعًا لعزته وخوفًا من سطوته. ويقال: إن الله تعالى لـمَّا قال لعيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ} أخذته الرّعدة – بكسر الراء – من ذلك القول حتى سَمِعَ صوت عظامه في نفسه فقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، أي: أن أدَّعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني: أنني مربوبٌ ولست بربٍ، وعابدٌ ولست بمعبودٍ. ثم قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فردَّ ذلك إلى علمه، وقد كان الله عالـِمًا به أنه لم يقله، ولكنه سأله عنه تقريعًا لمن اتخذ عيسى إلهًا. ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، أي: ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل: المعنى تعلم ما اعلم ولا اعلم ما تعلم، وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. وقيل: تعلم سرّي ولا أعلم سرّك، لأن السّر موضعه النفس، وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة، قلت – أي: القرطبيّ -: والمعنى في هذه الأقوال متقارب، أي: تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقتَهُ ولا أعلم شيئًا مما استأثرتَ به من غيبك وعلمك. {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن»([2]).اهـ.

ويتابع القرطبيّ قائلًا: «قول الله سبحانه وتعالى إخبارًا عن عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، يعني: في الدنيا بالتوحيد. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} {أَنِ} لا موضع لها من الإعراب وهي مفسّرة» ثم قال: «ويجوز أن تكون في موضع نصب، أي: ما ذكرتُ لهم إلا عبادة الله. قوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}، أي: حفيظًا بما أمرتهم {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} {مَّا} في موضع نصب، أي: وقت دوامي فيهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} تظاهرت الأخبار برفع عيسى عليه السلام، وأنه في السماء حيٌّ، وأنه ينزل ويقتل الدجال، وإنما المعنى فلمَّا رفعتني إلى السماء. قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عزَّ وجلَّ على ثلاثة أوجه: وفاة الموت وذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، يعني: وقت انقضاء أجلها، ووفاة النوم قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]، يعني: الذي ينيمكم، ووفاة الرفع قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]»([3]) انتهى كلام القرطبيّ.

[1])) سنن الترمذيّ، الترمذي، تفسير سورة المائدة، (5/260)، رقم 3062.

[2])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (6/374 – 377).

[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (6/376، 377).