الأحد ديسمبر 22, 2024

تعطير الأنام  في أخبار بعض الخلفاء والحكام

عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد


ترجمته:
هو أبو جعفر عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. كان سليل الفاروق رضي الله عنه من جهة أمه ورث منه كثيرًا من شمائله الشماء، ومناقبه الغراء ومن إيثار الحق ومناصرة العدل والعفة والورع والتقوى.

ولد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وستين للهجرة وقيل سنة ثلاثة وستين للهجرة وكانت ولادته بالمدينة، كان يأتي عبد الله بن عمر وهو بعد غلام صغير لقرابة أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: “يا أماه، فأنا أحب أن أكون كثل خالي”. يريد عبد الله بن عمر. فتقول له: “أُعزب، أنت تكون مثل خالك” فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميرًا عليها ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها إليها، فقال لها: “يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به”، فلما أرادت الخروج قال لها: “خلفي هذا الغلام عندنا يريد عمر فإنه أشبهكم بنا”، فخلّفته عنده، ولم تخالفه. فلما قدمت على عبد العزيز أخبرته بخبر عمر، فسُرّ بذلك وكتب إلى أخيه عبد الملك بن مروان يخبره بأمره، فكتب عبد الملك أن يُجدى عليه ألف دينار في كل شهر ثم قدم عمر على أبيه بعد ذلك فأقام عنده ما شاء الله.

علومه:
عُني أبوه بتربيته منذ نشأته، فكتب إلى صالح بن كيسان بالمدينة أن يتعاهده ويرعاه، وكان صالح يُلزمه الصلاة، فأبطأ يومًا عنها، فقال: “ما حبسك”، قال: كانت مُرجّلتي تسكن شعري، فقال: “بلغ بك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة”. وكتب إلى أبيه بذلك، فبعث إليه عبد العزيز رسولاً فلم يبارحه حتى حلق شعره.

وقد روى الحديث وتلقى الفقه عن جماعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك المتوفى سنة تسعين للهجرة وقد جاوز المائة، رءاه عمر وروى عنه وصلى أنس خلفه، ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى سنة أربعة وسبعين للهجرة، وهو عم أمه كما قدمنا، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المتوفى سنة ثمانين للهجرة، وتلقى من جماعة من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب المتوفى سنة أربع وتسعين للهجرة وهو رأس علماء التابعين وفقيههم، وعروة بن الزبير المتوفى سنة أربع وتسعين للهجرة، وسالم بن عبد الله بن عمر المتوفى سنة تسعة وتسعين للهجرة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: “لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليّ من الدنيا وما فيها”، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى سنة مائة وخمس وعشرين للهجرة، وقد كتب عمر بعد إلى الآفاق: “عليكم بابن الشهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه”.

على هؤلاء العلماء الجهابذة وعلى غيرهم من علماء المدينة تخرج عمر في علوم الدين حتى حذقها وصار فيها إمامًا ضليعًا مبرزًا، وقال فيه ميمون بن مهران المتوفى سنة مائة وسبع عشرة للهجرة: “ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذ”، وقال: “عمر بن عبد العزيز معلم العلماء”، وقد حدَّث عن نفسه فقال: “لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر فاصبت منه حاجتي”. ولئن أُخذ على بعض الأمويين وقوع اللحن في قولهم، إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يتعلق عليه أحد بلحن في قول، ومما يروى في هذا الصدد أن بشر بن مروان قال يومًا لغلام له، وكان عنده عمر بن عبد العزيز: “ادع لي صالحًا”، فقال الغلام: يا صالحًا، فقال بشر: “ألغ منها ألفًا” فقال له عمر: “وأنت فزد في ألفك ألفًا”.

ولايته على المدينة:
وفي ربيع الأول سنة سبع وثمانين للهجرة ولاه الوليد بن عبد الملك المدينة فقدمها ونزل دار جده مروان بن الحكم، ودخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: “إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونن فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحْرِجْ بالله على من بلغه ذلك إلا بلغني”. لقد كانت هذه الكلمة الوجيزة هي الدستور الذي سنه لحكمه والنهج القويم الذي رام أن ينتهجه في ولايته، فاتخذ من هؤلاء الائمة الأعلام أعوانًا على الحق، يجعل أمره شورى بينهم ولا ينفذ حكمًا إلا باطلاعهم، وينشدهم الله أن لا يُزْوُوا عنه خبر شكاياه أو ظلامة من أحد من عماله أو من عامة الناس فلا غَرْوَ أن يسطر المؤرخون اسمه في صحيفة تاريخه.

ولي عمر المدينة وسار سيرة حسنة، وولى على قضائها أبا بكر محمد بن عمرة بن حزم، وعرف للعلماء حقهم وفضلهم فأولاهم ما هم أهله من الإكبار والإجلال، وظل عمر على ولايته المدينة حتى كانت سنة إحدى وتسعين للهجرة فضمت إليه ولاية مكة، ثم عزله الوليد سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وكان سبب ذلك أن كتب عمر إلى الوليد يخبره بظلم الحجاج لأهل العراق واعتدائه عليهم، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: “إن من قبلي من مراق أهل العراق، أهل الشقاق، قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن”، فكتب الوليد إلى الحجاج أن أشر علي برجلين، فكتب إليه بشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدًا مكة وعثمان المدينة وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج من المدينة فأقام بالسويداء.


خلافته:
ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة من سنة تسع وتسعين إلى مائة وواحد للهجرة، بعد وفاة الخليفة ابن عمه سليمان بن عبد الملك، فكان رجلاً زاهدًا في منصب الخلافة، متواضعًا لله تعالى، ومما جاء عن تواضعه أن شخصًا مدحه في وجهه فقال له: “يا هذا لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت في وجهي”. وقد أخذ رضي الله عنه على عاتقه النظر في المظالم فردّها، وراعى السنن العادلة فاعادها، ومما يروى عن مالك بن دينار رضي الله عنه في عدل عمر بن عبد العزيز أنه قال: “لما وُلي عمر بن عبد العزيز رحمه الله قالت رعاة الشاة في ذروة الجبل: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس قيل لهم وما أعلمكم بذلك قالوا: إنا إذا قام على الناس خليفة صالح كُفّت الذئاب والأسد عن شياهنا”.

ومما جاء أيضًا عن عدله بين الرعية ما رُويَ أنه ما مات رضي الله عنه حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم فيقول: “اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء”، فما يبرح حتى يرجع بماله لا يجدون أحدًا يأخذه، قد اكتفى الناس في عهده، حتى قيل: “أغنى عمر بن عبد العزيز الناس”.

وروي أن أعرابيًا قصد عمر بن عبد العزيز وكان فقيرًا فقال: “يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة وانتهت بي الفاقة والله سائلك عني يوم القيامة”، فاهتز عمر من خشية الله وقال: “أعد”، فأعاد، فنكّس رضي الله عنه رأسه وأرسل دموعه حتى بلّت الأرض، ثم أمر له بثلاثمائة، ولكل واحدة من بناته بمائة وكان عنده ثماني بنات وأعطاه بعد ذلك مائة وقال له: “هذه المائة أعطيتك من مالي إذهب فاستنفقها حتى تخرج صدقات المسلمين فتأخذ معهم”.


ءاثاره الحميدة في البدع الحسنة:
ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به هو أنه رضي الله عنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة وافقه عليها العلماء، لأنها كانت من جملة البدع الحسنة التي توافق الشرع ولا تخالفه، وهي تجويفه المحراب في المساجد، فهو أول من عمر المحراب، وهو أول من منع مسبة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر وأمر أن يقرأ قول الله تعالى: {إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون} [سورة النحل/ءاية:90]، إذ كان بنو أمية يأمرون بسب الإمام علي رضي الله عنه.

ومن أعماله الجليلة أيضًا أنه أبطل المكوس التي كان بنو أمية قد أخذوها من الناس بغير حق ورد الحق إلى أهله، وله اعمال كثيرة بالإضافة إلى شهرته وشهادات العلماء بفضله وصلاحه تؤكذ تقواه وورعه وخدمته للأمة الإسلامية.


أخلاقه:
كان عمر بن عبد العزيز كريم الشمائل، حميد السجايا، رفيع الخُلق فاضله، ولا نغالي إذا قلنا إنه كان يُعَدُّ في عصره مثال الرجل الكامل، إذ اجتمع له من مكارم الأخلاق وشريف الآداب ما لم يعرف لأحد من معاصريه، ولا غرو فقد كان كجده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى بلغ في الشيم والأخلاق شأنًا عظيمًا.

كان عمر لا ينكث وعده ولا ينقض عهده، يعتقد الحق فيجاهد به ولا يتهيب فيه غضبة السلطان ونقمته، فقد أراده الوليد بن عبد الملك إبان خلافته أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع أخاه سليمان من ولاية العهد، فقال له: “يا أمير المؤمنين إنا بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك”.

وقد روي من الأخبار بمبالغته في التورع أنه حُمل إليه سلتان من الرطب، فقال: علام جيء بهما قيل: “على دواب البريد” قال: “فما جعلني الله أحق بدواب البريد من المسلمين أخرجوهما فبيعوهما واجعلوا ثمنهما في علف دواب البريد”، فغمز ابن أخ عمر بن عبد العزيز الرسول وقال له: “اذهب فإذا قامتا على ثمن فخذها لي”، فأخرجتا إلى السوق فقوّمتا بأربعة عشر درهمًا، فجاء بهما الرسول إلى ابن أخيه فاشتراها، فأعطاه ثمنهما، وقال: “اذهب بهذه الواحدة [أي إحدى السلتين إلى أمير المؤمنين]، وحبس لنفسه الأخرى، فأتى عمر بها فقال: “ما هذا” فأخبره الخبر فقال: “الآن طاب لي أكله”، وألقى ثمن السلتين في بيت المال.

وقال يومًا لرجل: “من سيد قومك” قال: أنا، قال: “لو أنك كذلك لم تقله”. وجعل شعاره الزهد في الدنيا والإعراض عن متعتها الزائلة، قال مالك بن دينار: “الناس يقولون مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فتركها”.


أمره بتدوين الحديث:
كان الناس منذ بدء الدعوة المحمدية يعتمدون في الحديث الشريف على الحفظ والاستظهار، فلما كثرت الغزوات واتسعت الفتوح ومات من حملة الحديث من مات، وتفرق باقيهم في البلاد وكان عند كل منهم شيء من الحديث، وقد ينفرد بعضهم منه بما لم يسمعه سواه، وقل الضبط وكاد يلتبس الباطل بالحق، مست الحاجة إلى تدوينه، فكان أول من امر بتدوين الحديث عمر بن عبد العزيز إبان خلافته، إذ رأى أن في تدوينه حفظًا له وإبقاء عليه.

جاء في “فتح الباري” في باب كتابة العلم: “وأول من دوّن الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر من عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين والتصنيف، وحصل بذلك خير كثير”. وجاء في متن البخاري على هامش “الفتح” في باب: كيف يُقبض العلم: “وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم”: “انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء”.

وقال في “الفتح”: وقد رويت هذه القصة بلفظ: “كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه”.


وفاته:
ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال له: “يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة، ولا بد من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتك، لكفيتك مؤونتهم إن شاء الله”، فقال عمر: “أجلسوني”، فاجلسوه فقال: “أما ما ذكرت من أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقًا هو لهم ولم أكن لاعطيهم حقًا هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاية إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، [فقال فيما معناه] فإني أكِلهم إلى الله الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله فسيجعل الله له من أمره يسرًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ورجل عصى الله فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصيته، ادعوا لي بنيَّ. وهم يومئذ بضعة عشر ذكرًا. فجعل يصعد بصره فيهم حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال: “إني مليت رأيي بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وبين أن تفتقروا ويدخل الجنة فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم”، قالوا فما احتاج أحد من اولاد عمر ولا افتقر.

وتوفي رحمه الله في رجب سنة مائة وواحد للهجرة وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر في محلة يقال لها: “دير سمعان” بمدينة حمص.

رحمه الله ونفعنا ببركاته.