الإثنين ديسمبر 23, 2024

عدم مشابهة الله للمخلوقين

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو فِي بيان عدم مشابهة الله للمخلوقين. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على نبيّنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.

أمَّا بعدُ: فقد قال رسول الله r: «مَن أراد بُحْبُوحَةَ الجنّة فَلْيَلْزَم الجماعةَ»([1]).اهـ. المعنى: أنَّ الذي يريد أن يدخلَ الجنة وينجوَ من عذاب الله فليلزمْ جمهورَ الأمة، أي: السوادَ الأعظمَ فِي عقيدتهم؛ لأن الله تعالى أكرمَ سيدنا محمدًا r بأنْ حَفِظَ أمته مِن أنْ يَضِلَّ جمهورُهم، أي: أن يخرجوا من الإسلام، الله تعالى وعد نبيّنَا محمدًا r أن يحفظ عقيدة الإسلام على جمهور أمته، أيْ: معظمِهم، معنى ذلك: أن بعضهم قد يكفرون أما الجمهور فلا يكفرون؛ بل يبقون على الاعتقاد الذي عَلَّمَهُ النبيّ r الصحابةَ ثم الصحابةُ عَلَّمُوهُ التابعين ثم التابعون عَلَّمُوا أتباعهم وهذا إلى عصرنا هذا، فعقيدة الإسلام محفوظة للجمهور، أي: للمعظم، أما الشراذمُ التي تخالفُ الجمهور فهذه هالكة. أصحاب رسول الله r كانوا على عقيدة واحدة وهي أنَّ الله موجود بلا مكان من غير أن يتحيز فِي جهة من الجهات ومن غير أن يكون حالًّا فِي جميع الجهات، هو موجود بلا جهة ولا مكان كان فِي الأزل موجودًا قبل المكان والزمان ليس لوجوده بداية. المكان مخلوق لم يكن ثم أوجده اللهُ والزمان كذلك، فالذي يكون قبل الزمان والمكان موجودًا بلا ابتداءٍ لا يتغيرُ ولا يتطور ولا يتحوَّل من حال إلى حال أما المخلوقُ فيتحول من حال إلى حال، حتى النورُ والظلامُ يتحولان من حال إلى حال، الآن أرضٌ من الدنيا عليها ظلام كهذه الأرض وقسمٌ من الدنيا عليه نور تَقَلصَ عنه الظلامُ فَتَسَلَّطَ عليه الضوءُ، وهكذا الضوء يتنقل والظلام يتنقل وكلٌّ له كمية عند الله تعالى، النور له مِساحة يتسلط عليها والظلام كذلك وكلٌّ منهما يتحول من حال إلى حال، والشمس كما تعلمون عند الغروب يكون لونها حمراءَ وعند طلوعها كذلك حمراء وفي غير ذلك بيضاء.

فخالقُ العالم لا يتغير، لأنه لو كان يتغير لكان مخلوقًا يحتاج إلى من أوجده وأخرجه من العدم ثم نَقَلَهُ مِنْ حال إلى حال.

الأشياءُ الكثيفةُ كالإنسان والحجر والشجر والأشياء اللطيفةُ كالهواء والروح والملائكة كلُّها تتغير من حال إلى حال. الملائكة فِي أصل خِلقَتِهم جسم لطيف لطيف لطيف، يستطيعون أن يدخلوا إلى صدر الإنسان ولا يحس بهم لذلك ملك الرحم بأمر الله تعالى يشتغل فِي رحم النساء فيخطط جسدَ الإنسان فِي رحم الأمّ ثم يأتي الملك بالروح بعد تطوُّره من النطفة إلى العلقة ومن العلقة إلى المضغة، فِي هذا الدور دور المضغة يدخل ملك الرحم فِي رحم المرأة([2]) وهِيَ لا تحس به وينفخ فيه الروح، عندما يكون كقطعة لحم تُمضغُ، أي: بعدما يتحول المنيُّ إلى دم جامدٍ ثم هذا الدم الجامد يتحول إلى قطعة لحم بقدر ما الإنسانُ يمضغُه ثمَّ اللهُ تعالى يكسوه عظمًا، أول ما يُخلق من عظام الإنسان هو عظم صغير فِي ءاخر الظهر، هذا أصل الإنسان عليه يركَّب الإنسان فِي الدنيا ويومَ القيامة عندما يُعيد الله الجسدَ الذي أكله التراب ينبت الجسد والعظم على هذه القطعة الصغيرة التي تكون قدرَ حبة خردلة هذه تبقى لا تفنى، الله تعالى يحفظها من الفناء، أما ما سواها يفنى العظمُ واللحمُ والجلدُ كلٌّ يفنى.

الجسم اللطيف كجسم الملائكة والجسم الكثيف كجسم البشر والحجر والشجر خلقهما الله تعالى فهو لا يشبه هذا ولا هذا لذلك هو موجود بلا مكان.

لو كان عقل الإنسان لا يتصورُ موجودًا بلا مكان يجب علينا أن نؤمن بأن اللهَ موجودٌ بلا مكان.

ليس كلُّ موجود يتصوره قلبُ الإنسان، فِي المخلوقات التي خلقها الله يوجد ما لا يستطيعُ الإنسانُ أن يتصوره وهو أنَّه فِي وقتٍ لم يكن نور ولا ظلام وهذا لا يستطيعُ عقلُ الإنسان أن يتصوره، النورُ تستطيعُ أن تتخيله بقلبك وحدَه والظلامُ كذلك تستطيع أن تتخيله بقلبك وحده أما وجود وقت ليس فيه نور ولا ظلام لا تستطيع فكيف الله؟! كيف يُستطاع تَصَوُّرُهُ وهو لا يشبه العالم اللطيف ولا العالم الكثيف؟! المشبهةُ تصوروه جسمًا فوق العرش بقدر العرش هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم جعلوه مثل خلقه، جعلوه موازيًا للعرش الذي هو مخلوق. لم يكن العرش فِي الأزل، الله كان وحده لم يكن معه شيء لا عرش ولا سماء ولا أرض ولا جهة فوق ولا جهة تحت ولا جهة يمين ولا جهة يسار ولا جهة أمام ولا جهة خلف، كان موجودًا بدون هذه الأشياء، ثم خلق هذه الأشياءَ ثم هو لم يتغير عما كان عليه، لم يتخذ مكانًا، وهذا العرشُ خلقَه لإظهار قدرته؛ لأنه يوجد ملائكةٌ لا يعلمُ عددهم إلا الله محيطون بالعرش، يدورون حولَ العرش يُسبّحون بحمدِ اللهِ وهؤلاء عندما يَروْنَ هذا الجِرْمَ الكبيرَ الذِي لا يعلمُ حدَّه إلا اللهُ يزدادون يقينًا بكمال قدرة الله لهذا خَلَقَهُ ليس ليجلس عليه، الجلوسُ من صفة الخلق، الإنسانُ يجلس والكلب يجلس والبقر يجلس، فالله تبارك وتعالى لا يجوز عليه أن يكون كشيء من خلقه. هكذا تكون معرفة الله، ليس معرفةُ الله بأن يعتقدَ أنه جسمٌ فوق العرش بقدر العرش. لا يوجد شيءٌ له حياة مُسْتَقِرٌ فوقَ العرش، يوجد كتابٌ كتب الله فيه إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضبِي([3]).اهـ. هؤلاء المشبهةُ صاروا يقولون لِكَيْ يخدعوا الناس ويجرُّوهم إلى عقيدتهم يقولون فوق العرش لا مكان والله تعالى هناك حيث لا مكان، فاحذروهم قولوا لهم كذبتم يوجد فوق العرش مكان، الله تعالى وضع ذلك الكتاب فوق العرش، أنتم تتصورون جسمًا فوق العرش عظيمًا واسعًا مِساحتُه بقدر العرش وهذا وهمٌ لا وجود له، هكذا قولوا لهم.

ممن اعتقد أن اللهَ موجودٌ بلا مكان بلا جهة من غير أن يكون حجمًا كثيفًا كالإنسان وأنه هو الذي يستحق أن يُعبد فهذا عرف الله وءامن بالله فإذا اعتقدَ رسالةَ سيدنا محمد r كان مؤمنًا بالله ورسولِه فهو مسلمٌ ما دام على هذا الاعتقاد. انتَهَى.

والله تعالى أعلم.

 

 

[1])) رواه الترمذيّ، باب: ما جاء فِي لزوم الجماعة.

[2])) روى مسلم وأحمد والفريابي وغيرهم عن النبي r أن الملك يدخل على النطفة بعدما تستقر فِي الرحم… إلخ.اهـ. وفي بعض الروايات: فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه ودمه وشعره وبشره وسمعه وبصره… إلخ.اهـ. قال بعض العلماء، أي: يدخل بعضُهُ، أي: يده.اهـ.

[3])) رواه البخاريّ بَابُ قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الـمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171].