عبد الله بن عمر بن الخطاب
الصَّالِحُ ابْنُ الصَّالِحِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ أَبُوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ رَيَاحِ بْنِ قُرَطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، الإِمَامُ القُدْوَةُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحَدُ أَعْلَامِ الـمُؤْمِنِيْنَ وَهُدَاةِ الـمُسْلِمِيْنَ، الثَّابِتُ عَلَى سُنَّةِ سَيِّدِ الـمُرْسَلِيْنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ بِهَذَا يَنْتَسِبُ إِلَى بَنِي عَدِيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ وَهِيَ قَبِيْلَةٌ عَظِيْمَةٌ ذَاتُ شَأْنٍ فِي الـجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ، فَأَبُوْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ السَّفَارَةُ فِي الـجَاهِلِيَّةِ يُنَافِحُ وَيُنَاضِلُ عَنْ قُرَيْشٍ فِي الـمَحَافِلِ وَهُوَ فِي الإِسْلَامِ غَنِيٌّ عَنِ التَّعْرِيْفِ وَيَكْفِيْهِ مَا وَرَدَ فِيْهِ مِنَ الآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِ، وَعَمُّهُ زَيْدُ بْنُ الـخَطَّابِ أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ مِمَّنْ شَهِدُوْا بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَكَانَتْ لَهُ الرَّايَةُ يَوْمَ اليَمَامَةِ فِي حَرْبِ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ حَيْثُ نَالَ هُنَاكَ الشَّهَادَةَ سَعِيْدًا حَمِيْدًا.
وَسَطَ هَذِهِ البِيْئَةِ نَشَأَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ نَشْأَةً عَظِيْمَةً تَجَلَّتْ فِي سُلُوْكِهِ وَمَوَاقِفِهِ الـجَرِيْئَةِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الـحَقِّ وَالعَمَلِ عَلَى نُصْرَةِ الدِّيْنِ الـحَنِيْفِ وَقَوْلِ الـحَقِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
فَصْلٌ فِي بَعْضِ فَضَائِلِه:
لَقَدْ شَرَّفَ اللهُ ابْنَ عُمَرَ بِأَنْ جَعَلَهُ مِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ وَأَكْرَمَهُ بِصُحْبَةِ خَيْرِ النَّاسِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَالَتْ نَفْسُهُ نَحْوَ الـخَيْرِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْ صَالِـحِ الأَعْمَالِ فَهَاجَرَ مَعَ أَبِيْهِ إِلَى الـمَدِيْنَةِ، وَعَرَضَ عَلَى الرَّسُوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ فَرَدَّهُ وَكَذَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَرَدَّهُ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَأَجَازَهُ يَوْمَ الـخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَهِيَ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ مَعَ الرَّسُوْلِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَهِدَ جَمِيْعَ مَا بَعْدَهَا مِنَ الـمَشَاهِدِ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الوَرَعِ وَالعِلْمِ، كَثِيْرَ الاتِّبَاعِ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيْدَ التَّحَرِّي، شَهِدَ الـحُدَيْبِيَةَ وَقِيْلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ الرَّسُوْلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَذَاكَ، وَكَانَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنِ السَّرَايَا فِي زَمَنِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُوْلِ كَثِيْرَ الـحَجِّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِمَنَاسِكِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقْصِدُوْنَهُ لِلْفُتْيَا عَلَى عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَشِدَّةِ ذَكَائِهِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَالِـمٍ عَنْ أَبِيْهِ (أَنَّهُ) قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ غُلَامًا عَزْبًا شَابًّا فَكُنْتُ أَنَامُ فِي الـمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وَلَهَا قُرُوْنٌ كَقُرُوْنِ البِئْرِ، فَرَأَيْتُ فِيْهَا نَاسًا قَدْ عَرَفَتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ فَقَالَ: لَنْ تُرَاعَ. فَذَكَرْتُهَا لِحَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “وَنِعْمَ الرَّجُلُ عِبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ”، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا القَلِيْلَ.
زُهْدُهُ وَعَظِيْمُ خَوْفِهِ مِنَ اللهِ:
لَقَدْ بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الزُّهْدِ مَبْلَغًا عَظِيْمًا فَجَعَلَ الدُّنْيَا مِنْهُ عَلَى القَفَا وَسَلَكَ طَرِيْقَ الـمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ جَاهِدًا إِلَى الزِّيَادَةِ وَالإِكْثَارِ مِنَ الـحَسَنَاتِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، عَامِلًا بِمُقْتَضَى مَا جَاءَ فِي القُرْءَانِ الكَرِيْمِ ثَابِتًا عَلَى سُنَّةِ سَيِّدِ الـمُرْسَلِيْنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْجَرِفُ وَرَاءَ الفِتَنِ وَلَا تَمِيْلُ بِهِ الأَهْوَاءُ، فَقَدْ عَاشَ مَا عَاشَ لَمْ تَغُرَّهُ بَهْرَجَةُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفُهَا، ذَكَرَ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” لِابْنِ الـجَوْزِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ كَانَ مَوْلَى لِابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ العِرَاقِ فَجَاءَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَهْدَيْتُ لَكَ هَدِيَّةً، قَالَ: وَمَا هِيَ؟، قَالَ: جَوَارِشٌ قَالَ: وَمَا جَوَارِشٌ؟، قَالَ: يُهْضِمُ الطَّعَامَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَلَأْتُ بَطْنِي طَعَامًا مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةٍ فَمَا أَصْنَعُ بِهِ، وَعَنْ نَافِعٍ (أَنَّهُ) قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ قَرَّبَهُ لِرَبِّهِ، وَمِمَّا يُظْهِرُ ذَلِكَ مَا فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ) قَالَ خَطَرَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ} [سُوْرَةُ ءَالِ عِمْرَانَ/ءَايَةُ:92] فَتَذَكَّرْتُ مَا أَعْطَانِي اللهُ فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي رُمَيْتَةَ فَقُلْتُ هَذِهِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ فَلَا أَعُوْدُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَكَحْتُهَا فَأَنْكَحَهَا نَافِعًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ.
لَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْسِرُ نَفْسَهُ وَيُخَالِفُ مَا تَمِيْلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَدَعْ وَقْتًا مِنْ عُمُرِهِ يَذْهَبُ سُدًى فَيَقُوْمُ بِاللَّيْلِ وَيَصُوْمُ بِالنَّهَارِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِوَافِرِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَتَجِدُهُ خَاشِعًا خَائِفًا خَاضِعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ مَرَّةً مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِيْنَ} حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَـمِيْنَ} فَيَبْكِي وَيَشْتَدُّ بُكَاؤُهُ وَيَحِنُّ حَتَّى لَا يَقْدِرُ عَلَى القِرَاءَةِ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ، وَلَرُبَّمَا سَمِعَ الآيَةَ فَيَبْكِي حَتَّى تَبْتَلَّ ثِيَابُهُ وَلِـحْيَتُهُ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ وَوَفْرَةِ عَبْرَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
عِلْمُهُ وَوَرَعُهُ:
لَا عَجَبَ بِالنِّسْبَةِ لِشَخْصٍ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَبْلُغَ فِي العِلْمِ رُتْبَةً عَظِيْمَةً حَتَّى يَكُوْنَ مُجْتَهِدًا مُفْتِيًّا مِنْ مَفَاتِي الصَّحَابَةِ الكِرَامِ، فَقَدْ أَفَاضَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ جَوَاهِرَ الـحِكَمِ وَجَمِيْلَ القَوْلِ وَرَوَى عِلْمًا كَثِيْرًا نَافِعًا عَنْ أَبِيْهِ الفَارُوْقِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ وَالسَّيِّدَةِ عَائِشَةَ إِضَافَةً إِلَى مَا رَوَاهُ مِنْ كَثْرَةِ أَحَادِيْثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعْدُوْدٌ مِنَ الرُّوَاةِ الـمُكْثِرِيْنَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْهُ كَثِيْرٌ مِنَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ وَاسْتَفَادُوْا مِنْهُ كَالـحَسَنِ البِصْرِيِّ وَثَابِتٍ البُنَانِيِّ وَسَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ كَثِيْرٌ.
وَفَاتُهُ:
لَقَدِ امْتَدَّ العُمُرُ بِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا حَتَّى جَاوَزَ الثَّمَانِيْنَ فَأَدْرَكَ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ وَشَهِدَ مَا رَافَقَ ذَلِكَ الـحُقُبَ مِنْ أَحْدَاثٍ وَفِتَنٍ، حَتَّى أَدْرَكَهُ الأَجَلُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِيْنَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ سَنَةٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَفِي أَسْبَابِ وَفَاتِهِ رُوِيَ أَنَّ الـحَجَّاجَ الثَّقَفِيَّ أَمَرَ بَعْضَ جُنُوْدِهِ فَأَخَذَ حَرْبَةً مَسْمُوْمَةً ضَرَبَ بِهَا رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ بَعْدَمَا رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ مَرَّةً وَهُوَ يَخْطُبُ بِالنَّاسِ فَمَرِضَ عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَانَتْ مِنْهَا وَدَخَلَ عَلَيْهِ الـحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ عَائِدًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ وَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْ، ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ فَاضَتْ رُوْحُهُ الكَرِيْمَةُ فَمَاتَ وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الـمُهَاجِرِيْنَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ وَمِثْلُهُ فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ.
خِتَامًا نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الاتِّبَاعِ وَأَنْ يَجْمَعَنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي الـجَنَّةِ وَلِلَّهِ الـحَمْدُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.