ظُهُورُ الْعَجَائِبِ عَلَيْهِ فِي صِبَاهُ وَبَدْءُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ
لَمَّا وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ظَهَرَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذَا الْمَوْلُودِ وَلِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ جَعْلِهِ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَإِلَى الشَّرْعِ الْقَوِيـمِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَصْبَحَتِ الأَصْنَامُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي زَمَانِ وِلادَتِهِ بِكُلِّ أَرْضٍ مَقْلُوبَةً مَنْكُوسَةً عَلَى رُءُوسِهَا فَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ وَرَاعَهَا فَلَمْ يَدْرُوا مَا سَبَبُ ذَلِكَ، فَسَارُوا عِنْدَ ذَلِكَ مُسْرِعِينَ حَتَّى جَاءُوا إِبْلِيسَ اللَّعِينَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَطَارَ إِبْلِيسُ فَمَرَّ بِالْمَكَانِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمَّا رَأَى الْمَلائِكَةَ مُحْدِقِينَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدَثَ بِسَبَبِ وِلادَةِ ذَلِكَ الْمَوْلُودِ، فَأَرَادَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَلَمْ تُمَكِّنْهُ الْمَلائِكَةُ مِنَ الدُّنُوِّ مِنْهُ.
وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْلُودُ الرَّضِيعُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْهَيْكَلِ فَخُتِنَ لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنَ الْفِطْرَةِ وَهُوَ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَسَمَّتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلامُ مَوْلُودَهَا «عِيسَى» كَمَا أَمَرَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ بَشَّرَهَا بِهِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْعَجَائِبُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَفَشَا أَمْرُهُ بَيْنَ الْيَهُودِ أَرَادُوا بِهِ سُوءًا وَأَغْرَوْا مَلِكَ الرُّومِ هِيرُودُس بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ أُمُّهُ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلامُ بِمُؤَامَرَةِ الْيَهُودِ خَافَتْ عَلَيْهِ وَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى مِصْرَ وَهِيَ الرَّبْوَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/50] أَخَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأُمَّهُ مَرْيَمَ ءَايَةً لِلنَّاسِ أَيْ عَلامَةً وَحُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنَّهُ ءَاوَى عَبْدَهُ عِيسَى وَأُمَّهُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِلَى رَبْوَةٍ مِنَ الأَرْضِ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ، وَهِيَ عَلَى أَحَدِ الأَقْوَالِ بِلادُ مِصْرَ الَّتِي قَصَدَتْهَا مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلامُ حَامِلَةً مَوْلُودَهَا عِيسَى الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَتَرَعْرَعَ هُنَاكَ وَنَشَأَ وَعَاشَ بَيْنَ رُبُوعِهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ فَجَعَلَ لا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ.
يُقَالُ إِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ مَلِكِ الرُّومِ هِيرُودُس أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي فِلَسْطِينَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ خَالَةِ أُمِّهِ يُوسُفُ النَّجَّارُ فَحَمَلَهُ وَأُمَّهُ عَلَى حِمَارٍ حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: نَزَلَ هُوَ وَأُمُّهُ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَة وَبِهَا سُمِّيَتِ النَّصَارَى. وَلَمَّا بَلَغَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الثَّلاثِينَ مِنَ الْعُمُرِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَبْرُزَ لِلنَّاسِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَءَامِنُوا بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَآمَنَ بِهِ اثْنَا عَشَرَ شَخْصًا يُسَمَّوْنَ الْحَوَارِيِّينَ فَأَخَذَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يُوَزِّعُهُمْ فِي نَوَاحِي الأَرْضِ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَنَشْرِ دِينِ الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ دِينُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ، وَقَدْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَشْفِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمَرْضَى حَتَّى أَحَبَّهُ النَّاسُ وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ وَعَلا ذِكْرُهُ وَشَأْنُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقْضِي أَيَّامَهُ فِي التَّجْوَالِ وَالسِّيَاحَةِ فِي الأَرْضِ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى دِينِ الإِسْلامِ.
الإشعارات