الجمعة أبريل 19, 2024

طَلاقُ الغَضبانِ في مِيزانِ الشّريعة

الحمدُ للهِ وصلَّى الله وسلَّمَ على رسولِ الله وعلى ءالِهِ وصحبِه ومَن والاهُ وبعدُ، فإنّ الله تعالَى حذَّر مِن الفتوَى بغيرِ عِلمٍ، قال تعالَى ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ وقال أيضًا ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ وقال رسولُ الله ﷺ (مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ الْأَرْضِ) رواهُ ابنُ عساكرَ وغيرُه.

مِمّا يتكلَّم كثيرٌ مِن النّاسِ في هذا الزّمانِ بغيرِ عِلمٍ مسائِلُ النّكاحِ والطَّلاق، حتّى إنّكَ تجِدُ أحدَ العامّةِ الجُهّالِ يتكلَّم في نَفيِ وقوعِ ما يقعَ مِن الطّلاقِ إجماعًا أو تصحيحِ نِكاحٍ لا يصحُّ اتّفاقًا ويُجاهِرُ بقولِه (هذا رأيِي) مع أنّ دِينَ اللهِ ليسَ مجرَّدِ الرأيِ والهَوَى، وأعجَبُ مِن هؤلاءِ قومٌ تصدَّروا للإفتاءِ مِمّن ليسَ أهلًا للفَتوَى، يملؤونَ الفضائيّاتِ ومواقع الأنترنات وما يُعرَف بوسائل التّواصل الاجتماعيّ، يخرُجون إلى النّاس بفتاوَى ما أنزلَ الله بِها مِن سُلطانٍ لا سيّما في أمورِ التّحليل والتّحريم، فَمِن ذلكَ قولُ بعضِ الجهلَةِ مِن المتزيِّين بزِيّ المشايِخ (بعدَمِ وقوعِ طلاقِ الغضبانِ مطلقًا) وهذا القولُ مردودٌ:

1) فإنْ كانَ في حالةٍ مِن الغضَبِ بحيثُ يَعِي ما يقولُ، لَم يصدُر منهُ ذلكَ عَن سبقِ لِسانٍ أي بلا إرادة، وكانَ الخارِجُ مِنهُ شىءٌ اتُّفِقَ على وقوعِ الطّلاقِ بهِ نحو قولِه لزوجتِه: المخاطَبةِ (أنتِ طالقٌ)، فهذا طلاقُهُ واقِعٌ لا رَيبَ وعبارَتُه نافِذةٌ.

2) وإنْ كانَ في حالةٍ مِن الغضَبِ بحيثُ صارَ كالمجنونِ الّذي لا يَعلَمُ ما يقولُ ولا يقصِدُه أو أنّه سبَق لِسانُه مِن شِدّة الغضَبِ غيرَ قاصِدٍ لِما يقولُ، فهذا لا رَيبَ أنّ طلاقَهُ لا يقَعُ.

وهذه الفتوَى هي ما عليه فقهاءُ المذاهِب الأربعةِ، وعليها نصَّ ابنُ عابدِين الحنفيّ في حاشيته، وقال الصّاوي في حاشيته على شرح الدّردير (يَلزمُ طَلاقُ الغَضْبانِ ولو اشتَدَّ غَضَبُه خلافًا لبَعضِهم، ودعوَى أنّه مِن قَبِيل الإكراهِ باطِلٌ، وكُلُّ هذا ما لَم يَغِبْ عَقلُه بحيثُ لا يَشعُر بما صَدَر منه فإنه كالمَجنُون)، وقال ابنُ حجَرٍ الهيتميّ في التُّحفة (معَ الخبَرِ الصّحِيحِ أيضًا (لا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ) وَفَسَّرَه كثِيرُونَ بالإِكْراهِ، كأنّه أُغلِقَ علَيهِ البابُ أو انغَلَقَ علَيه رأيُه، ومنَعُوا تَفسِيرَه بالغَضَب للاتِّفاق على وقوعِ طَلاقِ الغَضْبانِ، قال البيهقي (وأفتَى بِه جَمعٌ مِن الصَّحابةِ ولا مُخالِفَ لهم مِنهُم)) وخالَفَ ابنُ قيّم الجوزيّة المجسِّمُ تلميذُ ابن تيميةَ شيخِ المجسِّمة في هذه المسألة، لكن رَدَّ ذلكَ الحنابلةُ ولم يُقِرُّوه عليه، أثبتَ ذلكَ عبد الرحمن الجزِيريّ في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة.

وأمّا حديثُ (لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقِ) فهو محمولُ على الإكراهِ لا على الغَضبِ، وإلى هذا المعنَى ذهبَ مِن الحنفيّة القُدُوريّ في التّجريد ونجم الدين النسَفِي في طِلبة الطَّلَبة وابن الجوزيّ في غريب الحدِيث وغيرُهم، ومِن المالكيّة القاضي عبد الوهاب في الإشراف واللَّخميّ في التّبصرة والقَرافي في الذّخيرة والزّرقاني والخرشيّ والدّردير في شرح مختصر خليل وغيرُهم، فقد قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي (422 هـ) في الإشراف على نكت مسائل الخلاف، كتاب الطلاق، مسألة: طلاق المكره غير واقع خلافاً لأبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وقوله صلى الله عليه وسلم (لا طلاق في إغلاق) وقال أبو عبيد الإغلاق الإكراه ولأنه لفظ حمل عليه بغير حق فلم يلزم به طلاق، أصله إذا أكره على الإقرار بالطلاق وهذه عبارة أصحابنا، وأسد منها عندي أن يقال لأنه لفظ لو عري من الإكراه للزم به الطلاق، فإذا وجد مع الإكراه لم يلزم به، أصله لفظ الإقرار بالطلاق ولأن كل حال لم يثبت معها حكم الإقرار بالطلاق لم يثبث معها حكم إيقاعه كالصغير والمجنون ولأنه معنى يؤثر في البينونة، فإذا وجد التلفظ مع الإكراه لم يكن له حكم، أصله الإرتداد، ولأن كل عقد ينفي الإكراه لزوم الإقرار به، كذلك ينفي لزوم إنشائه كالبيع) انتهى كلام القاضي، ومِن الشّافعيةّ الرُّويانيّ في بحر المذهَب والرّافعيّ في شرح الوجِيز وابن الرِّفعة في كفاية النَّبِيه والإسنوي في المُهِمّات والسّراجُ البلقينيّ في عُجالة المحتاج وغيرُهم.

فظهر لطالبي الحقّ أنّه لا يجوزُ إفتاءُ النّاسِ بأنّ طلاقَ الغضبانِ لا يقَع مُطلَقًا لا سيّما وأنّ أكثَر مَن يسألُ عن طلاقِ الغضبانِ يُريدُ بذلكَ الّذي غَضِبَ فتسرَّعَ وأوقعَ الطّلاقَ على زوجتِه بإرادَتِه واختيارِه.

وسُبحان اللهِ، والحمدُ لله، والله تعالَى أعلَم.