صِحَّةُ الْعَقِيدَةِ شَرْطٌ لِلثَّوَابِ عَلَى الأَعْمَالِ
قَالَ الإِمَامُ الْهَرَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ صَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى ءَالِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [سُورَةَ هُود] جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِى شَرْحِ مَعْنَى الآيَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ فِى الْيَوْمِ أَلْفَ حَسَنَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ بِهِنَّ أَلْفُ حَسَنَةٍ وَيُمْحَى عَنْهُ بِهِنَّ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» فِى هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْحَسَنَةَ الْوَاحِدَةَ تَمْحُو عَشَرَةً مِنَ السَّيِّئَاتِ، هَذَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ وَقَدْ تَمْحُو الْحَسَنَةُ الْوَاحِدَةُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمِائَةَ تَسْبِيحَةٍ يَكُونُ ثَوَابُهَا أَلْفًا مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُمْحَى عَنْ قَائِلِ هَذِهِ الْمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ أَلْفُ خَطِيئَةٍ أَىْ مَعْصِيَةٍ، وَلَمْ يُقَيِّدْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْخَطِيئَةَ بِأَنَّهَا مِنَ الصَّغَائِرِ فَنَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَمْحُوَ اللَّهُ بِالْحَسَنَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ فِى فَضْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ تُمْحَى عَنْهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ بِهَا مَا سِوَى الْكَبَائِرِ إِنْ لَمْ يَغْشَ الْكَبَائِرَ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ مُطَّرِدًا فِيمَا سِوَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ «مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ يُغْفَرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ يُمْحَى مِنَ الْكَبَائِرِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُمْحَى بِالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ بَعْضُ الْكَبَائِرِ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِى حَدِيثُ «مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ يُغْفَرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنُ الإِسْنَادِ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الأَمَالِىِّ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِى حَكَمَ لَهَا بِالْحُسْنِ لَيْسَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ وَبِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِبَ صَلاةِ الْفَجْرِ بَلْ هِىَ مُطْلَقَةٌ.
أَىَّ وَقْتٍ قَالَ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ قَدِ ارْتَكَبَ بَعْضَ الْكَبَائِرِ. ثُمَّ اللَّفْظُ يُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ الْحَىَّ الْقَيُّومَ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ النَّحْوِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ يُمْحَى بِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ مَا لَيْسَ مِنْ تَبِعَاتِ النَّاسِ أَىْ مِنْ مَظَالِمِ النَّاسِ أَىْ أَنَّ الْمَظَالِمَ لا تَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ كُلُّ هَذَا شَرْطُهُ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِىَ أَنْ يَقْصِدَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ رِيَاءٌ أَىْ أَنْ يَمْدَحَهُ النَّاسُ، إِنَّمَا قَصْدُهُ خَالِصٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ وَهَكَذَا كُلُّ الْحَسَنَاتِ قِرَاءَةُ الْقُرْءَانِ وَالصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالإِنْفَاقُ عَلَى الأَهْلِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ لا ثَوَابَ فِيهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالنِّيَّةُ هِىَ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ أَفْعَلُ هَذَا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ أَوِ ابْتِغَاءَ الأَجْرِ مِنَ اللَّهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ قَصْدَ مَدْحِ النَّاسِ لَهُ وَذِكْرَهُمْ لَهُ بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ إِنَّمَا قَصْدُهُ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ بِهَذَا التَّسْبِيحِ أَوْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْءَانِ أَوْ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ أَوْ بِفَرَائِضِهِ الَّتِى يَفْعَلُهَا كَالصَّلاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاَةِ. كُلُّ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا رِيَاءٌ فَلِفَاعِلِهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ أَىْ أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ تُكْتَبُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا عَلَى الأَقَلِّ وَقَدْ يَزِيدُ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مَا شَاءَ مِنَ الْمُضَاعَفَاتِ، ثُمَّ هُنَاكَ شَرْطٌ لا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ صِحَّةُ الْعَقِيدَةِ، صِحَّةُ الْعَقِيدَةِ شَرْطٌ لِلثَّوَابِ عَلَى الأَعْمَالِ فَلا ثَوَابَ عَلَى الأَعْمَالِ بِدُونِ صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ.
وَمَعْنَى صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَجِبُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ بَلِ الأَصْلُ الَّذِى هُوَ لا بُدَّ مِنْهُ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ فِى الآخِرَةِ وَلِحُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى الأَعْمَالِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّبَاتُ عَلَى الإِسْلامِ أَىْ تَجَنُّبُ الْكُفْرِيَّاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، فَمَنْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا إِلَى الْمَمَاتِ كَانَتْ كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ مِنَ الْفَائِزِينَ النَّاجِينَ الْمُفْلِحِينَ.
مَعْنَى صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ الَّتِى هِىَ مَأْخُوذَةٌ عَنِ الرَّسُولِ تَلَقَوْهَا عَنِ الرَّسُولِ ثُمَّ تَلَقَّاهَا التَّابِعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ تَلَقَّاهَا الْمُسْلِمُونَ جِيلًا عَنْ جِيلٍ. وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَوْجُودَةٌ وَإِنِ انْحَرَفَ عَنْهَا بَعْضُ الْفِئَاتِ، هَذِهِ الْعَقِيدَةُ الَّتِى كَانَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ هِىَ الأَشْعَرِيَّةُ الْمَاتُرِيدِيَّةُ. وَالْيَوْمَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِنْ لَمْ نَقُلْ كُلُّهُمْ أَغْلَبُهُمْ أَشْعَرِيَّةٌ، كَانَ فِى الْمَاضِى الْمَاتُرِيدِيَّةُ فِى نَوَاحِى بِلادِ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَطَشْقَنْدَ وَجُرْجَانَ وَنَيْسَابُورَ مِنْ بِلادِ فَارِس لَكِنَّهُ الْيَوْمَ كَأَنَّ الأَشْعَرِيَّةَ عَمَّتْ.
وَالأَشْعَرِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَقِيدَتُهُمْ مُنْبَثِقَةٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى] عَرَفُوا مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ كَمَا يَجِبُ فَنَزَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَنِ التَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَعَنِ الْحَدِّ أَىِ الْمِسَاحَةِ لِأَنَّهُ لا تَصِحُّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ يُشْبِهُ خَلْقَهُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِمْ كَالتَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ أَوِ التَّحَيُّزِ فِى الْعَرْشِ أَوْ فِى غَيْرِ الْعَرْشِ أَوِ التَّحَيُّزِ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ، كُلُّ هَذَا ضِدُّ هَذِهِ الآيَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾. فَخُلاصَةُ عَقِيدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ أَىْ لا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، السَّلَفُ الصَّالِحُونَ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَىْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ التَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَالْحَدِّ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الإِمَامَ زَيْنَ الْعَابِدِينَ عَلِىَّ بنَ الْحُسَيْنِ بنِ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ أَوَائِلِ السَّلَفِ لَهُ رِسَالَةٌ تُسَمَّى الصَّحِيفَةَ السَّجَّادِيَّةَ ذَكَرَ فِيهَا عِبَارَاتٍ فِى التَّنْزِيهِ مِنْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ «سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِى لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ»، فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِى هِىَ تَأْلِيفُ سَيِّدِنَا زَيْنِ الْعَابِدِينَ «سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِى لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ» احْفَظُوهَا فَإِنَّهَا مِنْ كَلامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. كَانَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَالُ عَنْهُ أَفْضَلُ قُرَشِىٍّ فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ أَيْضًا فِى نَفْىِ الْحَدِّ عَنِ اللَّهِ «سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِى لَسْتَ بِمَحْدُودٍ» وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ حَدَّهُ، اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ مِسَاحَةٌ لَيْسَ بِقَدْرِ الْعَرْشِ وَلا أَوْسَعَ مِنْهُ وَلا أَصْغَرَ مِنَ الْعَرْشِ. مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ بِقَدْرِ الْعَرْشِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِاللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْهُ مِسَاحَةً فَهُوَ جَاهِلٌ بِاللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَصْغَرُ مِنَ الْعَرْشِ فَهُوَ أَشَدُّ جَهْلًا وَبُعْدًا عَنِ اللَّهِ. ثُمَّ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ الَّذِى عَاشَ فِى الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِىِّ عَشَرَاتٍ مِنَ السِّنِينَ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَدْرَكَ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِى يَلِيهِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِىِّ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً وَنَيِّفًا، هَذَا أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ بَيَانَ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِى كَانَ عَلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ الَّذِى تُوُفِّىَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَصَاحِبَاهُ اللَّذَانِ تُوُفِّيَا بَعْدَهُ بِعَشَرَاتٍ مِنَ السِّنِينَ فِى الْقَرْنِ الثَّانِى الْهِجْرِىِّ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بنُ الْحَسَنِ وَهُمْ مِنَ الأَئِمَّةِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَمَنْ سِوَاهُمْ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ مِنَ الأَئِمَّةِ وَغَيْرَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ وَلا مُتَحَيِّزًا فِى الْجِهَاتِ، لا فِى الْجِهَةِ الْعُلْيَا وَلا فِى الْجِهَةِ التَّحْتِيَّةِ وَلا فِى جِهَةِ الْيَمِينِ وَلا فِى جِهَةِ الْيَسَارِ وَلا فِى جِهَةِ الْخَلْفِ وَلا فِى جِهَةِ الأَمَامِ قَالَ «تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ» اللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُودِ أَىْ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ، الْعَرْشُ مَحْدُودٌ لَكِنْ نَحْنُ لا نَعْرِفُ حَدَّهُ لَكِنْ هُوَ فِى حَدِّ ذَاتِهِ مَحْدُودٌ لَهُ حَدٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِمَحْدُودٍ لا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ لَهُ حَدٌّ يَعْلَمُهُ هُوَ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ حَدٌّ يَعْلَمُهُ هُوَ وَنَعْلَمُهُ نَحْنُ، كِلا ذَلِكَ بَاطِلٌ. الْحَقُّ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ الْحَدُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِى لَهُ حَدٌّ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ.
هَذِهِ الشَّمْسُ نَحْنُ لَنَا دَلِيلٌ عَقْلِىٌّ غَيْرُ الدَّلِيلِ الْقُرْءَانِىِّ أَنَّهَا لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لِلْعَالَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا فَلَهَا خَالِقٌ جَعَلَهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ لَهُ حَدٌّ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ كَمَا تَحْتَاجُ الشَّمْسُ إِلَى مَنْ جَعَلَهَا عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِى هِىَ عَلَيْهِ، فَقَدْ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الْحَدَّ وَالْجِهَةَ أَىِ التَّحَيُّزَ فِى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ أَوْ فِى جَمِيعِهَا وَسَائِرِ أَوْصَافِ الْخَلْقِ.
إِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذَا مِمَّا تُعْطِيهِ هَذِهِ الآيَةُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لَكِنِ الْقُلُوبُ مُخْتَلِفَةٌ، قُلُوبٌ تَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ الْمَعَانِى وَقُلُوبٌ لا تَفْهَمُ تَقْرَأُهَا أَلْسِنَتُهَا وَلا تَفْهَمُ مَا تَحْوِيهِ مِنَ التَّنْزِيهِ، هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، لَيْسَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّ لَهُ أَعْضَاءً وَأَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ عَلَى الْعَرْشِ مَعَ أَنَّهُ مَنْفِىٌّ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالنُّزُولِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى هُنَاكَ.
بَعْضُ الْجَاهِلِينَ بِالْحَقَائِقِ يَظُنُّونَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ يُونُس] يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ نَزَلَ مِنَ الْعَرْشِ الَّذِى هُوَ مُسْتَقَرُّهُ إِلَى أَسْفَلَ فَهَيَّأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ثُمَّ صَعِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، هَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ بِالْقُرْءَانِ، إِنَّمَا مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ أَىْ قَاهِرًا لِلْعَرْشِ قَبْلَ وُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَعَلَى زَعْمِهِمْ كَلِمَةُ ثُمَّ لا تَأْتِى إِلَّا بَعْدَ تَأَخُّرِ حُصُولِ شَىْءٍ عَنْ شَىْءٍ وَهَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ. ثُمَّ تَأْتِى بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَلِمَةُ ثُمَّ تَأْتِى مُرَادِفَةً لِلْوَاوِ كَمَا تَأْتِى لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا وُجُودُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا تَأْتِى لِهَذَا الْمَعْنَى مَعْنَى التَّأَخُّرِ تَأْتِى لِمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِمَعْنَى الإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ شَيْئَيْنِ فِى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ دِلالَةٍ عَلَى تَأَخُّرِ مَا بَعْدَهَا عَنْ مَا قَبْلَهَا. هَذَا أَثْبَتَهُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ قَالَ ثُمَّ تَأْتِى بِمَعْنَى الْوَاوِ، ثُمَّ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدٌ مِنَ الْقُرْءَانِ وَشَاهِدٌ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَنْ سَلِيقَةٍ وَطَبِيعَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْرُسُوا النَّحْوَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
هَلْ يَصِحُّ أَنْ تُفَسَّرَ ثُمَّ هُنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا بَعْدَهَا عَنْ مَا قَبْلَهَا فِى الْوُجُودِ، لا تَدُلُّ، كَذَلِكَ فِى هَذِهِ الآيَةِ ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ يُونُس] لا تَدُلُّ ثُمَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ وُجِدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ صَعِدَ إِلَى الْعَرْشِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا يَزْعُمُ الْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ حُرِمُوا مِنْ فَهْمِ الدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، الْعَقْلُ لَهُ اعْتِبَارٌ فِى الشَّرْعِ لِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّفَكُّرِ فِى أَكْثَرِ مِنْ ءَايَةٍ. وَالتَّفَكُّرُ هُوَ النَّظَرُ الْعَقْلِىُّ هَؤُلاءِ حُرِمُوا مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِى يُعْرَفُ بِهَا مَا يَصِحُّ وَمَا لا يَصِحُّ، مِثَالٌ لِذَلِكَ يُبَيِّنُ سَخَافَةَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِى اللَّهِ التَّحَيُّزَ فِى الْمَكَانِ وَالْحَدَّ وَالْمِسَاحَةَ هُوَ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ حَدِيثَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِى النِّصْفِ الأَخِيرِ» وَفِى لَفْظٍ «فِى الثُّلُثِ الأَخِيرِ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَهَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ وَهَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ إِسْنَادًا. ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى زَعْمِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يَبْقَى فِى الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى الْفَجْرِ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا الْكَلامَ، فَهْمُهُمْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الْبِلادِ، فَاللَّيْلُ فِى أَرْضٍ نَهَارٌ فِى أَرْضٍ أُخْرَى وَنِصْفُ اللَّيْلِ فِى أَرْضٍ أَوَّلُ النَّهَارِ فِى أَرْضٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلافَاتِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا طَالِعًا مِنْهَا إِلَى الْعَرْشِ فِى كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هَذِهِ سَخَافَةُ عَقْلٍ.
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الأَمِينِ وَءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ.