الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله أمّا بعد صيامُ رمضان مِنْ أعظمِ أمورِ الإسلامِ الخمسة، كما جاء فِى الحديث: “بُنِىَ الإسلامُ على خمس” وَعَدَّ منها صومَ رمضان. ورمضانُ هو أفضلُ شهورِ السَّنَةِ، يجبُ صومُهُ على كلِّ مسلمٍ مكلّف. ولا يجبُ على الكافِرِ وجوبَ مُطالبةٍ فِى الدنيا وإن كان يعاقَبُ على تركِهِ فِى الآخرة. ولا يصحُّ صومُ رمضانَ من حائضٍ ولا نُفساء، وإن كان لا يجبُ عليهِمَا تَعَاطِى مُفَطّـِرٍ فى خلال نهارِ رمضان، لكن حرام أن يُمسِكَا بنيةِ الصّيام، فلو تَرَكَا الأكلَ والشربَ لا بنيةِ الصومِ فلا إِثْمَ عليهما. ويجبُ عليهما القضاءُ بعدَ ذلك. وهكذا أيضًا حكمُ من أفطرَ فِى رمضانَ لِعُذْرٍ، إلا من أَفْطَرَ لِكِبَر أو مرضٍ لا يُرجَى بُرْءُه فإنه لا يجب عليه أن يقضِىَ بعد ذلك، وذلك كالمصابِ بالفالِجِ فإنه لا يُرجَى بُرْءُه أي شفاؤه.
وإنما يجبُ صومُ رمضانَ بأحدِ أمرين برؤيةِ الهلال أو باستكمالِ شعبانَ ثلاثين، فإذا شَهِدَ عَدْلٌ أنّه رأى هلالَ رمضانَ، أى شاهد هلالَ رمضانَ بعدَ غروبِ شمسِ التاسِعِ والعشرينَ من شعبان، كان اليومُ التالِى أولَ أيامِ رمضان. فإن لَم يَحصل ذلك فاليومُ التالى هو الثلاثونَ من شعبان والذى بعدَه أولُ أيّامِ رمضان.
وليعلم أنّ المسافرَ إذا كان يَقصِدُ مسافةَ قصرٍ بسفره، وهى مرحلتان، يجوزُ له الفِطْرُ فى رمضان. والمرحلةُ ثمانيةُ فَرَاسِخ، والفرسخُ ثلاثَةُ أميال، فمرحلتانِ تكونانِ ثمانِيَةً وأربعينَ ميلًا، والميلُ ستةُ ءالافِ ذراع فتكون مسافة القصر مائتين وثمانية وثمانين ألف ذراع. فإذا كان إنسانٌ مسافرًا سفرًا غيرَ قصيرٍ أى مرحلتينِ فأكثرَ يجوزُ له الفطرُ بسبب ذلك فى رمضان ولو لم يشقّ عليه الصوم، بشرط أن يكون سفرُهُ فِى غيرِ معصيةٍ، وبشرطِ أن يكونَ خَرَجَ من بلدِهِ قبْلَ الفجرِ.
وليعلم أنّ المريضَ يجوز له أن يُفطرَ إذا كان مرضُهُ شديدًا، يعنِى إذا كان بسببِ الصومِ تَطُولُ مدةُ مرَضِهِ، أو يَهْلَكُ، أو يَتْلَفُ عضوُهُ، أو نحوُ ذلك. فإذا كان يضرُهُ الصيام يجوزُ له أن يُفْطِر. ويجوزُ الفطرُ للحامِلِ والمرضِعِ إنْ شقَّ عليهما الصومُ، يعنِى إذا خافَتَا على نفسيهِمَا أو خافتا على ولديهِمَا أو خافتا على نفسيهما وعلى ولدَيهِمَا، مثلُ أن تخافَ الحامِلُ أن يُجْهَضَ الولدُ، أو خافَت الْمُرضِع أن ينقطِعَ لبَنُهَا أو يخِفَ بحيثُ يتضَرَّرُ الولد. فى هذه الأحوال يجوزُ للحامل والمرضع الفِطرُ، وعليهما القضاءُ. وإن أفطرتا فقط خوفًا على الولدِ فعليهما معَ القضاءِ الفدية. والفديةُ هِى مُدٌّ مِنْ غالِبِ قُوتِ البلَدِ عن كُلِّ يوم.
و يُشترَطُ لصحةِ الصومِ إيقاعُ نية صيام يوم رمضان فى الليل أى فى الليلة التى تسبق نهار الصوم. والليلُ ابتداؤُه من الغروبِ وانتهاؤه بالفجرِ. فلو لم ينوِ فى الليل بالمرّة ثم نوى بعدَ الفجر صومَ ذلك اليوم من رمضان لم يصحَّ منه، وهذا فى الصومِ الواجب. وأمّا النفلُ فيصحُ أن ينوِىَ الصيامَ فيهِ قبلَ الزوال أي قبل دخول وقت الظهر. ولو أنّ الإنسان أَكَلَ عندَ السَّحُورِ لأجلِ أنّه يريد أن يصومَ اليومَ التالِى من رمضان فهذِه نية، فنسيانُ النيّةِ فِى رمضانَ لا يحصُلُ حقيقةً إلا نادرًا.
و لا بدّ أن يُعَـيّنَ الصومَ الذى يُعَلّقُ نيَّتَهُ به، يعنى لا بدّ أن يعيّن أنّه يصوم غدًا من رمضان أو أنّه يصوم عن نَذر أو أنّه يصومُ عن كفّارة، فلا بدّ من تعيينِ ذلك وإن كان لا يُشتَرَطُ أن يُعَيـّنَ سَبَبَ الكفّارة أو نوعَهَا.
ومِنْ شروطِ صحةِ الصيامِ الإمساك فِى نهار رمضان عن الاستمناءِ وهوَ استخراجُ المنِىِّ بنحوِ اليدِ وعن الجماعِ. فإن جامع فى النهار فَسَدَ صومُهُ، إلا إذا كان ناسيًا، أو كان جاهلًا بحرمَةِ ذلك لكونهِ مثلا قريبَ عهدٍ بالإسلام أو نحوَ ذلك فإنَّ صومَه لا يفسُدُ فى هذِهِ الحال. وليعلم أنّ الاستمناء فِى نهارِ رمضان مُفَطّـِرٌ أيضا.
و مِنْ شروطِ صحةِ الصيامِ الإمساك فِى نهار رمضان عن الاستقاءَةِ. فمن تَعَمَّدَ الاستقاءةَ أى مَن طلبَ القىءَ بنحوِ إدخالِ إصبعِهِ وما شابه فاستقاء فإنّه يُفْطِرُ بذلك. وأمّا إنْ غَلَبَهُ القَىءُ من غيرِ طلب منه فلا يُفْطِر، طَالَمَا لَم يَبْلَع شيئًا من القىء الخارج.
وليعلم يا أحبابنا أنّ مَنِ ارتَدَّ فَسَدَ صيامُهُ، فيجبُ عليه أن يرجِعَ فورًا إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، وأن يَكُفَّ باقِىَ النهار عنِ المفطراتِ، ثم يَقضِى هذا اليوم فورًا بعدَ العيد، سواءٌ كان كفرُهُ بالقلبِ كاعتقادِ أنّ الله يلد أو يولد أو بالجوارحِ كالدوس عمدًا على لفظ الجلالة الله أو باللسانِ كسبّ الله والعياذ بالله تعالى.
واعلموا يا أحبابنا أنَّ مَن تَعَمَّدَ إدخالَ شىءٍ إلى الجوف (وهو ما تحت الحلق) أو إلى داخلِ الرأس من مَنْفَذٍ مفتوح وكان هذا الشىء له حجم أَفْطَرَ، إلا إذا بلعَ من داخلِ فَمِهِ ريقَهُ الخالصَ يعني الغير مخلوطِ بشىءٍ ءاخر وهذا الريق كان طاهرًا غيرَ متنجس فلا يُفْطِر. والقاعدةُ أنَّ مَخْرَجَ الحاءِ هو من الجوفِ فما كان فوقَ مخرج الحاء فليس هو مِنَ الجوفِ. فإذا خَرَجَ البلغَمُ فجاوَزَ مَخْرَجَ الحاءِ يكونُ خَرَجَ عن الجوف صار فى الفم، فإذا بلعَهُ بعد ذلك عامدًا يكون قد أَفطر. والفم يُعَدُّ من الشفتين إلى مخرجِ الحاء، وعلى قولٍ من الشفتين إلى مخرج الهمزَةِ والأَلِفِ. فإذا دخل إلى الجوفِ أو إلى داخل الرأسِ شىءٌ ذو حجمٍ من مَنْفَذٍ مفتوحٍ عَمْدًا غيرَ الريقِ الخالصِ الطاهرِ من معدِنِه فَسَدَ الصومُ. والمنفَذُ المفتوحُ مثلُ الأنفِ والدُّبُرِ والفَمِ، وأمّا العينُ فليست منفَذًا مفتوحًا. فلو قَطَرَ فِى عَينِهِ فأَحَسَّ بالطعمِ فِى حَلْقِهِ لا يُفْطِر. ولا يُفْطِرُ بالإِبرة فى الجلد ولا فى الشريان ولا فى العضل. وأما الأُذُنُ ففى كونِهَا منفَذًا مفتوحًا خلاف بين العلماء.
واعلموا يا إخواننا أنّ الشخص إذا جُنَّ لحظةً واحدةً فى خلال نهار رمضان فسد صومُه فورًا. وإذا أُغمِىَ عليه كلَّ اليومِ فَسَدَ صومُهُ أيضًا، لا إن أُغْمِىَ عليه ساعةً أو ساعتين أو ثلاثَ ساعات أو أربعَ ساعات بحيثُ لم يستغرقِ الإغماءُ كلَّ النهار فإنّه لا يفسُدُ صومُهُ فى هذه الحال. وأمّا لو نام كلَّ النهار فصيامُهُ صحيح.
واعلموا يا إخواننا أنّ صومَ يومِ العيدِ عيدِ الفطر أو الأضحى حرامٌ ولا يصح. وكذلك صومُ الأيامِ الثلاثةِ التى تَلِى عيدَ الأضحى، فإنّ ذلك لا يجوزُ ولا يَصِحُّ.
وكذا لا يصح صومُ النصفِ الثانِى من شعبان ولا يجوزُ، إلا إذا وصلَهُ الشخصُ بما قبلَهُ. فإذا صامَ الخامسَ عشر ثم أكملَ فصامَ النصف الثانى من شعبان يجوزُ ذلك، أو إذا صامَ فيه لأجلِ قضاءٍ يجوزُ ذلك ولو لم يصلْهُ بما قبلَهُ، أو صام عن نذرٍ، كأن نذرَ أن يصومَ كلّ اثنين فيجوز له لو كان فى النصف الثانى. وكذلك لو كان له وِرْدٌ أن يصوم كلَّ اثنين وخميس مثلًا فدخل النصفُ الثانى من شعبان يجوز له أن يصوم، وذلك لأنَّ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام نَهَى عن صومِ النصفِ الثانِى من شعبانَ إلا صيامًا كان يَصُومُهُ الشخصُ قبلَ ذلك يعنى إلا إذا كان له وِرْدٌ فإنّه يجوزُ عند ذلك. ومما يحرُمُ صومُهُ أيضًا يومُ الشَكِّ، ويكونُ يومُ الشكِّ إذا تحدَّثَ بعضُ الناس مِمَّن لا يثبُتُ دخولُ رمضانَ بقولِهِم أنهم رأوا الهلال بعد غروبِ شمس التاسع والعشرين فإنَّ اليومَ التالىَ يكونُ يومَ الشكِّ. هو يكون فى هذه الحال الثلاثين من شعبان لكن يُسمَّى يومَ الشك، لأنّ مَن لا يثبتُ الشهرُ بقولهم قالوا إنهم رأو الهلال، وذلك مثلُ النساء والصبيان الصغار وغيرِ العَدل. والعدل هو المسلم الذى اجتنبَ الكبائِر ولم يُصِرَّ على الصغائر وتخَلَّقَ بأخلاقِ أمثالِه أى التزم بمروءَةِ أمثالِهِ واجتنبَ خوارِمَ المروءة، فلا يُكثِرُ من لَعِبِ الشطرنج مثلًا، ولا يَشتغِلُ بتَطْيِير الحمام، ولا يشغَلُ كلَّ وقتِه بالروايات المضحكة التى لا منفعة فيها وإن لَم يكن فيها معصية، فإنّ الذي لا يلتزم ما ذُكر ولو لم يكن ءاثمًا لا تُقْبَلُ شهادَتُهُ، فلو تحدَّث أنّه رأى الهلال لا يَبْنِى القاضِى على كلامه. ويكونُ اليومُ التالى الثلاثين من شعبان لكن يسمَّى يومَ الشك، ولا يجوزُ صومُه لأن عمارَ بنَ ياسر قال: من صام يوم الشكّ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقى. والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.