الجمعة ديسمبر 12, 2025

صفة الجنة

   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين.

   أما بعد فقد قال الله تعالى في القرءان الكريم ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ فالجنة يجب الإيـمان بها وأنها مخلوقةٌ الآن كما يفهم ذلك من قوله تعالى ﴿أعدت للمتقين﴾ ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء». والجنة لها ثمانية أبواب منها باب الريان الذي يدخل منه الصائمون، ومكانها فوق السماء السابعة كما في الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي في دلائل النبوة، وهي ليست متصلة بالسماء السابعة إنما هي منفصلةٌ عنها بمسافة بعيدة ولها أرضها المستقلة وسقفها عرش الرحمٰن كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري »إذا سألتم الله [أي الجنة] فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمٰن«. والجنة باقيةٌ إلى ما لا نهاية لا تفنى ولا يفنى أهلها، قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: »والجنة والنار مخلوقتان الآن ولا تفنيان أبدا« ومن قال إنها تفنى فهو كافرٌ بالإجماع كجهم بن صفوان الذي قال بفناء الجنة والنار. وابن تيمية بعد أن ذكر في كتابه منهاج السنة النبوية أن المسلمين اتفقوا على بقاء الجنة والنار وأن جهم بن صفوان خالف في ذلك فقال بفنائهما فكفره المسلمون، قال بعد ذلك النار تفنى ولا يبقى فيها أحدٌ، فكما كفر هو جهما لقوله بأن الجنة والنار تفنيان يكفر هو لقوله بفناء النار لأنه تكذيبٌ للنصوص القرءانية قال الله تعالى ﴿إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا﴾. ومن فضل أمة محمد على من قبلها من الأمم أنهم أكثر أهل الجنة، فأهل الجنة يوم القيامة مائةٌ وعشرون صفا، وأمة محمد هم ثمانون صفا من المائة والعشرين صفا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه.

   وأول من يدخل الجنة هو سيدنا محمدٌ، بعد أن يدخل الرسول يدخل الأنبياء الجنة ثم يدخل أمة محمد. وقد أعد الله لعباده الصالحين فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء ذلك في الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري. فالنعيم الخاص الذي أعده الله لعباده الصالحين لم يره الرسول ولا الملائكة ولا خزان الجنة الموظفون هناك. وأهل الجنة على صورة أبيهم ءادم ستون ذراعا طولا في سبعة أذرع عرضا كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، وهم حسان الوجوه فمن كان في الدنيا من المؤمنين دميما تذهب عنه دمامته، والذي كان قصيرا يذهب عنه قصره. وأهل الجنة يتزاورون فيها وتزاورهم يحصل بأن يطير بالشخص سريره وأحيانا يركبون خيولا من ياقوت لها أجنحةٌ من ذهب تطير بهم وقد ورد في الحديث أن أهل الجنة جردٌ مردٌ في عمر ثلاثة وثلاثين عاما، أخرجه الترمذي في سننه، لا تنبت لهم لحيةٌ وليس على أذرعتهم ولا على بطونهم ولا على سيقانهم شعرٌ إلا شعر الرأس والحاجب والأهداب. والجنة هي الدار المطهرة من الأقذار كالبول والغائط والحيض والنفاس والبصاق والمني، وطعام أهل الجنة وشرابهم لا يتحول إلى بول أو غائط، إنما يفيض من جسمهم عرقا كالمسك ليس كعرق الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون« قالوا: فما بال الطعام؟ قال: »جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس«. وقد روى مسلمٌ من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا«، حياةٌ ليس بعدها موتٌ وصحةٌ ليس بعدها مرضٌ وشبابٌ ليس بعده هرمٌ ونعيمٌ وراحةٌ ليس بعده بؤسٌ، نعيمٌ وفرحٌ لا انقطاع له لذلك أهل الجنة لا ينامون، لا يوجد نومٌ لأن النوم في الدنيا إما لتعب الجسم أو لتعب الفكر وهناك لا يوجد في الجنة تعبٌ فكري ولا تعبٌ جسماني. وءاخر من يدخل الجنة من المؤمنين له مثل الدنيا وعشرة أمثالها وقد ورد في ذلك حديثٌ صحيحٌ رواه البخاري وغيره.

   والجنة الله تعالى عظمها فلا يجوز الاستخفاف بها فمن احتقرها فهو كافرٌ كقول بعض الدجاجلة المتصوفة: الجنة لعبة الصبيان، أما جهنم فهي ليست معظمة كالجنة إنما هي شىءٌ شديدٌ، ولو كانت معظمة ما كنا نقول اللهم أجرنا من النار، إنما الكفر أن يقال عنها ليست بشىء أو هي شىءٌ خفيفٌ. جهنم يستعاذ بالله منها فإن من جملة ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقولوه في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم.

   والواحد من أهل الجنة أقل ما يكون عنده من الولدان المخلدين عشرة ءالاف وهم خلقٌ من خلق الله ليسوا بشرا ولا جنا ولا ملائكة أشكالهم بصور الغلمان من بني ءادم الذين هم بعمر أربعة عشر سنة أو خمسة عشر سنة أو ثلاثة عشر سنة، خلقهم الله لخدمة أهل الجنة يطوفون عليهم للخدمة بإحدى يدي كل منهم صحيفةٌ من ذهب وبالأخرى صحيفةٌ من فضة كأنهم من الحسن والبياض لؤلؤٌ مكنونٌ أي لم تمسه الأيدي.

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة »هل مشمرٌ للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نورٌ يتلألأ وريحانةٌ تهتز وقصرٌ مشيدٌ ونهرٌ مطردٌ وفاكهةٌ كثيرةٌ نضيجةٌ وزوجةٌ حسناء جميلةٌ وحللٌ كثيرةٌ في مقام أبدي في حبرة ونضرة« رواه ابن حبان.

   في بداية الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: »هل مشمرٌ للجنة« أي هل من مجتهد في طاعة الله ومستعد للجنة »فإن الجنة لا خطر لها« أي لا مثل لها »هي ورب الكعبة نورٌ يتلألأ« أي أقسم برب الكعبة على أنها نورٌ يتلألأ أي أنها منورةٌ لا يوجد فيها ظلامٌ فلا تحتاج الجنة إلى شمس ولا قمر، لا ظلام فيها هناك كما في الدنيا، لكن مقدار الليل والنهار يعرف بعلامة جعلها الله فيها، إذا كانت المرأة من نساء الجنة كما نعتها رسول الله ووصفها بحيث لو اطلعت على هذه الدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب فمن أين يكون فيها ظلامٌ.

   ووصفها بأنها »ريحانهٌ تهتز« أي ذات خضرة كثيرة يانعة أي معجبة المنظر، وليس هناك مواسم للثمار بل في أي وقت ما تشتهيه تجده فقد قال الله تعالى ﴿لا مقطوعة ولا ممنوعة﴾ فإذا كان المؤمن جالسا أو مستلقيا فاشتهى أن يأكل من شجرة من أشجار الجنة مالت إليه ليأخذ منها ما يريد ثم تعود كما كانت وقد أنبت الله فيها بدل الذي أخذ منها، ثم إن كل شجرة في الجنة ساقها من ذهب، وأشجار الجنة عندما تتحرك يصدر لها صوتٌ جميلٌ جدا تميل إليه النفوس. ويوجد في الجنة شجرةٌ اسمها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها تتفتق بثياب أهل الجنة أي يخرج منها ثيابٌ لأهل الجنة يلبسونها، فثيابهم منها الحرير والسندس والاستبرق، روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها«. وكلام أهل الجنة عربي، يذكرون الله ويسبحونه ويقرأون القرءان أما الصلاة فلم يرد لها ذكرٌ.

   والرسول وصف الجنة بأنها قصرٌ مشيدٌ أي فيها قصورٌ عاليةٌ مرتفعةٌ في الهواء، وقد صح في الحديث أن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة واحدة طولها ستون ميلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا« رواه مسلمٌ.

   وقد ورد في الحديث الصحيح أن الجنة منها ما بناؤه لبن ذهب ولبن فضة أخرجه ابن حبان في صحيحه، وهي كما قال رسول الله »جنانٌ كثيرةٌ «رواه البخاري.

   وقوله عليه السلام »ونهرٌ مطردٌ «أي أنهارٌ جاريةٌ فالجنة فيها أنهارٌ من ماء وأنهارٌ من لبن أي حليب وأنهارٌ من خمر لا يسكر ولا يغيب العقل ولا يصدع الرأس وليس مر الطعم بل هو لذيذ الطعم جدا وفيها أنهارٌ من عسل مصفى كما ورد ذلك في القرءان، والعسل الذي هناك غير العسل الذي تخرجه النحل، قال الله تعالى ﴿فيها أنهارٌ من ماء غير ءاسن وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين وأنهارٌ من عسل مصفى﴾.

   وقوله عليه السلام »وفاكهةٌ نضيجةٌ «أي فيها من الفواكه كل ما تشتهيه النفس وكل ما فيها من الفواكه نضيجٌ. وفي الجنة أيضا طيورٌ وغنمٌ وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: »إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا« رواه البيهقي، ثم بعدما يأكله المؤمن يعيده الله كما كان فيطير.

   وقوله عليه السلام »وزوجةٌ حسناء جميلةٌ« أي فيها للمؤمنين أزواجٌ حسانٌ جميلاتٌ، فقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلمٌ: »لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين« وهذا الحديث صحيحٌ متفقٌ عليه. وجاء في الحديث الصحيح أن الشهيد له اثنتان وسبعون زوجة، ثم سائر أهل الجنة على مراتب منهم من عنده مائةٌ من النساء. ثم مع كثرة أزواج أهل الجنة لا يحصل بين نسائهم تباغضٌ وغيرةٌ وتحاسدٌ لأن الله يطهر قلوب أهل الجنة من ذلك، والمؤمنة التقية من بنات ءادم أفضل عند الله من الحور العين مقاما.

   والحور العين نساء أهل الجنة من غير الإنس خلقن خلقا من غير توالد إكراما للمؤمنين، والحور جمع حوراء من الحور وهو شدة بياض العين وشدة سوادها والعين جمع عيناء فمعناه واسعات العيون. وقد قال الله تعالى في وصفهن ﴿كأنهن الياقوت والمرجان﴾ وهن خيراتٌ حسانٌ أزواج قوم كرام. لو برزت إحداهن إلى الدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب ولو بصقت في بحر الدنيا لصار حلوا، لا يوجد في الدنيا بأسرها من هي بجمالها.

   وليس في الجنة عزبٌ ولا عزبةٌ بل كلهم يتزوجون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ما في الجنة أعزب« رواه مسلمٌ. وقوله عليه السلام »في مقام أبدي« أي في حياة دائمة لا نهاية لها. وقوله »في حبرة« أي سرور دائم. وأما قوله »نضرة« فمعناه أن وجوه أهلها ناضرةٌ أي جميلةٌ لأنهم ليس عليهم فيها كآبةٌ.

   وفي نهاية هذا الحديث قال الصحابة لرسول الله: »نحن المشمرون يا رسول الله«، فقال: »قولوا إن شاء الله« وذلك ليعلمهم التفويض إلى الله في أمورهم كلها، فهنيئا لمن عمل لآخرته فإن نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة كلا شىء.

   وليعلم أن أعظم نعيم أهل الجنة المؤمنين هو رؤيتهم لله عز وجل فليس شىءٌ أحب إلى أهل الجنة من رؤية الله يرونه بلا كيف ولا مكان ولا جهة، الأولياء يرونه كل يوم مرتين أما سائر المؤمنين ففي الأسبوع مرة. قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: «والله تعالى يرى في الآخرة يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافةٌ». يرونه لا كما يرى المخلوق، بلا كيف ولا تشبيه ولا مكان ولا جهة ولا مسافة قريبة أو بعيدة بينهم وبينه، يرون من ليس كمثله شىءٌ، لا يرونه حجما لطيفا كالنور ولا حجما كثيفا كالإنسان ولا يرونه مستقرا حالا في الجنة ولا خارجها ولا يرونه متحيزا عن يمينهم ولا عن يسارهم ولا في جهة تحت ولا في جهة فوق ولا في جهة أمام ولا في جهة خلف، يرونه من غير أن يكون له حجمٌ وكميةٌ ومقدارٌ ومساحةٌ وحد لأن الله ليس جسما مركبا من أجزاء وليس له جوارح ولا أعضاء، يرونه من غير أن يكون له طولٌ وعرضٌ وعمقٌ وسمكٌ ولونٌ وشكلٌ وهيئةٌ وصورةٌ وكيفيةٌ، يرونه بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلق واتصال وانفصال وساكن ومتحرك ومماس. رؤية المؤمنين لله في الآخرة ليس اجتماعا بالله كاجتماع المصلين بإمامهم في المسجد لأن الله تعالى يستحيل عليه السكنى في مكان. والدليل على أن الله يرى في الآخرة هو قوله تعالى ﴿وجوهٌ يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ وقوله ﴿ناظرة﴾ معناه ترى ربها ذلك اليوم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته« رواه مسلمٌ، أي لا تتزاحمون في رؤيته، شبه الرسول رؤيتنا لله من حيث عدم الشك برؤية القمر ليلة البدر ولم يشبه الله بالقمر كما يزعم بعض الجهال، والمعنى أن العباد يرونه رؤية لا شك فيها لا يشكون هل الذي رأوه هو الله أم غيره، كما أن القمر ليلة البدر إذا لم يكن سحابٌ يرى رؤية لا شك فيها. أما قوله تعالى لموسى ﴿لن تراني﴾ أراد به في الدنيا. أما المعتزلة والمشبهة فقد خالفوا أهل السنة، المعتزلة نفوا الرؤية وقالوا إنه يلزم القول بالرؤية تشبيهه بالخلق لأن الذي يرى لا بد أن يكون في جهة، وهم يفسرون قوله تعالى ﴿إلى ربها ناظرة﴾ يقولون نعمة ربها منتظرة وقولهم هذا مردودٌ. وأما المشبهة كالوهابية الذين يعتقدون أن الله جسما ويصفونه بصفات الخلق فالرؤية عندهم لا بد أن تكون بكيفية وجهة، والكيفية هي ما كان من صفات الخلق، فالحديث »إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر« معناه عندهم ترونه مواجهة كما ترون القمر مواجهة وهذا ضلالٌ وكفرٌ.

   نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين وأن يجعلنا من عباده المتقين وأن يرزقنا رؤية نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجعلنا من أهل الدرجات العلى وأن يرزقنا الفردوس الأعلى إنه على ما نسأله قديرٌ وبعباده لطيفٌ خبيرٌ وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى ءاله وصحبه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين.