الخميس نوفمبر 21, 2024
  • صحة النظام الاقتصادي الإسلامي

    اعلم أن الدين الإسلامي عرّفه بعضهم بأنه قانون سماوي مشتمل على أحكام تكليفية وتخييرية ووضعية.

    وقد فرغنا بعون الله تعالى من بيان صحة مبادئه الاعتقادية بالبراهين العقلية، وأما نظامه الاقتصادي فنتكلم الآن بقول موجز فيه، فهناك مصادر للأموال خاصةٌ ومصادر عامة. أما الخاصة فالمال الذي يكتسبه الفرد بالمكاسب التي ليس عليها اعتراض من قِبَلِ الشرع حيث إنه يُقر الملكيَّة الفردية بالغةً ما بلغت بطريق الزراعة أو التجارة أو الاصطياد للصيد وغير ذلك. ثم إذا ثبتت هذه الملكية بالمباشرة ثبتت بطريق الانتقال بالإرث بالقرابة النَّسَبية ونحوها، ومثل الإرث الوصية وهو التبرع المضاف لما بعد الموت أي يتبرع شخص بمقدار من ماله أن يُعطى بعد موته لفلان ونحو ذلك. وأما العامة فمال الزكاة في النقود والمواشي والزروع التي يُقصد منها القوتُ ومعادن الذهب والفضة المستحصلة بالعمل وأموال التجارة. وهو أي مال الزكاة مُعَدٌّ لنواحٍ خاصة معينة لا لجميع مصالح الرعية بل معظم مصارفها أصحاب الحاجات. وكذلك من المصادر العامة أموال الذين يموتون وليس لهم أقارب يرثونهم، وغير ذلك. ثم إذا وفت أموال بيت المال بحاجات أهل الضرورات لم يؤخذ من الأملاك الفردية شىء بدون رضاهم. وأما إن لم تَفِ فيتحتم على الدولة سدُّ الضرورات من أموال الأغنياء رضوا أو كرهوا، ولو اقتضى الحال أن يؤخذ منهم أكثر أموالهم تُرِكَ لهم حاجاتهم لسنة واحدة، وما سوى ذلك تسدُّ به الضرورات. وهذا الحكم مأخوذ من نصوص في الفقه الإسلامي مما استنبطه الفقهاء من نصوص الشرع الأصلية كقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ *﴾ [سورة المعارج] وحديث [(1253)] «ما ءامن بي من بات شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلمُ به» وغير ذلك.

    وأما الفقهاء ففي «حاشية منهاج الطالبين» للشرواني [(1254)] في كتاب الحج أن سد الضرورات يقدم على الحج الفرض وأنه يؤخذ لأجله من أموال الأغنياء ما زاد على كفاية سنة، وكذلك في «حاشية فتح المعين» [(1255)] للسيد أبي بكر شطا، وهاكم عبارة «روضة الطالبين» للإمام النووي [(1256)] في بحث فروض الكفاية ونصها: «ومنها ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس كدفع الضرر عن المسلمين وإزالة فاقتهم وكستر العورة وإطعام الجائعين وإغاثة المستغيثين في النائبات فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تفِ الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها فلو سُدت الضرورة فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة، حكى الإمام فيه وجهين» انتهى كلام النووي.

    فمن فهم نظام الاقتصاد الإسلامي على حقيقته وجده خيرًا من نظام الرأسمالية ونظام الشيوعية لأن الرأسمالية ليس فيها حتمية سد الضرورات من أموال الأغنياء إلى هذا الحد وهو غير كافل بحقوق المحتاجين. ونظام الشيوعية سوق الناس إلى ترك بذل الجهد في العمل للتواكل لأن الفرد إذا اعتقد أنه ليس له حرية التصرف فترت همته [(1257)]. هذا ولا يتوهم متوهّم أن حكام العصر الحاضر وأغنياءه يمثلون الاقتصاد الإسلامي فإنهم بمعزل عن تطبيقه بل الذي ينبغي اعتباره مثالًا للتطبيق تصرفات الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر. وهاكم مثالًا واحدًا من تصرفات عمر وهو أن عُبيد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأخاه عبد الله خرجا في جيش إلى العراق فلما رجعا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهَّلَ وقال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين وأسلفكما فتبتاعان به من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما على عمر قال أكُلُّ الجيش أسلفكما فقالا لا، فقال عمر أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين لو هلك المال أو نقص لضمنَّاه، فقال أديا المال، فسكت عبد الله، وراجعه عُبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا، فقال عمر قد جعلته قراضًا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذا نصفَ ربحِه. رواه مالك [(1258)] وسنده صحيح كما قال الحافظ [(1259)]، فأي رئيس دولة من الرؤساء الذين عرفهم التاريخ منذ عشرة قرون بل أكثر يحافظ على الحقوق العامة كهذه القضية. وهل يوجد لهذا أمثال في الرأسمالية أو الشيوعية. نقول هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

    فيا أيها المغرورون بالنظام الشيوعي هل تعرفون في تاريخ الشيوعية رئيسًا يعامل أبناءه فيما عند الدولة هذه المعاملة؟!

    ـ[1253] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الأطعمة: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.
    ـ[1254] أي يصلح نعله إذا خربت.
    ـ[1255] أي في أكثر أحيانه.

    ـ[1256] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق.
    ـ[1257] قال ابن الأثير: «أي لا يُذْكَرن بقبيح، كان يصان مجلسه عن رفث القول» (النهاية، 1/ 17).
    ـ[1258] صحيح البخاري: كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الوصايا: باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحًا له، والترمذي بتمامه بنحوه في سننه: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
    ـ[1259] قال ابن الأثير: «الأملح الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل هو النقي البياض» (انظر كتابه النهاية في غريب الحديث 4/ 354).