الثلاثاء مارس 11, 2025

الدَّرْسُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ

شَرْحُ حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ

عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ

  

     الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

     أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَرَدَ فِى الصَّحِيحَيْنِ الْبُخَارِىِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ اهـ فَالأَشْيَاءُ الثَّلاثَةُ الأُولَى أَىْ عُقُوقُ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدُ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ مُحَرَّمَةٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَأَمَّا الثَّلاثَةُ الأُخْرَى فَفِيهَا تَفْصِيلٌ.

     وَعُقُوقُ الأُمَّهَاتِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الآبَاءِ لَكِنْ عُقُوقُ الأُمَّهَاتِ أَشَدُّ ذَنْبًا كَمَا أَنَّ بِرَّ الأُمَّهَاتِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ بِرِّ الآبَاءِ وَكِلا الأَمْرَيْنِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

     وَمَعْنَى الْعُقُوقِ إِيذَاؤُهُمَا أَذًى لَيْسَ بِهَيِّنٍ كَشَتْمِ الأُمِّ وَشَتْمِ الأَبِ أَوْ ضَرْبِ الأُمِّ أَوِ الأَبِ أَوْ كَأَنْ يُهِينَ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ أَمَامَ النَّاسِ. وَعَذَابُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمٌ حَيْثُ إِنَّ عَاقَّهُمَا لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الأَوَّلِينَ بَلْ يَدْخُلُهَا بَعْدَ عَذَابٍ شَدِيدٍ مَعَ الآخِرِينَ، وَهَذَا مَعْنَى كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالدَّيُّوثُ [وَهُوَ الَّذِى يَعْلَمُ الزِّنَى فِى أَهْلِهِ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ] وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ [أَىِ النِّسَاءُ الْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ فِى اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ] اهـ [رَوَاهُ الطَّبَرِىُّ فِى تَهْذِيبِ الآثَارِ].

     وَإِذَا كَانَ الأَبَوَانِ كَافِرَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا لَكِنْ لا يُطِيعُهُمَا فِى كُفْرِهِمَا وَلا مَعَاصِيهِمَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ لُقْمَان ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.

     وَإِنْ كَانَ الأَبَوَانِ مُسْلِمَيْنِ فَقِيرَيْنِ مُحْتَاجَيْنِ فَفَرْضٌ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمَا نَفَقَتَهُمَا وَيَكْسُوَهُمَا وَيُسْكِنَهُمَا وَلا طَاعَةَ لَهُمَا فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَيَجِبُ عَلَى الِابْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ الْمُسْلِمَ الْفَقِيرَ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لِلزِّوَاجِ.

     وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوقِ أَنْ يُطِيعَ الْوَلَدُ أُمَّهُ عَلَى ظُلْمِ أَبِيهِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَلا يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنْ أَطَاعَ أُمَّهُ فِى ظُلْمِ أَبِيهِ. قَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ أَبُوكَ اهـ [رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ] وَلا يَجُوزُ أَنْ تُعِينَ أَىَّ إِنْسَانٍ عَلَى ظُلْمِ إِنْسَانٍ ءَاخَرَ.

     وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ فَمَعْنَاهُ دَفْنُ الْبَنَاتِ فِى التُّرَابِ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ وَهَذَا الشَّىْءُ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذَا قَيْسُ بنُ عَاصِمٍ.  

     وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أَشَدُّ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَخَاصَّةً قَتْلُ الْمَحَارِمِ كَالأَبِ أَوِ الأُمِّ أَوِ الْبِنْتِ فَهُوَ أَشَدُّ إِثْمًا مِنْ قَتْلِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ.

     وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ وَمَنْعًا وَهَاتِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْعُ الْوَاجِبَاتِ مِثْلِ الزَّكَاةِ فَإِذَا إِنْسَانٌ مَنَعَهَا فَهُوَ عَاصٍ مَعْصِيَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِإِنْسَانٍ دَيْنٌ عَلَى ءَاخَرَ فَمَنَعَهُ بَعْدَ حُلُولِ الأَجَلِ فَهُوَ عَاصٍ مَعْصِيَةً  كَبِيرَةً إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِ، كَذَلِكَ الإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ الَّذِى لَهُ أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ مُحْتَاجَانِ فَمَنَعَهُمَا النَّفَقَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْعُ النَّفَقَةِ عَنْ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَبِيرَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرَ هَذَا الذَّنْبِ لَكَفَاهُ.

     وَالنَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَسَعُهُ مَالُ الزَّوْجِ. وَالَّذِى يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لا يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِنْ كُنَّ اثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الزِّوَاجُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَمَنْ يَعْدِلُ فِى الْمَبِيتِ وَلا يُسَوِّى فِى عَدَدِ الْجِمَاعِ بَيْنَهُنَّ لا يَكُونُ ظَالِمًا، وَتَسْوِيَةُ الْمَحَبَّةِ فِى الْقَلْبِ لَيْسَتْ فَرْضًا لِأَنَّ الْمَيْلَ الْقَلْبِىَّ لَيْسَ بِيَدِهِ، قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا﴾ مَعْنَاهُ لَنْ تَسْتَطِيعُوا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فِى الْمَيْلِ الْقَلْبِىِّ. وَفِى الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِثْلِ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمَبِيتِ ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ فَاعْدِلُوا فِى مَا يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهِ أَىْ مِنَ الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ.

     وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَنْعًا وَهَاتِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّخْصُ مَا لا يَحِلُّ لَهُ فَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ.

     وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلامُ الَّذِى لا فَائِدَةَ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا.

     وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ لا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَسَائِلَ لا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا فَهَذَا شَىْءٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِى الدِّينِ فَالسُّؤَالُ عَنْهُ فَرْضٌ.

     وَإِضَاعَةَ الْمَالِ أَىْ صَرْفَهُ فِى غَيْرِ أَوْجُهِ الْبِرِّ فَإِنْ صَرَفَهُ لِزِيَادَةِ التَّنَعُّمِ بِالْحَلالِ فَلا مَعْصِيَةَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هَذَا أَىِ الإِكْثَارُ مِنَ التَّنَعُّمِ لَيْسَ مِنْ شِيمَةِ [أَىْ خُلُقِ] الْمُتَّقِينَ، أَمَّا إِنْ صَرَفَهُ فِى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بَلْ فِى مَعْصِيَتِهِ كَالَّذِى يَشْتَرِى بِهِ ءَالاتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةَ لِيَلْهُوَ بِهَا فَهَذَا إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ.