281- |
أَشْـجَعَهُمْ
فِـي مَوْطِـنٍ وَأَنْجـَدَا |
|
وَأَجْـوَدَ
النَّاسِ بَـنَـانًا وَيَـدَا |
282- |
مَا
سِـيـلَ قَـطُّ حَاجَـةً فقالَ لَا |
|
وَلَـيْـسَ
يَأْوِي مَنْزِلًا إِنْ فَضَـلَا |
283- |
مِـمَّـا
أَتَـى دِرْهــمٌنَ اوْ دِيـنَـارُ |
|
حَـتَّـى
تُـرِيـحَ مِنْهُمَا الأَقْـدَارُ |
وهو ﷺ (أَشْجَعُهُمْ) أي أقوَى النّاسِ قَلبًا وأكثرُهم جُرأةً
لمُلاقاةِ العَدُوِّ (فِي) أيِّ (مَوْطِنٍ) أي مَكانٍ مِن
أماكِنِ القتالِ، وهو ﷺ أثبَتُ النّاسِ في حالِ البَأْس حيثُ كان الشُّجاع مِنهُم
يَلُوذُ بِجَانِبِه ﷺ عند الْتِحام الحَرب، فقد صحّ عند مُسلِمٍ وغيرِه أنّ
البراءَ ابنَ عازِبٍ رضي الله عنه قال: «كُنَّا وَاللهِ إِذَا احمَرَّ البَأْسُ
نَتَّقِي بِهِ([1])،
وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ» يَعنِي النَّبِيَّ ﷺ.
وقد ثَبَتت
أشجَعِيَّتُه ﷺ بالتَّواتُرِ بل ويُمكِنُ فَهمُ ذلكَ مِن القُرءانِ الكريم
لِقَولِه تعالى: ﱡ ﱱ ﱲ ﱳ
ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱠ، ومِن أَدَلّ
الدليل وأصرَح الصَّرِيح وأظهره أنّه ﷺ بدأ يَدعُو إلى الله وَحْدَه بين مشركِين
جُهّال أجلاف يَعبُدون الحجَر والصَّنَم ولم يَخَفْهُم إلى أنْ بلَغَتْ دَعوَتُه
الدُّنيا.
(وَ)إذا استَنجَدَهُ خائِفٌ عِندَ خَوفهِ (أَنْجَدَا) بألِف الإطلاقِ أي
أعانه النّبِيُّ ﷺ وأنجَدَهُ. وقد ثبتَ عندَ مُسلِمٍ في حديث أنَسٍ رضيَ الله عنه
قال: «وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقُوا قِبَلَ
الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ الله ﷺ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ
وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ
السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَنْ تُرَاعُوا([2])»
يَرُدُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرَسِ([3]):
«وَجَدْنَاهُ بَحْرًا»([4]).
قال حَمّادٌ: كانَ فَرَسًا لِأَبِي طَلحَةَ يُبَطَّأُ فَما سُبِقَ بَعدَ ذَلِكَ
اليَوم».
(وَ)هو ﷺ (أَجْوَدُ النَّاسِ)
أي أكرَمُهم بالخَير (بَنَانًا) بفَتح الباءِ (وَيَدًا) والبَنانُ أصابِعُ الكَفِّ واحدتُها بَنانة، فإنّه ﷺ (مَا سِيلَ) أي ما سُئِل بإبدال الهمزةِ ياءً بمعنَى مَا طَلَبَ
مِنهُ (قَطُّ) أي أبدًا أحَدٌ (حَاجَةً) مِن
حوائجِ الدُّنيا (فقالَ: لَا) معناه لم يَقُل للسائِلِ ذلكَ قَطُّ مَنعًا للعَطاء، ولا يَلزَم مِن ذَلِك
أنْ لا يَقُولَها اعتِذارًا، فقد قال تعالَى: ﱡﭐ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ
ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩﱠ، وفي سببِ نُزولِ هذه الآيةِ روَى الشّيخانِ عَن أبي
بُردةَ قَالَ: أتَيتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي رَهطٍ([5])
مِنَ الأشعَرِيِّينَ
أستَحمِلُهُ([6])
فَقالَ: «واللهِ لَا
أحمِلُكُم وَما عِندِي ما أحمِلُكُم عَلَيهِ»، قالَ: ثُمَّ لَبِثْنا ما شاءَ اللَّهُ أنْ نَلبَثَ، ثُمَّ أُتِيَ
بِثَلاَثِ ذَودٍ([7])
غُرِّ الذُّرَى([8])
فَحَمَلَنا عَلَيها، فَلَمّا انطَلَقْنا قُلْنا أو قالَ بَعضُنا: واللَّهِ لاَ
يُبارَكُ لَنا، أتَينا النَّبِيَّ ﷺ نَستَحمِلُهُ فَحَلَفَ أنْ لاَ يَحمِلَنا
ثُمَّ حَمَلَنا فارجِعُوا بِنا إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَنُذَكِّرُهُ، فَأتَيناهُ
فَقالَ: «مَا أنَا
حَمَلْتُكُم بَلِ اللهُ حَمَلَكُم([9])، وَإنِّي واللَّهِ إنْ شاءَ اللَّهُ لَا
أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأرَى غَيرَها خَيرًا مِنها إلَّا
كَفَّرْتُ عَن
يَمِينِي وَأتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ وَكَفَّرتُ عَن يَمِينِي».
فإذا سُئلَ ﷺ فهو في ذلك على أحوالٍ: إمّا أعطَى وإمّا
اعتَذَرَ ودَعا للسّائِلِ وإمّا وَعَد له فيما تَمَنَّى عمَلًا بِقَولِ اللهِ
تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ
ﱌ ﱠ [الإسراء:
28].
وقَد روَى البُخارِيُّ في «الأدب المفرد» عن أنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيُّ ﷺ كَانَ رَحيمًا، وكانَ لَا يَأتِيهِ أحدٌ
إِلَّا وَعَدَهُ وأَنْجَزَ لهُ إنْ كَان عِنْدَهُ، وأُقِيمَتِ الصَّلاةُ وجَاءَهُ
أعرَابِيٌ فَأَخذَ بِثَوبِهِ»
فَقَال: إِنَّمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِي يَسِيرَةٌ وأخَافُ أَنْسَاهَا، «فَقَامَ مَعَهُ حَتَّى فَرَغَ مِن حَاجَتِه
ثُمَّ أَقْبَلَ فَصَلَّى»، وكان ﷺ
يقولُ: «أَنْفِقْ يَا بِلَالُ
وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا».
فهو ﷺ أكرَمُ النّاسِ (وَلَيْسَ) أي لَم
يَكُن ﷺ (يَأْوِي) أي يعودُ (مَنْزِلًا) أي بيتًا مِن
بُيوتِهِ فيَبِيتَ فيهِ (إِنْ) كانَ (فَضَلَا) أي
بَقِي عِندَهُ (مِمَّا أَتَـ)ـاهُ مِن مالِ الغنائِمِ ونَحوِها شىءٌ (دِرْهمٌ أَوْ دِينَارٌ)
بل كانَ يَدفَعُها إلى مُستحِقِّها (حَتَّى تُرِيحَـ)ـهُ (مِنْهُمَا)
أي مِن هَمِّهِما (الأَقْدَارُ) فلا يَبقَى عِندَه شىءٌ
إلّا تَفرَّق على المُستحقِّينَ. وفي روايةٍ: «حَتَّى تُزِيحَ» مِن أزاحَه بمعنَى
أزالَه ونَحّاهُ عَن موضِع، معناهُ حتّى تُزالَ الأموالُ عن مَوضِعها فتُفرَّق على
المُستحقِّينَ، قاله الأجهوريّ([10]).
ورَوىَ
الطّيالسيُّ في «مُسنَدِه» عَن أبي البَخْتَرِيّ عَن رَجُلٍ مِن بَنِي عَبْسٍ قال:
صَحِبتُ
سَلمانَ فذَكَر كُنوزَ
كِسرَى فقال: إِنَّ الَّذِي أَعطاكُمُوهُ وَخَوَّلَكُمُوهُ([11])
وَفَتَحَهُ لَكُم لَمُمسِكٌ خِزانَتَهُ وَمُحَمَّدٌ ﷺ حَيٌّ قَد كانُوا
يُصْبِحُونَ وَما عِندَهُم دِينارٌ وَلا دِرهَمٌ وَلا مُدٌّ مِن طَعامٍ فَبِمَ
ذاكَ يا أَخا بَنِي عَبسٍ؟! قالَ: ثُمَّ مَرَّ بِبَيادِرَ تُذَرَّى([12])
فَقالَ: إِنَّ الَّذِي أَعطاكُمُوهُ وَخَوَّلَكُمُوهُ وَفَتَحَهُ لَكُم لَمُمسِكٌ
خِزانَتَهُ وَمُحَمَّدٌ ﷺ حَيٌّ قَد كانُوا يُصبِحُونَ وَما عِندَهُم دِينارٌ وَلا
دِرهَمٌ وَلا مُدٌّ مِن طَعامٍ فَبِمَ ذَلِكَ يا أَخا بَنِي عَبْسٍ؟!
صِدْقُه
ﷺ وكَرَمُه في العِشْرةِ
284- |
أَصْـدَقُ لَـهْـجَـةٍ وَأَوْفَـى
ذِمَّـةْ |
|
أَلْـيَـنُـهُـمْ عَرِيكَةً فِـي
الأُمَّةْ |
285- |
أَكْـرَمُهُمْ فِي عِشْـرةٍ لَا يَحْسِـبُ |
|
جِـلِـيْـسُـهُ أَنَّ سِـوَاهُ أَقْـرَبُ |
وهو ﷺ (أَصْدَقُ) النّاسِ (لَهْجَةً) أي لِسانًا
وكَلامًا (وَأَوْفَا)هُم (ذِمَّةً) أي عَهدًا وأمانةً و(أَلْيَنُهُمْ) أي أسهَلُهم وأحسَنُهم (عَرِيكَةً)
أي مَعشَرًا (فِي)
هذهِ (الأُمَّةْ) أي في أُمَّتِهِ ﷺ وهو ﷺ ألينُ
عرِيكةً مِن سائِر الأفرادِ في سائِر الأُمَم، وأصلُ العَرِيكةِ لَحمُ ظَهْرِ
البَعِير، فإذا لانَتْ سَهُل رُكوبُه([13]).
وهو ﷺ (أَكْرَمُهُمْ فِي عِشْرةٍ) أي صُحبةٍ وخُلطةٍ، ولِكمالِ
خُلُقِه وحُسن مُعاشَرَتهِ (لَا يَحْسِبُ) أي لا
يَظُنُّ (جِلِيسُهُ) أي مَن يُجالِسُهُ ﷺ (أَنَّ) أحَدًا (سِوَاهُ) أيْ سوَى هذا
الجَليسِ (أَقْرَبُ) إلى النَّبِيِّ ﷺ مِنهُ وذلك لِمَا
يَظهَرُ لهذا الجَليسِ مِن عَظِيم بِشْرِه ولُطفِهِ
وحُسنِ مُعاشَرتِهِ ﷺ.
286- |
حَـيَـاؤُهُ يَرْبُـوْ عَـلَـى العَـذْراءِ |
|
فِـي خِـدْرِهـا لِشِـدَّةِ الحَـيَـاءِ |
287- |
نَـظَـرُهُ لِلْأَرْضِ مِـنـهُ أَكْـثَـرُ |
|
إِلَـى السَّمَاءِ خَافِـضٌ إِذْ
يَنْظُـرُ |
288- |
أَكْـثَـرُهُـمْ تَـوَاضُـعًا يُـجِـيْـبُ |
|
دَاعِـيَـهُ بَـعِـيـدٌ اوْ قَـرِيـبُ |
289- |
مِـنْ عَبْدٍنَ اوْ حُرٍّ
فَقِيرٍ أَوْ غَنِيْ |
|
وَأَرْحَـمُ النَّاسِ بِكُـلِّ مُـؤْمِـنِ |
290- |
وَطَائِـفٍ يَـعْـرُوْهُ حَـتَّـى الهِـرَّةْ |
|
يُصْـغِـيْ لَهَا الإِنَـاءَ غَـيْـرَ
مَـرَّةْ |
وكانَ ﷺ حَيِيًّا و(حَيَاؤُهُ) ممدوحٌ لا يكونُ إلّا بِحَقٍّ وهو حياءٌ (يَرْبُو) أي يزيدُ (عَلَى) حَياءِ الفَتاةِ (العَذْراءِ) الّتي لَم يَقرَبْها رَجُلٌ بِجماعٍ ونَحوهِ
المستَتِرةُ مِن شِدّةِ حيائِها (فِي خِدْرِها) أي في
سِترِها الّذي يُجعَلُ لَها في أقصَى البَيتِ وذلك وصفٌ مُقرِّبٌ (لِشِدَّةِ الحَيَاءِ) الّذي يكونُ عليهِ ﷺ، ولكنّه مع ذلك لم
يَمنعهُ الحياءُ مِن إقامة حدودِ الله وإنكارِ المُنكَرات، لأنّ الحياءَ الممدوح
هو الّذي يُعِينُ الإنسانَ على الالتزامِ بأوامرِ الشّرع والانتهاءِ بنواهِيه،
أمّا الحياءُ الّذي يَمنَعُ مِن قَول الحَقّ ويُوقِعُ في الحرامِ فبِئسَ الحياءُ
هو، وإنّه مِنَ الشّيطان يَحتالُ به على ضُعَفاء العقول ليُبعِدَهم عن القيامِ
بحقوقِ الله على العَبدِ.
وقد بلَغَ ﷺ الغايةَ في
التّواضُعِ، ومِن أمثِلةِ ذلكَ (نَظَرُهُ) فإنّهُ (لِلْأَرْضِ) أي إلى جِهَتِها هوَ (مِنهُ) حالَ عدَمِ الكَلامِ (أَكْثَرُ) أو
أطوَلُ زَمَنًا وأزَيدُ وَأَمَدُّ مِن نَظَرِه (إِلَى السَّمَاءِ)
وإلى الأجرامِ المُقابِلةِ لَها، فإنّه ﷺ دائِمُ حُضورِ القَلبِ خُشوعًا للهِ،
مُنشَغِلُ البالِ بأمورِ
الأُمّةِ وكُلِّ ما
يَزِيدُهُ كمالًا عندَ الله تعالَى.
ومِن
علاماتِ تواضُعِه ﷺ أنّه إذا خاَطَبَ غيرَه في وَجهِه فإنّه يَفعلُ ذلك وهو (خَافِضٌ) طَرْفَه (إِذْ) أي حِينَ (يَنْظُرُ) إلى المُكَلَّمِ، فلَم يَكُن ﷺ يُثَبِّتُ بصَرَهُ في
وَجهِ مُكلَّمِه مِن شِدّة حيائِهِ ﷺ، وبهذا يكونُ الأمرُ أسهلَ على مُخاطَبِه ﷺ
لا سيّما إذا كانَ لهذا المُخاطَبِ حاجةٌ عِندَ النّبيّ ﷺ، فإنّه ﷺ مِن شِدّة
هَيبتِه وبَهائِه وجَمالِه وجلاله لَم يَكُن بعضُ الصّحابةُ يَقْدِر على أنْ
يُدِيمَ النَّظَر في وَجْهِه ﷺ.
روَى ابن ماجَهْ في
«سُنَنِه» عن أبي مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: أتَى النَّبِيَّ ﷺ رجُلٌ فكَلَّمَه وفرائِصُه([14]) تَضطرِبُ،
فقال له رسولُ الله ﷺ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ([15])،
إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ([16])».
وروَى
التّرمذيُّ في «سُنَنِه» عن مُوسَى وَعِيسَى ابنَي طَلْحةَ عن أبِيهِما طَلْحةَ
أنَّ أصحابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قالُوا: لأعرابِيٍّ جاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّن قَضَى
نَحْبَهُ مَن هو؟ وَكانُوا لا يَجتَرِئُونَ عَلَى مَسألَتِهِ يُوَقِّرُونَهُ
وَيَهابُونَهُ، فَسَألَهُ الأعرابِيُّ فَأعرَضَ عَنهُ، ثُمَّ سَألَهُ فَأعرَضَ
عَنهُ، ثُمَّ سَألَهُ فَأعرَضَ عَنهُ، ثُمَّ إنِّي اطَّلَعتُ مِن بابِ المَسجِدِ
وَعَلَيَّ ثِيابٌ خُضرٌ، فَلَمّا رَءَانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ قالَ: أينَ السّائِلُ
عَمَّن قَضَى نَحبَهُ؟ قالَ الأعرابِيُّ: أنا يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: هَذا مِمَّن
قَضَى نَحبَهُ.
وروَى مُسلِمٌ وابنُ
حُمَيدٍ في «المُسنَد» – واللَّفظُ له – عن أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ قال: بينَما
أنا أضرِبُ غُلامًا لي بِسَوطٍ لي سَمِعتُ صَوتًا مِن وَرائِي: «اعْلَمْ أَبَا
مَسْعُودٍ»، قال: فجَعَلتُ لا أَلْتَفِتُ ولا أَعقِلُ مِن الغَضَب حتّى دَنا
مِنِّي رَسولُ الله ﷺ فالْتَفَتُّ فلَمَّا رأيتُه سَقَط السَّوطُ مِن يَدِي مِن
هَيْبَتِه أو طَرَحتُه، فقال رسولُ الله ﷺ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ أَقْدَرُ مِنْكَ عَلَى هَذَا»، قال: قُلتُ:
والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقّ لا أضرِبُ غُلامًا لِي بَعدَ هذا.
وروَى البَزّارُ في
«مُسنَدِه» عن عليّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنه أنّه أتَى فاطِمةَ فقال لها:
إِنِّي لأَشْتَكِي صَدْرِي مِمّا أَمُدُّ بالغَرْب، فقالتْ: وأنا واللهِ إنِّي
لأَشْتَكِي يَدِي مِمّا أَطْحَنُ بالرَّحَا، فقالَ لها علِيّ: ائْتِي النَّبِيَّ ﷺ
فسَلِيهِ أنْ يُخْدِمَكِ خادِمًا، فانْطَلقتُ إلى رَسولِ الله ﷺ فسَلَّمتُ عليهِ
ثُمّ رَجَعتُ فقالَ رسولُ الله ﷺ: «مَا جَاءَ بِكِ؟» قالتْ: جِئتُ
لأُسَلِّمَ على رسولِ الله ﷺ، فلَمّا رَجَعَتْ إلى علِيّ قالتْ: واللهِ ما
اسْتَطَعْتُ أنْ أُكَلِّمَ رسولَ الله ﷺ مِن هَيْبَتِه.
وهو ﷺ (أَكْثَرُهُمْ) أي أكثرُ النّاسِ (تَوَاضُعًا)
فقد رَوَى النَّسائيُّ والبيهقيُّ كِلاهُما في «السُّنَن الكبرى» عن ابنِ عَبّاسٍ
رضي الله عنهُما أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أرسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ مَلَكًا مِنَ
المَلائِكَةِ مَعَهُ جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ، فَقالَ المَلَكُ لِرَسُولِ اللهِ
ﷺ: إِنَّ اللهَ يُخَيِّرُكَ بَينَ أن تَكُونَ عَبدًا نَبِيًّا وَبَينَ أن تَكُونَ
مَلِكًا نَبِيًّا، فالتَفَتَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ إِلَى جِبرِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ
كالمُستَشِيرِ لَهُ، فَأشارَ جِبرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أن تَواضَع([17])،
فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بَلْ أكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا».
وروَى النَّسائيُّ في
«السُّنَن الكُبرَى» أنَّ الحسَن البِصريَّ ذكَرَ رسولَ الله ﷺ فقالَ: «لا
واللَّهِ ما كانَت تُغلَقُ دُونَهُ الأَبوابُ، وَلا تَقُومُ دُونَهُ الحَجَبَةُ،
وَلا يُغدَى عَلَيهِ بِالجِفانِ وَلا يُراحُ عَلَيهِ بِها([18])،
وَلَكِنَّهُ كانَ بارِزًا، مَن أَرادَ أَن يَلقَى نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ لَقِيَهُ،
وَكانَ واللَّهِ يَجلِسُ بِالأَرضِ، وَيُوضَعُ طَعامُهُ بِالأَرضِ، وَيَلبَسُ
الغَلِيظَ، وَيَركَبُ الحِمارَ، وَيُردِفُ بَعدَهُ، وَيَلعَقُ واللَّهِ يَدَهُ».
وكان ﷺ (يُجِيْبُ دَاعِيَهُ) أي مَن يَدعوهُ إلى مائدةٍ أو غيرِهَا، (بَعِيدٌ) الدّاعي (أوْ قَرِيبٌ) مِنهُ، وسواءٌ
كانتِ الدّعوةُ (مِنْ عَبْدٍ) مملوكٍ مأذونٍ لهُ بذلِكَ أو
مُعتَقٍ، (أَوْ) مِن (حُرٍّ)، أوْ
كانتْ مِن (فَقِيرٍ) أوْ مِسكِينٍ (أَوْ غَنِيٍّ)
أو شريفِ النَّسَبِ أو دَنِيئِه، وذلك مِن تَواضِعِه المجبولِ عليهِ ﷺ، كيفَ لا
وقد كانتِ العِنايةُ الرّبّانِيّةُ تُحيطُ به ﷺ وقال لَهُ رَبُّه: ﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﱠ([19])،
وكان ﷺ يقول: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ
أُهْدِيَ
إِلَيَّ كُرَاعٌ([20])
لَقَبِلْتُ» رواهُ البُخاريُّ.
(وَ)هو ﷺ (أَرْحَمُ) أي أكثرُ (النَّاسِ) رَحمةً (بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَ)بِكُلِّ
(طَائِفٍ)
أي نازِلٍ بهِ ﷺ حال كونِ النّازلِ بهِ (يَعْرُوهُ) أي يَقصِدُهُ ﷺ لحاجةٍ، فيَدخلُ في ذلكَ ما لا
يعقِلُ كالبَهائم، (حَتَّى) إنّهُ ﷺ كانتِ (الهِرَّةُ) تَمُرُّ به فـ(ـيُصُغِيْ) أي يُدْنِي (لَهَا الإِنَاءَ) وفيهِ الماءُ فتَشرَبُ، وقد فعَلَ ذلكَ ﷺ (غَيْرَ مَرَّةْ) أي لم يَقتصِر على فِعلِه مَرّةً واحِدةً بل
رُوِي أنّه كانَ يَفعَلُ ذلك مع كُلِّ هِرّةٍ أتَتْهُ ثمّ كان يتوضّأ بما بَقِي
مِن المَاءِ في الإناءِ ويقولُ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، هِيَ مِنَ
الطَّوَّافِينَ» أوِ «الطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُم».
وأخبارُ رحَمتهِ ﷺ
بالعباد والبهائم أوسَعُ مِن أنْ يسعَهَا هذا الشّرحُ المختصرُ، ويكفي أنّ ربّه
عزّ وجّل قَد مَدَحه بِذَلِك في كِتابهِ فقال: ﱡﭐ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﱠ أي يَشُقُّ عليه وقوعُ
المكروهِ بِكُم ﱡﭐ ﲥ ﲦ ﱠ أنْ
تَثبُتوا على الإيمانِ، وهو ﷺ ﱡﭐ ﲧ ﲨ ﱠ أي
شَدِيدُ الرّأفةِ بهِم وﱡﭐ ﲩ ﱠ بهِم
يُحِبُّ لهُم الخيرَ.
وقَد حثَّ ﷺ على الرأفةِ بالبهِيمةِ والإحسانِ إليها،
والآثارُ عنه في ذلك كثيرةٌ، منها ما رواهُ ابنُ ماجه عن سُراقةَ بنِ جُعْشُمٍ
قالَ: سألتُ رسولَ الله ﷺ عن ضالّةِ الإبِلِ تَغشَى حِياضِي، قَدْ لُطْتُها لإبِلي([21])، فهل لي مِن أجرٍ إنْ سَقَيتُها؟ فقال ﷺ: «نَعَمْ،
فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ([22])».
وروَى أبو داودَ في «سُنَنِه» مِن حديثِ عبدِ الله بنِ
جعفرٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله ﷺ دخَلَ حائِطًا([23]) لرجُلٍ مِنَ الأنصارِ فإذَا جمَلٌ، فلَمَّا رأى
النَّبِيَّ ﷺ حَنَّ وذَرَفَتْ عَيْناه، فأتاهُ النَّبِيُّ ﷺ فمَسَحَ ذِفْراهُ([24]) فسَكَتَ، فقال: «مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَلِ؟ لِمَنْ
هَذَا الجَمَلُ؟»، فجاءَ فتًى مِن الأنصارِ فقال: لي يا رسولَ اللهِ، فقال: «أَفَلَا
تَتَّقِي اللهِ في هَذِهِ البَهِيمَةِ الَّتِي
مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟ فإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ
وَتُدْئِبُهُ([25])».
وروَى البُخاريُّ في «الأدب»([26]) عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَل
مَنزِلًا فأَخَذَ رَجُلٌ بَيضَ حُمَّرَةٍ، فجاءَتْ تَرِفُّ على رأسِ رسولِ الله ﷺ
فقال: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟» فقال رَجُلٌ: أنا أخَذتُ
بَيْضَتَها، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «ارْدُدْه رَحْمَةً لَهَا».
وروَى مُسلِمٌ عن شَدّادِ بنِ أَوسٍ أنّ رسولَ الله ﷺ
قالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ
فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ([27])، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».
وإذا كانتْ هذه أمثِلةً تدُلُّ على عظيمِ رأفتِه ﷺ بالبَهائِم، فكيف برأفتِه
ﷺ بعِباد الله.
عِفَّتُه
وصِفةُ بيعتِه ﷺ النِّساءَ
291- |
كَانَ
أَعَفَّ النَّاسِ لَيْسَ يُمْسِكُ |
|
أَيْـدِيَ
مَـنْ لَيْسَ لَـهُـنَّ يَمْلِكُ |
292- |
يُـبَـايِـعُ
النِّسَـاءَ لَا يُصَـافِـحُ |
|
أَيْـدِيَـهُـنَّ
بَـلْ كَـلَامٌ صَـالِحُ |
و(كَانَ)
رسولُ اللهِ ﷺ (أَعَفَّ النَّاسِ) أي أكثرَهم عِفّةً ونَزاهةً
عمّا لا يليق بِه ﷺ، فالعَفيفُ هو مَن يُباشِرُ الأمورَ على وَفْق الشَّرع
والمروءةِ، ومِن عِفَّتِهِ ﷺ أنّهُ (لَيْسَ يُمْسِكُ) أو
يَمَسُّ بلا حائِلٍ (أَيْدِيَ مَنْ) أي مِن
النِّسوةِ الّتي (لَيْسَ لَهُنَّ يَمْلِكُ) مِلكَ يَمِينٍ أو لَسْنَ
مِن زَوجاتِهِ أو مَحارِمِهِ، فإنّه ﷺ كان (يُبَايِعُ النِّسَاءَ)
مِمّن سِوَى مَحارِمِه وإمائِهِ بِلا مَسٍّ لَهُنَّ في البَيعاتِ الّتي بايعهُنَّ
بها كبيعَتِه لَهُنَّ ﷺ يومَ فَتحِ مكّةَ على الصَّفا بعدَ مُبايعَتِه الرِّجالَ،
فـ(ـلَا يُصَافِحُ) بيَدِه (أَيْدِيَهُنَّ بَلْ) هوَ (كَلَامٌ صَالِحُ) يقولُهُ لَهنَّ ﷺ عندَ المبايَعةِ.
وقد كانتَ مُبايَعتُه ﷺ
للنّساء أن يأخُذَ علَيهِنّ العَهدَ والميثاقَ، فإذا أقرَرْنَ بأَلسِنَتِهنّ قال:
«قَدْ بَايَعْتُكُنَّ»، وقد ذَكر أبو بكر النّقّاشُ([28])
وَجهًا ءاخَرَ فِي صفة بَيعةِ النِّساء، أنَّ رسولَ الله ﷺ كانَ يَغمِسُ يَدَه في
إناءٍ وتَغمِسُ المرأةُ يَدَها فيه عِندَ المُبايَعة مِن غَير أنْ يمَسَّها فيكون
ذلك عَقْدًا للبَيعة([29])،
قال ابنُ الجوزيّ: والقول الأولُ – أي المُبايعةُ بالكَلامِ فقط – أثبتُ([30]).
وقد سبَقَ الكلامُ على
نَصِّ بَيعةِ النِّساءِ في بابِ «عَرضِ النّبيّ نفسَه عَلَى القبائلِ وبَيعةِ
الأنصارِ لَهُ ﷺ».
فَصلٌ
في تَعفُّفِه ﷺ عَن مَسِّ مَن لا تَحِلُّ له بِلا
حَائِلٍ
ثبتَ بالأدِلّةِ
الكثيرةِ أنّ رسولَ الله ﷺ كانَ لا يُصافِحُ النِّساءَ، مع أنّه ﷺ أملَكُ النّاسِ لإرْبِه
وأعفُّهُم، فمِن ذلكَ:
– قال محمد بن
خليفةَ الأُبِّيُّ([31])
في «شرح مُسلم»([32]):
“قال ابنُ عطِيّة: اختَلَفَتْ هَيئةُ بَيعةِ النِّساءِ لرَسولِ الله ﷺ بعدَ الإجماعِ
على أنّه ﷺ لم يَمَسَّ يَدَ امرأةٍ قَطُّ“.
– ما رواهُ ابنُ ماجهْ والنَّسائيُّ عن
أُمَيمةَ بنتِ رُقَيقةَ([33])
قالتْ: جِئتُ النَّبِيَّ ﷺ في نِسْوةٍ مِن الأنصار نُبايِعُه فَقُلنا: يا رَسُولَ
اللَّهِ، نُبايِعُكَ عَلَى أَنْ لا نُشرِكَ بِاللَّهِ شَيئًا، وَلا نَسرِقَ، وَلا
نَزنِيَ، وَلا نَأتِيَ بِبُهتانٍ نَفتَرِيهِ بَينَ أَيدِينا وَأَرجُلِنا، وَلا
نَعصِيكَ فِي مَعرُوفٍ، قالَ ﷺ: «فِيما استَطَعتُنَّ وَأَطَقتُنَّ».
قالَتْ: قُلنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرحَمُ بِنا، هَلُمَّ نُبايِعْكَ يا رَسُولَ
اللَّهِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ،
إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ
مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ([34])».
– وما رواهُ الشَّيخانِ مِن حديثِ عائشةَ
رضي الله عنها قالتْ: «وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَدَ
امْرَأَةٍ قَطُّ».
– وما رواهُ الطّبرانيُّ في «المعجم
الكبير» و«الصغير» عَن حَجّةَ بنتِ قُرَيطٍ عَن أُمِّها عَقِيلةَ بنتِ عُبَيدِ بنِ
الحارِثِ قالتْ: جِئتُ أَنا وَأُمِّي قَرِيرَةُ بِنتُ الحارِثِ العُتْوارِيَّةُ
فِي نِساءٍ مِنَ المُهاجِراتِ فَبايَعْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ ضارِبٌ عَلَيهِ
قُبَّةً بِالأَبطَحِ وَأَخَذَ عَلَينا أَلّا نُشرِكَ بِاللَّهِ شَيئًا، الآيَةَ
كُلَّها، فَلَمّا أَقرَرْنا وَبَسَطْنا أَيدِيَنا لِنُبايِعَهُ قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لَا أَمَسُّ أَيْدِي النِّسَاءِ».
– وروَى الرُّويانيُّ في «المُسنَد»
والطّبرانيّ في «المعجَم الكبير» عَن مَعقِل بنِ يَسارٍ أنّ رسولَ الله ﷺ قالَ: «لَأَنْ
يُطْعَنَ فِي رَأْسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ».
وقد شَذَّ في مسألةِ
تحريمِ مَسِّ الأجنبيّةِ ومُصافحتِها بلا حائِلٍ “حزبُ التّحرير”
وزعيمُهم المؤسِّسُ المدعو تقيّ الدّين النّبهانيّ (ت 1398هـ) إذْ قال في كتابِه
المسمَّى «النِّظام الاجتِماعيّ في الإسلامِ» ما نصُّه([35]):
“أمّا بالنِّسبةِ للمُصافَحةِ فإنّه يَجُوزُ للرَّجُلِ أنْ يُصافِحَ المرأةَ
وللمَرأةِ أنْ تُصافِحَ الرَّجُلَ دُونَ حائِلٍ بَينَهُما”، وبنحو ذلكَ قال
في كتابٍ ءاخَرَ له([36]).
وقد تَبِعَهُ جماعَتُه
على هذا القولِ وتبنَّوه وذكروه جِهارًا في مُصنَّفاتِهم وعَمِلوا به.
وأضَلُّ مِن ذلكَ قولُ
“حزب التّحرير” بأنّ العبدَ يَخلُق فِعلَه، وهي مَقالةٌ كُفريّةٌ
سبَقَهُم إليها المعتزلةُ، ومِن أشنَعِ النُّصوصِ الّتي قالَها النّبهانيُّ قولُه([37]):
“وهذه الأفعالُ – أي أفعالُ الإنسان – لا دخَلَ لها بالقَضاءِ ولا دخَلَ
للقَضاءِ بها، لأنّ الإنسانَ هو الّذي قامَ بِها بإرادَتِه واختِيارِه، وعلى ذلكَ
فإنَّ الأفعالَ الاختِيارِيّةَ لا تَدخُلُ تحتَ القَضاء”، وهذا الكلامُ
مُعارِضٌ للقرءانِ مُكذِّبٌ له، فالله تعالى يقول: ﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂﱠ.
وقد جاءَ في كِتاب
«القَدَرِ» للبيهقيّ وكتاب «تهذيب الآثار» لابنِ جريرٍ الطَّبري رحمهُما الله
تعالَى عن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهُما أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «صِنْفَانِ
مِنْ
أُمَّتِي لَيْسَ
لَهُما نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ القَدَريَّةُ وَالمُرْجِئةُ».
وقال الإمامُ أبو
منصورٍ البغداديُّ([38]):
“أصحابُنا أجمَعوا على تكفيرِ المعتزلةِ”، وقال الحافظ محمد المرتضى
الزَّبِيدي([39]):
“لم يَتَوقَّفْ عُلماءُ ما وراءَ النَّهرِ في تَكفيرِ المعتزلةِ”.
فالمعتزلةُ همُ
القدَرِيةُ لأنَّهُم جعَلُوا اللهَ والعَبدَ سَواسِيةً بنَفْيِ القُدرةِ عنهُ عزَّ
وجلَّ على ما يُقْدِرُ عليهِ عَبْدُهُ، فكأنَّهُم يُثبِتونَ خالِقَينِ في الحقيقةِ
كما أثبتَ المَجوسُ خالِقَينِ خالِقًا للخيرِ هو عِندَهم النُّورُ وخالقًا
للشَّرِّ هو عِندَهُم الظّلامُ.
إكرامُه
ﷺ لأصحابِه الكِرامِ
293- |
أَشَـدُّهُـمْ
لِصَـحـبِـهِ إِكْـرَامَا |
|
لَيْـسَ
يَـمُـدُّ رِجْـلَـهُ احْـتِـرامَا |
294- |
بَـيْـنَـهُـمُ
وَلَـمْ يَكُـنْ يُـقَـدِّمُ |
|
رُكْـبَـتَـهُ
عَلَى الجَلِيسِ يُكْرِمُ |
295- |
فَـمَـنْ
بَـدِيـهَـةً رَءَاهُ هَـابَـهُ |
|
طَـبْـعًا
وَمَـنْ خَـالَطَـهُ أَحَـبَّـهُ |
وهو ﷺ (أَشَدُّهُمْ) أي أكثرُ النّاسِ (لِصَحبِهِ)
أي أصحابِه (إِكْرَامًا) على الإطلاقِ وليسَ في أمرِ
الإطعامِ فقط، والصَّحبُ اسمُ جَمعٍ لصاحبٍ بمعنَى الصحابيّ، وهو الّذي جرَى عليه
سيبويهِ رحمه اللهُ وهو قولُ الجمهورِ([40])
خلافًا للأخفَشِ.
وصُوَرُ إكرامِه
لأصحابِه ﷺ كثيرةٌ جِدًّا لا يُحصِيها إلّا اللهُ عزَّ وجلَّ، فمِن ذلكَ أنّهُ (لَيْسَ) أي لَم يَكُن ﷺ (يَمُدُّ رِجْلَهُ) أمامَ
جُلَسائِهِ مِن الصّحابةِ (احْتِرامًا) لَهُم إذا كانَ
(بَيْنَهُمُ) ولم تَكُن رُكبتاهُ الشّريفتانِ ﷺ تتقدَّمانِ
رُكبةَ جَلِيسه، كما أنّه كانَ ﷺ يُوَسِّعُ لَهُم إذا ضاقَ بِهِم المكانُ، وكان
يُرشِدُ أصحابَه في مِثلِ ذلكَ ويَكرَه أنْ يُقامَ الرّجلُ مِن مَجلسِه ويَجلِسَ
فيهِ ءاخَرُ ويقولُ ﷺ: «تَفَسَّحُوا([41])
وَتَوَسَّعُوا» رواه الشَّيخانِ.
(وَلَمْ يَكُنْ)
ﷺ (يُقَدِّمُ) في مَجلِسٍ (رُكْبَتَهُ) الشّريفةَ (عَلَى) رُكبةِ (الجَلِيسِ) عِندَهُ مِن
أصحابِهِ بل (يُكْرِمُ) جليسَهُ بأنْ لا يُضيّقَ المكانَ
عليهِ شفَقةً وتواضُعًا مِنهُ ﷺ، وقد اقتبَسَ النّاظمُ هذا مِن حديثِ ابنِ ماجهْ
في «السُّنَن»: «وَلَمْ يُرَ مُتَقَدِّمًا بِرُكْبَتَيْهِ جَلِيسًا لَهُ([42])
قَطُّ».
(فَمَنْ)
كانَ (بَدِيهَةً) أي فجأةً وبَغْتةً (رَءَاهُ) ﷺ (هَابَهُ) أي تَهَيَّبَ
لرؤيتِهِ ﷺ ووقَع في قلبهِ الهَيبةُ مِنهُ ﷺ وذلك لِمَا له مِن الوَقارِ والهيبةِ (طَبْعًا) أي بِطَبِيعَتِه وسَجِيَّتِهِ، (وَمَنْ خَالَطَهُ)
مَعرِفةً عَرَف ما كان علَيه مِن حُسن العِشرة ﷺ والبَشاشةِ وكرَمِ الخِصال وحُسنِ
الفعالِ فـ(ـأَحَبَّهُ) حُبًّا بليغًا لكمالِ أخلاقِهِ
وعِظَمِ قَدْرِه ﷺ.
وكلامُ النّاظِم هُنا
مُقتبَسٌ أيضًا مِن حديثِ التّرمذيِّ في «السُّنَن» عن عليّ رضي الله عنه قال:
«مَنْ رَءَاهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ».
خِدمتُه
ﷺ نَفْسَه وأهلَه وغَيرَهُم
296- |
يَمْشِيْ
مَعَ الْمِسْكِينِ وَالأَرْمَلَةِ |
|
فِي
حَـاجَـةٍ مِـنْ غَـيْـرِ مَا أَنَفَةِ |
297- |
يَـخْصِـفُ
نَعلَـهُ يَـخِيطُ ثَـوْبَهُ |
|
يَـحْـلِـبُ
شَاتَـهُ وَلَـنْ يَـعِـيبَهُ |
298- |
يَـخْـدُمُ
فِـي مَـهْـنَـةِ أَهْلِهِ كَمَا |
|
يَـقْـطَـعُ
بِالسِّـكِّينِ لَحْمًا قُدِّمَا |
299- |
يُـرْدِفُ
خَـلْـفَـهُ عَلَـى الحِمَارِ |
|
عَلَى
إِكَـافٍ غَيْـرَ ذِي اسْتِكبَارِ |
300- |
يَمْشِـيْ
بِـلَا نَعْلٍ وَلَا خُـفٍّ إِلَى |
|
عِـيَـادةِ
الْمَرِيـضِ حَـوْلَهُ الْمَلَا |
ولم يَكُن ﷺ يأْنَفُ
ويَستنْكِفُ أنْ يُماشيَ الفُقراءَ والعبيدَ بل (يَمْشِي مَعَ
الْمِسْكِينِ) والفقيرِ والعبيدِ فيَقضِي لهُم حاجَاتِهم (وَ)كان ﷺ يَمشِي كذلكَ مع (الأَرْمَلَةِ)
وهيَ مَن ماتَ زَوجُها، وكانتِ الأرمَلةُ تأتِي إليهِ فتَطلُبُه (فِي حَاجَةٍ) لَها فيَذهَبُ ﷺ ليَقضِيَها لَها (مِنْ غَيْرِ مَا أَنَفَةٍ) مِنهُ أي مِن غَيرِ ترفُّعٍ منهُ
واستِكبارٍ، وهو الّذي رواهُ النَّسائيُّ في «السُّنَن» عن عبدِ الله بنِ أبِي
أوْفَى قالَ: «وَلا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ والْمِسْكِينِ
فَيَقْضِيَ لَهُ الْحاجَةَ».
وروَى الطَّبرانيُّ في
«المُعجَم الكبير» عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما قال: «إنْ كانَ الرَّجُلُ
مِنْ أهْلِ العَوالِي([43])
لِيَدْعُو رَسُولَ اللهِ ﷺ بِنِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ
فَيُجِيبُ».
وروَى مُسلِمٌ في
«صحِيحِه» وأبو داودَ في «سُنَنِه» عَن أنسٍ قالَ: جاءَتِ امرَأةٌ إلى رَسولِ اللهِ
ﷺ فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لِي إليكَ حاجَةً، فقال لها: «يَا أُمَّ
فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ نَوَاحِي السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ»،
فجلَسَتْ فجَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ إليها حتّى قَضَى حاجَتَها.
وروَى البُخاريُّ في
«صحيحِه» وبعضُ أصحابِ السُّنَنِ عَن أنسٍ قالَ: «إنْ كانَتِ الأمَةُ مِن إماءِ
أهْلِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ([44])
رَسُولِ اللهِ ﷺ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ».
وكانَ ﷺ يَخدُمُ
نَفسَهُ فـ(ـيَخْصِفُ) أي يَخرُز
ويَرقَع (نَعلَهُ) بِيَدِهِ ﷺ وذلِك بِضَمِّ طاقةٍ مِنها
على الأخرَى، وأصلُ الخَصْفِ الضّمُّ والجَمعُ، ومنه قولُه تعالى: ﱡﭐ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓﱠ
أي يُطَبِّقانِ ورقةً فوقَ ورَقةٍ على بدَنِهما.
و(يَخِيطُ) بَفتح الياءِ أي
يَرقَعُ (ثَوْبَهُ) بِجَعْل قِطعةِ قُماشٍ في الموضعِ
الّذي انخَرَق مِنه يَسُدُّه بِها، وسيأتي الكلامُ على خُلُقِه ﷺ في اللِّباس([45]).
وكانَ ﷺ (يَحْلُبُ) بضمِّ اللامِ ويجوزُ كَسرُها (شَاتَهُ)
بِيَدِهِ أيضًا ولا يَأنَفُ ذَلِكَ (وَلَنْ يَعِيبَهُ) حينَ
يَفعَلهُ بنَفسِه ﷺ.
وكانَ ﷺ (يَخْدُمُ) بضمّ الدالِ وتُكسَرُ أي يقومُ بالخِدمةِ (فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ) أَيْ يَشتغِلُ في مصالِحِ مَن
يَعولُهُم. واختُلِفَ في ضَبطِ الميمِ، فقال ابن الأثير في «النِّهايةِ»:
“المَهْنةُ الخِدمةُ والرِّوايةُ بِفَتح الميم وقَد تُكسَرُ” اهـ.
وَقالَ الأصمَعِيُّ: “المَهْنةُ بِفَتحِ الميمِ ولا يُقالُ مِهنةٌ
بالكَسرِ” اهـ، وقال المِزِّيُّ: “إنَّ الكَسرَ أحسَنُ” اهـ.
(كَمَا)
كانَ ﷺ (يَقْطَعُ بِالسِّكِّينِ) معَ أهلِهِ أو وحدَهُ (لَحْمًا قُدِّمَا) إلَيهِ، فكان يعمَلُ في ذلكَ ولا يأنَفُ أو
يقولُ: “أنا نَبِيٌّ رسولٌ فكيفَ أعملُ في الخِدمة بالبَيتِ؟!” بل في
اشتغالِهِ ﷺ في مَهنةِ الأهل والنَّفسِ إرشادٌ لغيرهِ إلى التّواضُع وتركِ
التَّكَبُّر، فهو ﷺ مُشَرَّفٌ بالنُّبُوّة والرِّسالةِ ومُكَرَّمٌ بالمُعجزاتِ ومع
ذلك فهو يخدُمُ أهلَه.
إردافُه ﷺ
أصحابَه على الدّابّةِ خَلفَه
وكانَ ﷺ (يُرْدِفُ) أي يُركِبُ (خَلْفَهُ) عَبدَهُ أو
خادِمَه أو غَيرَهُما (عَلَى الحِمَارِ) وغَيرِهِ
مِن ناقةٍ وبَغلةٍ ونَحوِهما حالَ كونِه راكِبًا (عَلَى إِكَافٍ)
والإكافُ للحِمارِ كمَثلِ السَّرْجِ للفَرَس، وكان ركوبُه ﷺ على الحِمارِ مِن (غَيْرَ) أنَفةٍ أو حالِ (ذِي اسْتِكبَارٍ) أي
تَكَبُّرٍ.
ويوافقُ قولُ النّاظِم
هنا قولَ الحافظ ابن جَرِيرٍ الطّبَرِيّ فيما نقلَه عنه ابنُ بطّالٍ: “فيه
البَيانُ على أنّه ﷺ معَ مَحَلِّه وجَلالةِ مَنْزِلَتِه لم يَكُنْ يُرَفِّعُ
نَفْسَه عَن أنْ يَحمِلَ رِدْفًا معَه على دابَّتِه، ولكِنّه كان يُرْدِفُ
لتَتأسَّى به في ذلكَ أُمَّتُه، فَلا يأْنَفُوا مِمّا لم يَأْنَفْ مِنه ولا
يَسْتَنْكِفُوا مِمّا لم يَسْتَنْكِفْ مِنهُ”([46]).
وقَد صَحَّ أنّه ﷺ
ركِبَ الدّابّةَ في بعضِ الأحيانِ مِن غَيرِ إكافٍ وهو دليلُ تواضُعِه ﷺ، وقد
أركَبَ خلفَهُ مِن أصحابِه أربعينَ ونَيِّفًا([47])
مُنفَرِدِينَ كأبي بكرٍ الصِّديقِ وعُثمانَ ذِي النُّورَين وعَلِيٍّ الكَرَّارِ
وعَبدِ الله بنِ جَعفرٍ وزَيدٍ وأُسامةَ والفَضلِ وغَيرِهم، وقد نَظَمهُم ابنُ
علّانَ البَكريُّ([48])
فقال: [الطّوِيل]
لَقَدْ
أَرْدَفَ الْمُخْتَارُ طهَ جَمَاعَةً |
¯¯ |
فَسُنَّ
لَنَا الإِرْدَافُ إِنْ طَاقَ مَرْكَبُ |
أَبُو
بَكْرِ عُثْمَانٌ عَلِيٌّ أُسَامَةٌ |
¯¯ |
سُهَيْلٌ
سُوَيْدٌ جَبْرَئِيلُ المُقَرَّبُ |
صَفِيَّةُ
وَالسِّبْطَانِ ثُمَّ ابْنُ جَعْفَرٍ |
¯¯ |
مُعَاذٌ
وَقَيْسٌ وَالشَّرِيدُ المُهَذَّبُ |
وَءامِنَةٌ
مَعْ خَوْلَةٍ وَابْنُ أَكْوَعٍ |
¯¯ |
وَزَيْدٌ
أَبُو ذَرٍّ سَمَا ذَاكَ جُنْدَبُ |
مُعَـاوِيَـةٌ
زَيْـدٌ وَخَـوَّاتُ ثَابِـتٌ |
¯¯ |
كَذَاكَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي العَدِّ يُكْتَبُ |
وَأَبْنَاءُ
عَبَّاسٍ وَإِبْنُ أُسَامَةٍ |
¯¯ |
صُدَيُّ
بْنُ عَجْلَانٍ حُذَيفَةُ صَاحِبُ |
كَذَلِكَ
جَا فِيهِمْ أَبُو هِرَّ مَنْ رَوَى |
¯¯ |
أُلُوفًا
مِنَ الأَخْبَارِ تُرْوَى وَتُكْتَبُ |
وَعُدَّ
مِنَ الإِرْدَافِ يَا ذَا أُسَامَةً |
¯¯ |
هُوَ
ابْنُ عُمَيرٍ ثُمَّ عُقْبَةُ يُحْسَبُ |
وَأَرْدَفَ
غِلْمَانًا ثَلَاثًا كَذَا أَبُو |
¯¯ |
إِيَـاسٍ
وَأُنْـثَى مِنْ غِـفَارٍ تَقَـرَّبُ |
وَأَرْدَفَ
شَخْصًا ثُمَّ أَرْدَفَ ثَانِيًا |
¯¯ |
وَمَا
سُمِّيَا فِيمَا رَوَى يَا مُهَذَّبُ |
أُولَـئِـكَ
أَقْـوَامٌ بِقُـرْبِ نَـبِـيِّـهِـمْ |
¯¯ |
لَقَدْ
شَرُفُوا طُـوبَى لَهُمْ يَا مُقَرَّبُ |
وكانَ ﷺ مِن شِدّةِ
تواضُعِه (يَمْشِيْ) في بعضِ الأحيانِ (بِلَا نَعْلٍ) أي حذِاءٍ وهو ما تُوقَى به القدَمُ مِن الأرضِ (وَ)كذلك كان ﷺ يمشي في بعضِ الأحيانِ بـ(ـلَا خُفٍّ)
وهو ما يَستُر القدَمَ معَ الكَعبِ مِن شعَرٍ أو لَبِدٍ أو جِلدٍ ونَحوِها، وكان
حالُه ذلكَ في مَشيِهِ (إِلَى عِيَادةِ) أي زِيارةِ
(الْمَرِيضِ) مِن صَحبِه و(حَوْلَهُ الْمَلَا) أيِ
الملأُ مِن أصحابِهِ، وذلك تواضُعًا مِنهُ ﷺ وطلبًا للزِّيادةِ في الأجرِ.
ومِن رحمَتِه بالمَرضى
ﷺ ما ذكرَه أنسٌ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله ﷺ دخلَ على مرِيضٍ يَعودُه فقالَ له:
«أَتَشْتَهِي([49])
شَيْئًا؟ أَتَشْتَهِي كَعْكًا([50])؟»،
فقال المريضُ: نَعَم، فطَلَبوا له ذلكَ، والحديثُ رواهُ ابن ماجهْ في «السُّنَن»
وأبو يَعلَى في «المُسنَد».
وكانَ
مِن شأنِه ﷺ أنّه إذا دخَل على مريضٍ يعودُه قال له مُخفِّفًا عنه ما ألَمَّ بِه:
«لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» رواهُ البُخاريُّ.
خُلقُه
الكَريمُ ﷺ معَ جُلَسائِه
301- |
يُجَالِـسُ
الفَقِـيـرَ وَالْمِسْـكِينَا |
|
وَيُكْـرِمُ
الكِـرَامَ إِذْ يَأْتُـونَا |
302- |
لَيْـسَ
مُوَاجِـهًا بِشَـىءٍ يَكْرَهُهْ |
|
جَلِيسُـهُ
بَـلْ بِالرِّضَـا يُـواجِهُهْ |
303- |
يَـمْـزَحُ
لَا يَـقُـولُ إِلَّا حَـقَّـا |
|
يَجْلِـسُ
فِـي الأَكْـلِ مَـعَ الأَرِقَّاْ |
304- |
يَـأْتِـي
إِلَـى بَسَـاتِـنِ الإِخْـوَانِ |
|
يُـكْـرِمُـهُـمْ
بِـذَلِـكَ الإِتْـيَـانِ |
وكانَ
ﷺ (يُجَالِسُ الفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَا) أي يَجلِسُ معَهُما
جَبرًا لخواطِرِهما ومُؤانَسةً لهما وإشفاقًا عليهِما، وذِكرُ النّاظمِ الفَقِيرَ
صِنفًا والمِسكينَ صِنفًا ءاخَرَ هو مِن بابِ التّفَنُّنِ([51])
والتّنويعِ في العبارةِ لا مِن بابِ التّفرِقةِ الاصطلاحِيّةِ في عُرفِ الفُقهاءِ.
وكانَ
ﷺ يَسألُ عَن حالِ الفقراءِ والأرامِل والأيتامِ ويتفقَّدُهم، فقد روَى الشَّيخانِ
مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ امرَأَةً سَوداءَ كانَت تَقُمُّ المَسجِدَ
فَفَقَدَها رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسَأَلَ عَنها فَقالُوا: ماتَتْ، قالَ: «أَفَلَا
كُنْتُمْ ءَاذَنْتُمُونِي([52])؟!
دُلُّونِي علَى قَبْرِهَا» فَدَلُّوهُ، فَصلَّى علَيها ثُمَّ قال: «إنَّ
هَذِهِ القُبُورَ مَملُوءَةٌ ظُلمَةً عَلَى أهلِها، وَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
يُنَوِّرُها لَهُم بِصَلاتِي عَلَيهِم».
(وَ)كانَ ﷺ (يُكْرِمُ) أهلَ الفضلِ و(الكِرَامَ) مِنَ القَومِ (إِذْ يَأْتُونَا) إليهِ، والألِف في “يأتُونَا”
للإطلاق، ورُبَّما بَسَط ﷺ رِداءَهُ لبَعضِ زائِريهِ تواضُعًا لَهُم وإكرامًا.
رَوَى ابنُ ماجهْ عنِ ابنِ عُمرَ رضيَ
الله عنهُما أنّهُ رسولَ الله ﷺ قَالَ: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ
فَأَكْرِمُوهُ».
فمِن فِطنَتِه ﷺ أنّهُ كان يُحافِظُ على
تأليفِ أشرافِ القوم ترغيبًا لَهُم ولِقَومهِم في الإسلام.
وروَى
أبو داودَ في «سُنَنِه» عن عائشةَ رضي الله عنها أنّه مرَّ بها سائلٌ فأعْطَتْهُ
كِسرةً، ومَرَّ بها رَجُلٌ علَيهِ ثِيابٌ وهَيئةٌ فأقْعَدَتْهُ فأكَلَ، فقِيلَ لها
في ذلكَ فقالتْ: قالَ رسولُ الله ﷺ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ».
وكانتْ
عائشةَ رضي الله عنه مِن أكثَرِ النّاسِ عِلْمًا وأشدِّهِم فِطْنةً، وقَد فعَلَتْ
ما فعَلَتْهُ لِما عَلِمَتْ مِن تألُّفِ قلبِ الفقيرِ الأوّلِ وانْجِبارِ خاطِرِه
بذلكَ، وفعَلَتْ ما فعَلَتْهُ معَ الثّانِي لِما عَلِمَتْ مِن حالِه وتأسَّتْ
بإرشادِ النّبيّ ﷺ.
و(لَيْسَ) مِن شأنِهِ ﷺ أنْ يكونَ (مُوَاجِهًا)
أحدًا (بِشَىءٍ يَكْرَهُهْ) إلّا أنْ تقتضِي المصلحةُ
فِعلَ ذلكَ لا سيّما إذا كانَ فاعِلُ ذلكَ (جَلِيسَهُ) فلا يُخاطِبُهُ
بمكروهٍ (بَلْ) كانَ (بِالرِّضَا)
أي الكلامِ الطّيِّبِ الليِّنِ (يُواجِهُهْ) أي يَبدأهُ
بتعليمٍ أو إرشادٍ أو نُصحٍ لِمَا بدَرَ مِن مُواجِهِه، فيَكونُ ذلكَ أدعَى
للقَبولِ.
وقد
روَى أبو داودَ عَن أنسٍ رضيَ الله عنهُ أنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ
ﷺ وَعَلَيْهِ أثَرُ صُفْرَةٍ([53])
وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَلَّما([54])
يُواجِهُ رَجُلًا فِي وَجْهِهِ بِشَىءٍ يَكْرَهُهُ فَلَمّا خَرَجَ قالَ: «لَوْ
أمَرْتُمْ هَذا أنْ يَغْسِلَ ذا عَنْهُ».
ولا
يجوزُ أن يَتوهَّم مُتوهِّمٌ أنّ رسولَ الله ﷺ كان يَسكُت عن مُنكِرٍ معَ قُدرَتِه
على إزالَتِه وإنكارِه أو أنّه كانَ يُحسِّنُه لفاعِله أو يداهِنُ في ذلك لأنّ فيه
نسبة الخيانة للنّبيّ ﷺ والتقصيرِ في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكَر وهو خلافُ
قولِ الله عزَّ وجلَّ: ﱡﭐﱪ ﱫ ﱬ
ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱠ [المائدة:
67].
وكانَ ﷺ (يَمْزَحُ) معَ أصحابِه تأنيسًا لهم وتأليفًا وتخفيفًا عليهم،
وهو في مُزاحِهِ كسائرِ أوقاتِهِ صادِقٌ (لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا)
وشأنُهُ في ذلك كشأنِ جميع الأنبياءِ، فهُم مُنزَّهون عن الكَذِب في سائِر
الأحوالِ، وقد أعطاهُم الله مِن الفِطنةِ والذكاء والجُرأةِ ما يستطيعونَ دَفعَ
الظُّلمِ بهِ عن أنفُسِهِم وعَن غَيرِهِم مِن دُونِ أن يَحصُلَ مِنهُم كذِبٌ، فهُم
مُنزَّهون عن ذلك قبلَ النُّبُوّةِ وبَعدَها.
وجاءَ في مُباسطتِه ﷺ
أصحابَه ومُمازحتِه لهُم عددٌ مِن الآثارِ، منها ما روَى التّرمذيُّ وأبو داودَ في
«سُنَنِهما» عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ رَجُلًا استَحْمَلَ رسولَ الله ﷺ، فقالَ ﷺ:
«إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ»، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما
أصْنَعُ بوَلَدِ النّاقةِ؟ فقال رسولُ الله ﷺ: «وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلَّا
النُّوقُ».
وروَى ابنُ حِبّانَ في
«صحِيحه» عَن أنسٍ أيضًا أنَّ رَجُلًا مِن أهلِ البادِيَةِ يُقالُ لَهُ زاهِرُ
ابنُ حَرامٍ كانَ يُهدِي إلَى النَّبِيِّ ﷺ الهَدِيَّةَ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ إذا أرادَ أن يَخرُجَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ زاهِرًا
بادِيْنا وَنَحنُ حاضِرُوهُ»، فَأتاهُ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَبِيعُ مَتاعَهُ
فاحتَضَنَهُ مِن خَلفِهِ والرَّجُلُ لا يُبصِرُهُ فَقالَ: أَرْسِلْنِي، مَن هَذا؟
فالْتَفَتَ إلَيهِ، فَلَمّا عَرَفَ أنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهرَهُ
بِصَدرِهِ، فَقالَ ﷺ: «مَن يَشتَرِي هَذا العَبدَ؟([55])»؟
فَقالَ زاهِرٌ: تَجِدُنِي يا رَسُولَ اللَّهِ كاسِدًا، فقالَ ﷺ: «لَكِنَّكَ
عِندَ اللهِ لَسْتَ بِكاسِدٍ».
وروَى الشَّيخانِ وبعضُ
أصحابِ السُّنَنِ والطّبرانيُّ في «الأوسط» عن أنَسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ
ﷺ كانَ يَأتِي أُمَّ سُلَيمٍ يَزُورُها فَتُتْحِفُهُ بِالشّىءِ تَصنَعُهُ لهُ،
وَأخٌ لِي صَغِيرٌ يُكَنَّى أبا عُمَيرٍ، فَجاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذاتَ يَومٍ
فَقالَ: «يا أُمَّ سُلَيمٍ، ما لِي أرَى ابنَكِ خاثِرَ النَّفْسِ؟» قالَت:
يا رَسُولَ اللَّهِ ماتَتْ صَعْوَتُهُ الَّتِي كانَت يَلعَبُ بِها، فَجَعَلَ
النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيرُ؟» أي ماذا
جرَى له حيثُ لم أَرَهُ مَعَك، وفي هذا تسليةٌ للصَّبِيّ على فَقْدِه بمَوتِه.
وكانَ ﷺ (يَجْلِسُ فِي الأَكْلِ مَعَ) العَبيدِ (الأَرِقَّا)ءِ حيثُ يجلسون فلا يَتَرفَّعُ عليهم بل
كانَ ﷺ لا يأْكُلُ مُتَّكِئًا ويَقُولُ: «ءاكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ([56])
وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» أيْ من غَيرِ سُفرةٍ وخِوَانٍ جالِسًا
على الأرضِ لا على هيئةِ جُلوسِ المُلوكِ مِن أهلِ الدُّنيا والجَبَّارِين
المُتَكَبِّرين مِن التَّرَبُّع والتَّمَدُّد والاتِّكاء مع رَفعِ الرَّأسِ
وشُموخِ الأَنْفِ وعَدَمِ الالْتِفات إلى المساكِينِ والاحتِجابِ عن المُحتاجِين،
بل هو ﷺ سَيِّدُ المتواضِعِينَ لم يأكل على خِوانٍ قَطُّ.
وكانَ ﷺ (يَأْتِي إِلَى بَسَاتِنِ) أي بَساتِينِ وحدائِقِ (الإِخْوَانِ) أصحابهِ الأنصارِ قاصِدًا بذهابِهِ إليهم أنّهُ (يُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ الإِتْيَانِ) ﷺ لا بقصدِ التّنَزُّهِ
الّذي لا خيرَ فيه.
روَى ابنُ خُزيمةَ في
«صحِيحِه» أبو يَعلَى في «مُسنَدِه» والطّبرانيُّ في «الكبير» أنَّ النَّبِيَّ ﷺ
خَرَجَ وَصَاحِبَيهِ أبا بَكرٍ وعُمَرَ حَتَّى دَخَلُوا حَائِطَ([57])
أبي الهَيثم ﷺ فَسَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ فَسَمِعَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ تَسْلِيمَهُ
فَفَدَّتْ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ([58])
وَأَخْرَجَتْ حِلْسًا([59])
لَهَا مِنْ شَعَرٍ فَجَلَسُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ ﷺ: «فَأَيْنَ أَبُو
الْهَيْثَمِ؟» فَقَالَتْ: ذَاكَ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ. فَطَلَعَ
أَبُو الْهَيْثَمِ بِالْقِرْبَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمَّا أَنْ رَأَى وَضَحَ
النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّخْلِ أَسْنَدَهَا إِلَى جِذْعٍ وَأَقْبَلَ
يُفَدِّي بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلَمَّا رَءَاهُمْ عَرَفَ الَّذِي بِهِمْ([60])
فَقَالَ لِأُمِّ الْهَيْثَمِ: هَلْ أَطْعَمْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَصَاحِبَيْهِ
شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ السَّاعَةَ، قَالَ: فَمَا
عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: عِنْدِي حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: كَرْكِرِيهَا([61])
وَاعْجِنِي وَاخْبِزِي – إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْخَمِيرَ – قَالَ:
وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَرَءَاهُ النَّبِيُّ ﷺ مُوَلِّيًا فَقَالَ: «إِيَّاكَ
وَذَاتَ الدَّرِّ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أُرِيدُ عُنَيِّقًا
فِي الْغَنَمِ([62])،
فَذَبَحَ وَنَصَبَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِذَلِكَ إِليهِ ﷺ فَأَكَلَ هو ﷺ
وَصَاحِبَاهُ فَشَبِعُوا([63])
لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهَا.
فَمَا مَكَثَ
النَّبِيُّ ﷺ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْيَمَنِ،
فَجَاءَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ابْنَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ تَشْكُو
إِلَيْهِ الْعَمَلَ وَتُرِيهِ يَدَهَا وَتَسْأَلُهُ إِيَّاهُ قَالَ: «لَا،
وَلَكِنْ أُعْطِيهِ أَبَا الْهَيْثَمِ، فَقَدْ رَأَيْتُهُ وَمَا لَقِيَ هُوَ
وَمُرَيَّتُهُ([64])
يَوْمَ ضِفْنَاهُمْ([65])»،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَقَالَ: «خُذْ هَذَا الْغُلَامَ
يُعِينُكَ عَلَى حَائِطِكَ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا»، فَقَالَ: فَمَكَثَ
عِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ، فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ
مُشْتَغِلًا أَنَا وَصَاحِبَتِي بِحَائِطِنَا فَاذْهَبْ فَلَا رَبَّ لَكَ([66])
إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَخَرَجَ ذَلِكَ الْغُلَامُ إِلَى الشَّامِ وَرُزِقَ
فِيهَا.
رَجاؤُه
ﷺ أنْ يُسلِمَ دَوسٌ وثِقيفٌ وغَيرُهما
305- |
قِـيـلَ
لَـهُ يَـدْعُـو عَلَى الكُفَّارِ |
|
دَوْسٍ
وَغَـيْـرِهِمْ مِـنَ الفُجَّـارِ |
306- |
فَـقَـالَ
إِنَّـمَا بُـعِـثْـتُ رَحْـمَةْ |
|
وَلَيْـسَ
لَـعَّـانًـا نَـبِـيُّ الرَّحمَةْ |
307- |
بَـلْ
سَـألَ اللَّهُمَّ فَاهْـدِ دَوْسَـا |
|
وَأْتِ
بِـهِـمْ فَأَصْـبَحُـوا رُؤُوسَـا |
(قِيلَ لَهُ)
ﷺ مِن قِبَلِ بعضِ أصحابِهِ أنْ لَوْ (يَدْعُو) بالهلاكِ
والبَلاءِ والمصائِب (عَلَى) فِئاتٍ مِن (الكُفَّارِ) الّذِينَ ءاذَوهُ وءاذَوا أصحابَهُ وكادُوا لَهُم
كيدًا ورفَضُوا دَعوَتهُ إلى الإسلامِ كقبيلةِ (دَوْسٍ) بطنٍ
مِن الأزْدِ باليَمِن ومِنهُم أبو هُريرةَ رضي الله عنه، وكان
سائِلُ النَّبِيّ ذلكَ
الصّحابيَّ الطُّفَيل بنَ عَمرٍو الأزْدِيَّ، وسيأتي خبرُهُ.
(وَ)قد
سألَ النَّبِيَّ ﷺ غيرُ الطُّفَيلِ أنْ يَدعوَ على أصنافٍ (غَيْرِهِمْ)
أي غيرِ دَوسٍ (مِنَ) الكافرِينَ (الفُجَّارِ)
أي المُنبَعِثِينَ في المَعاصِي كثَقِيفٍ بطنٍ مِن هَوازِنَ، فما كان مِنهُ ﷺ إلّا
أنْ دَعا لَثقيفٍ بالهِداية.
وروى مُسلِمٌ في
«صحيحِه» أنه لَمَّا كُسِرَت رَباعِيَته الشّريفةُ وشُجَّ وَجهُه المُبارَكُ يومَ
أحُدٍ شَقَّ ذلكَ على أصحابِه وقالوا: لو دَعوتَ علَيهِم يا رسولَ اللهِ، (فَقَالَ) ﷺ (إِنَّمَا بُعِثْتُ) إلى
النّاسِ داعِيًا و(رَحْمَةً) للخَلْقِ أي ليُخرِجَهُم ﷺ مِن
ظُلُمات الجَهل والكُفرِ إلى نُورِ الإيمانِ والطّاعةِ.
(وَلَيْسَ)
أي ولَم يَكُن ﷺ (لَعَّانًا) أي مُكثِرًا للَّعنِ بِحَقٍّ معَ
كونِ ذلكَ جائِزًا لَه ﷺ وكانَ الِخيارُ له في الدُّعاء علَيهم والدُّعاء لهم، وهو
ﷺ يختارُ الأفضَلَ، لكنّه ﷺ دَعا في بعض الأحيان على أناسٍ مِمّن يستحِقُّون ذلك
بيانًا للجَواز وتعليمًا للأمّة.
فدعاؤُه ﷺ على الكافرين
ولَعنُهُ لِمَن لعَنَ لا يكونُ إلّا بِحَقٍّ منهُ، لكنْ لَمّا رَجَا أنْ يكون مِن
قَومِه مَن يُسلِم لَمْ يَدْعُ علَيهم بل قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي
فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ».
وروَى البُخاريُّ
«صحِيحِه» عن عائشةَ رضيَ لله عنها أنّها قالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى
عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ
قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ
عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ
يُجِبْنِي إِلَى ما أَرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وَأَنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ
أَسْتَفِقْ إِلّا وَأَنا بِقَرْنِ الثَّعالِبِ([67])
فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذا أَنا بِسَحابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ
فَإِذا فِيها جِبْرِيلُ فَنادانِي فَقالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ
لَكَ وَما رَدُّوا عَلَيْكَ([68])،
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بِما شِئْتَ فِيهِمْ،
فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فَقالَ:
ذَلِكَ([69])
فِيما شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ([70])»،
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ
أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
وهو ﷺ (نَبِيُّ الرَّحْمَةْ) وهو رحمةٌ مُهداةٌ إلى الخَلْقِ، فمَن
اهتدَى بهَديِه ﷺ فقَد أفلَح وفازَ، ومَن ضَلَّ عَن هَديِه فقط خابَ وخَسِرَ.
أمّا جاء في شأنِ دَوسٍ
فإنّ الطُّفَيلَ بن عَمرٍو الدَّوسِيَّ كانَ فيهِم شريفًا فأسلَمَ وقال: يا رسول
الله إنّي امرُؤٌ مُطاعٌ في قومي، وأنا راجِعٌ إليهم فداعِيهِم إلى الإسلام، فادعُ
الله تعالى أن يَجعلَ لي ءايةً تكون لي عونًا علَيهم، فدعا له ﷺ فطلَع نُورٌ بينَ
عَينَيه مثلُ المِصباحِ حينَ أشرفَ على قَومِه، فقال عَمرٌو: اللهم في غَيرِ
وَجهِي، إنّي أخشَى أن يَظُنُّوا أنها مُثْلةٌ وقعَتْ في وَجهِي لفِراقي دِينَهم،
فتَحَوَّل النُّور فوَقَع في رأسِ سَوطِهِ كالقِنديلِ المعلَّق، فأسلَم على يَدِه
ناسٌ قَلِيلٌ، فرَجَع إلى رسول الله ﷺ وشكا ذلك إلَيه قائلًا: يا رسولَ الله إنَّ
دوسًا قد كَفَرَتْ وأَبَتْ فادْعُ اللهَ عليها، فقال النّاسُ: هَلَكَتْ دَوسٌ،
ظَنًّا مِنهُم أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ سيَدعُو علَيهِم، فلَم يفعَل ذلك ﷺ (بَلْ سَألَ) اللهَ تعالَى لَهُم الهِدايةَ قائِلًا: «(اللَّهُمَّ فَاهْدِ دَوْسَا)» ولفظُ الحديثِ بلا فاءٍ في
“اهْدِ“، ثُمّ قال: «(وَأْتِ بِهِمْ)» أي
مُسلِمِينَ، هذه روايةُ الشَّيخَين، أمّا روايةُ ففيها أنّه ﷺ استَقبلَ القِبلةَ
ورفَعَ يَدَيهِ، فقال النّاسُ: هَلَكُوا، فقال ﷺ: «اللهم اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ
بِهِم، اللهم اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِم، اللهم اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِم»،
(فَأَصْبَحُوا) بعدَ إسلامِهم (رُؤُوسَا)
وُجَهاءَ في الإسلام، وفي بعضِ الرِّواياتِ: «وَأْتِ بِهِم مُسْلِمِينَ».
وروى هشامُ بنُ
الكَلبِيّ أنّ حَبِيبَ بنَ عَمرِو بنِ حَثْمةَ الدَّوسِيَّ كانَ حاكِمًا على
دَوْسٍ، وكَذا كانَ أبُوه مِن قَبْلِه وقد عَمَّرَ ثلاثَمائةِ سنةٍ، وكان حَبِيبٌ
يقولُ: إنّي لأَعْلَم أنّ لِلخَلْقِ خالِقًا لكِنّي لا أَدرِي مَن هُوَ، فلَمّا
سَمِعَ بالنَّبِيّ ﷺ خَرَج إليهِ ومعَهُ خَمسةٌ وسَبعونَ رَجُلًا مِن قَومِه
فأَسْلَم وأَسْلَمُوا، ذكره الحافظ في «الفتح»([71]).
تتِمّةٌ في معنَى قولِه ﷺ «اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِقَوْمِي»
رُويَ عَن عُمَر رضي
الله عنه أنّ قال في بعض كلامِه: «بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رَسولَ اللهِ، لقَد
دَعا نُوحٌ عَلَى قَومِهِ فَقالَ: وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنا مِثْلَها لَهَلَكْنا
مِنْ عِنْدِ ءاخِرِنا، فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ
رَباعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلّا خَيْرًا، فَقالَ ﷺ: «اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِقَوْمِي» أي بِدخُولِهم في الإسلامِ «فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
وقَولُ النّبيّ ﷺ «اغْفِرْ
لِقَوْمِي» معناه أدخِلْهُم في الإسلام فتَغفِرَ لهم، فالكافِرُ الأصليُّ الّذي
يَدخُل في الإسلام يَغفِرُ اللهُ له كلَّ ذُنوبِه، كُفرَه وغيرَ الكُفرِ.
لَكِنْ قال شيُخنا الإمامُ الهرريُّ رضي الله
عنه: قولُ: «اللهم اغْفِرْ لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ» حَكاهُ الرَّسولُ
ﷺ عَن نَبِيٍّ مِن الأنبياءِ، أمّا نَبِيُّنَا محمَّدٌ ﷺ فلَم يَثبُت عنه أنّهُ
قالَ: «اللهم
اغْفِرْ لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ» على هذا المعنَى.
ثُمّ القَولُ بأنّه لا
يَجوزُ هذا القولُ في شَرِيعةِ محمَّدٍ وإنَّما كان جائِزًا في شرعِ إبراهيمَ غيرُ
صَحِيحٍ، ولكنّ الدُّعاءَ للكافِر بالمَغفِرةِ في حياتِه على معنى أنْ يَغفِرَ له
بإدخاله في الإسلامِ إنْ كان يُوهِمُ المحظورَ لا يَجوزُ، وإنْ كان لا يُوهِمُ
المحظورَ يَجوزُ أيْ بِحَيثُ لا يَتوهَّمُ الكافِرُ والسامِعونَ أنّ اللهَ يَغفِرُ
له معَ بَقائِه على كُفرِه.
أمّا الدّعاءَ
بالمَغفِرةِ لِمَن ماتَ على الكُفرِ مِن المكلَّفِينَ كُفرٌ لتكذيبِه النُّصوصَ
الشرعيّةَ وإجماع الأُمّةِ، قال اللهُ جلَّ وعزَّ: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱠ [التّوبة:
113]، وقال تَبارَك
وتعالَى: ﱡﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﱠ [البقرة:
161-162].
لَم
يَكُنْ ﷺ فَحَّاشًا ولا لَعَّانًا
308- |
لَـمْ
يَـكُ فَـحَّـاشًا وَلَا لَـعَّـانَـا |
|
………………………………………
|
و(لَمْ يَكُـ)ـنْ رسولُ اللهِ ﷺ فاحِشًا ولا (فَحَّاشًا) ولا مُتفحِّشَا، أمّا الفاحِشُ فهو ذو الفُحشِ في
كلامِهِ بَذيءُ اللِّسانِ، والفُحشُ القبِيحُ مِن القولِ والفِعلِ([72])، والفَحّاشُ
كثيرُ الفُحْش، وأمّا المتَفَحِّش الّذي يَتكلَّفُ سَبّ النّاسِ ويَفْحُش علَيهِم
بلِسانِه([73])، وقال
الدّاوديُّ: “الفاحِشُ الّذِي يَقولُ الفُحْشَ، والمُتَفحِّشُ الّذِي
يَستَعمِلُ الفُحْشَ لِيُضْحِكَ النّاسَ”([74]).
وقد أوصَى رسولُ الله ﷺ
أصحابَه بتَركِ الفُحشِ فقالَ: «إنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إخْوَانِكُمْ،
فَأصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَأصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأنَّكُمْ شَامَةٌ
فِي النَّاسِ، فَإنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ»
رواهُ أبو داودَ.
(وَلَا) كان (لَعَّانَا) أي مُكثِرًا للَّعْنِ على مَن يَستحِقُّهُ،
واللَّعنُ هو الدُّعاءُ بِالطّردِ مِنَ الرّحمةِ (وَلَا) كانَ (بَخِيلًا) في الإنفاقِ بما يَنبغي بل هو ﷺ أجودُ النّاس بالخير
أي بِكُلِّ ما يَنفَعُ النّاسَ في دُنياهم وأُخراهُم مِن نصيحةٍ وإرشادٍ ودُعاءٍ
لَهُم وتوجيهٍ وإنفاقٍ عليهم وبَذلٍ لَهُم، فلَم يَكُن فيهِ شىءٌ مِن ذمِيمِ
الخِصالِ (لَا) وهذه النّافيةُ في النَّظم للتّأكيدِ.
أمّا اللّعنُ
والسِّبابُ بغيرِ حَقٍّ فإنّه ﷺ مُنزَّهٌ عنه، وأمّا ما جاء في الحديثِ المرفوع: «فَأيُّما
مُؤْمِنٍ ءاذَيْتُهُ أوْ شَتَمْتُهُ أوْ جَلَدْتُهُ أوْ لَعَنْتُهُ فاجْعَلْها
لَهُ صَلاةً وَزَكاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِها يَوْمَ الْقِيامَةِ»
فتفسيرُهُ كما قالَ شيخُنا الحافِظُ الهرريُّ رضيَ الله عنهُ: “لا يَحصُل
مِنهُ ﷺ أنْ يَلعَنَ مُسلِمًا ظُلمًا، لكنّه مِن شِدّةِ رَحمَتِه وشفَقَتِه على
المُسلِم طَلَب مِن رَبِّه أنّه إنْ صَدَر منه ﷺ لَعنُ إنسانٍ مُسلِمٍ أو شَتْمُه
أو ضَربُه أي بحقٍّ، وكان هذا الإنسانُ بحسَبِ الظّاهِر مُسلِمًا في الوقت الّذي
يَشتُمُه، ولا يَدرِي بِما يُختَم له، هل يُخْتَمُ له بَعدَ ذلك بالإيمانِ أو
بالتُّقَى، فطَلَب أنْ يَكونَ هذا الشَّتمُ لهذا المُسلِم المُستَحِقِّ سَبَبًا
لِتَوبَتِه، وليس مَقصودُ الرَّسولِ ﷺ أنّه قد يَضرِبُ أو يَلعَنُ إنسانًا بغيرِ
حَقٍّ فهذا لا يَجوزُ اعتِقادُه في حقِّ الرَّسولِ ﷺ بل مُستحِيلٌ عليه ذلك، إنّما
الّذي يَجوزُ على الرّسولِ هو أنْ
يَضرِبَ إنسانًا
مُسلِمًا مُستَحِقًّا لذلكَ تأدِيبًا له ليكونَ ذلكَ مُحرِّضًا له على
التّوبةِ” اهـ.
فيُعلَمُ مِن ذلكَ أنّ
ما جاءَ في بعضِ الكُتُبِ مِن قَولهم فِي تفسيرِ هذا الحدِيثِ: “تلكَ الأذيّة
التي صدَرَتْ بمقتضَى ضَعْف البشَرِية لِمَن ءاذَيْتُه مِن المؤمنينَ” فهو
كلامٌ ساقِطٌ
باطِلٌ لا يجوزُ
حَملُهُ على نَبِيّ مِن أنبياءِ الله عليهِمُ السّلامُ.
وقد ضَلَّ يوسُف
القَرضاويّ المِصريُّ وكذَّبَ الشّريعةَ بادّعائِه أنّ النَّبِيّ قد يَشتُم
مُسلِمًا بدُون سببٍ وبغيرِ حَقّ. فسُبابُ المسلِم فُسوقٌ، ومَن نسَبَ الفُسوقَ
إلى النّبِيّ فقَد كَفَر لأنّه يكونُ هو مَنِ افتَرَى على الرَّسُول ﷺ وشَتَمه
واستَخَفَّ به وبِمَنِصبِه إذْ جوَّز عليه الفُسُوقَ، وهو بذلك هادِمٌ لأمرِ
العِصمةِ طاعِنٌ في مَنصِب النُّبُوّةِ.
379- |
………………………………………
|
|
وَلَا
بَـخِـيـلًا لَا وَلَا جَـبَـانَـا |
ولم يَكُن النّبِيُّ ﷺ
هَيوبًا (وَلَا جَبَانًا) بل كان أشجَعَ النّاسِ، وقد
سبقَ الكلام على ذلك في بابِ: ذِكر أخلاقِهِ الشّرِيفة ﷺ، والهَيوب هُنا
بمعنَى الجبانِ الذي يَهابُ النّاسَ، أمّا ما جاء في الحديثِ الموقوف على
التّابِعِيّ عُبيدِ بنِ عُمَيرٍ: «الإيمانُ هَيوبٌ» فمعناهُ أهلُ الإيمانِ
الكُمَّلُ يُهابونَ أو شأنُ المُؤمِنِ الكامِلِ أنْ يَهابَ اللهَ تعالَى ويَخشَى
أنْ يَعصِيَهُ، قاله ابن الأثير([75]).
فهو ﷺ أشجَعُ النّاسِ
وأثبتُهم قلبًا، قال القاضي عِياضٌ: “وكان ﷺ منَ الشجّاعةِ والنَّجْدةِ
بالمَكانِ الّذي لا يُجهَل، قد حضَرَ المواقِفَ الصّعبةَ، وفَرَّ الكُماةُ
والأبطالُ عنهُ غيرَ مَرّةٍ، وهو ثابِتٌ لا يَبرَحُ ومُقبِلٌ لا يُدبِرُ ولا
يَتزحْزَحُ”([76]).
وقَد جاءَ في وَصفِ
شجاعَتِه ﷺ أحاديثُ كثيرةٌ جِدًّا مِنها ما رواهُ الشَّيخانِ أنّ رجُلًا قال
للبَراءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنه: أفَرَرتُم عَن رَسولِ اللَّهِ ﷺ يَومَ حُنَينٍ؟
قال: لَكِنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ لَم يَفِرَّ، إنَّ هَوازِنَ كانوا قَومًا رُماةً،
وَإنّا لَمّا لَقِيناهُم حَمَلْنا عَلَيهِم فانهَزَموا، فَأقبَلَ المُسلِمونَ
عَلَى الغَنائِمِ واستَقبَلونا بِالسِّهامِ، فَأمّا رَسولُ اللَّهِ ﷺ فَلَم
يَفِرَّ، فَلَقَد رَأيتُهُ وَإنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ البَيضاءِ وَإنَّ أبا
سُفيانَ([77]) ءَاخِذٌ
بِلِجامِها([78]) والنَّبِيُّ
ﷺ يَقولُ: «أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْ([79])، أنا
ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ»([80]).
اختِيارُه
ﷺ أيسَرَ الأُمورَ ما لَم يَكُنْ مأثَمًا
380- |
يَـخْـتَـارُ
أَيْسَــرَ الأُمُـورِ إذْ مَـا |
|
خُـيِّـرَ
إِلَّا أَنْ يَـكُـونَ إِثْـمَـا |
ومِن حِكمَتِه ﷺ أنّهُ
كانَ (يَخْتَارُ أَيْسَرَ) أي أسهَلَ (الأُمُورِ) أيْ (إذْ مَا خُيِّرَ) بَينَ
أمرَينِ وذلكَ تيسيرًا على أُمَّتِهِ ﷺ وإشفاقًا عليهِم (إِلَّا أَنْ يَكُونَ)
الأيسرُ مِنَ الأمرَينِ (إِثْمًا) فإنّه يكونُ أبعدَ
النّاسِ مِنَ الإثمِ تنزُّهًا واجتِنابًا.
فإنْ
قِيلَ: لا يُخَيِّرُهُ اللهُ بينَ فِعلِ الإثمِ وما لا إثمَ فيه، فما معنَى قولِ
عائشةَ رضيَ الله عنها الّذي تَبِعَها فيهِ النّاظِمُ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ
إِثْمًا»؟
فالجوابُ كما قالَ
الحافظُ النّوويُّ([81]):
“إنّما يُتصوّرُ ذلك إذا خيّرهُ الْكُفّارُ والْمُنافِقُون، فأمّا إِنْ كان
التّخْيِيرُ مِن اللهِ تعالى أوْ مِن الْمُسْلِمِين فيكُونُ الِاسْتِثْناءُ
مُنْقطِعًا” اهـ أي لا يُخَيِّرُهُ
الله إلّا بينَ خَيرَينِ، كما يُقالُ: حسَنٌ وأحسَنُ، ويؤيِّدُ هذا الرِّوايةُ
الأخرى: «ما خُيِّرَ بينَ أَمْرَينِ إلّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا».
وعليهِ فيكونُ تَقديرُ
ما في البَيتِ: يَخْتَارُ أَيْسَرَ
الأُمُورِ” أي أسهَلَهَا “إذْ
مَا خُيِّرَ” بَينَ أمرَينِ لأنّه ﷺ يُحِبُّ التّخفيفَ عن أُمّتِه، وكذلِكَ
كانَ يَفعلُ إنْ خَيَّرَهُ الكُفّارُ والمُنافِقونَ “إِلَّا أَنْ يَكُونَ” المُخيَّرُ فِيهِ “إِثْمًا فإنّه يكونُ أبعدَ النّاس مِنهُ.
381- |
لَـمْ
يُـرَ ضَـاحِـكًـا بِـمِـلْءِ فِيهِ |
|
ضَـحِـكُـهُ
تَـبَـسُّـمٌ يُـبْـدِيـهِ |
ومِن كَرِيمِ شِيمَتِه
وعُلوِّ أدبِهِ وكَمالِ هَيبَتِه ﷺ أنّهُ (لَمْ يُرَ) قَطُّ (ضَاحِكًا) يُقَهقِهُ (بِمِلْءِ فِيهِ) بصَوتٍ كما
تضحكُ عامّةُ النّاسِ قَهقهةً بل (ضَحِكُهُ) ﷺ (تَبَسُّمٌ) جَمِيلٌ (يُبْدِيهِ) أي يُظهِرُهُ
انفِراجُ الشَّفتَينِ الشَّريفتَينِ الكاشفتَينِ عَن الثّنايا لا ضَحِكٌ على
سَبِيل المبالَغةِ كالّذي يَصدُرُ معهُ مِنَ الضّاحِكِ صَوتٌ مُرتفِعٌ أو تظهَرُ
معَهُ لَهاةُ الضّاحِك.
ولا يُنافي ما ذُكِرَ
هنا الحديثُ الّذي رواهُ الشَّيخانِ أنّه ﷺ «ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»
لأنّ ظُهور النَّواجِذ – وهي الأسنانُ الّتي في مُقَدَّمِ الفَمِ أو الأنيابُ – لا
يَستلزِمُ قَهقهةً ولا ظُهورَ لَهاةٍ([82])،
والدَّلِيلُ على أنّه ﷺ ضَحِك بهيئةٍ فوقَ مجرَّدِ التبسُّمِ الخفيفِ الّذي لا
تَظهَرُ معه الأسنانُ ما جاءَ في الرِّواياتِ الّتِي أثبتَتْ ظُهورَ بَعضِ أسنانِه
كالنَّواجِذ وهو يَضحَكُ.
فإنْ قيل: إنَّما
النواجِذُ أواخِرُ الأسنانِ ولا تَظهَرُ إلا في الضَّحِك المبالَغ فيه.
فالجواب: أنّهُ وإنْ
أُرِيد بالنَّواجِذ الأواخِرُ مِن الأسنان لا الأنيابُ إلّا أنّ المرادَ ضَحِكُهُ
في بعضِ الأحيان بهَيئةٍ فوق حالِه الغالِب مِن التبسُّم وليستْ هي الهيئةَ
المعتادةَ عند العوامّ في القَهقهةِ، وهذا معنى ما ذكره الكَرمانيُّ([83])والحافظ
العسقلانيّ([84])
وغيرُهما([85]).
فمَن تَتَبَّعَ الآثارَ
المروِيّةَ عَرَفَ أنّ الجمعَ بين الوارِد في أنّهُ ﷺ كان ضَحِكُه تبسُّمًا
والمأثورِ في أنّه ضَحِك أحيانًا حتّى بَدَت نواجِذُهُ تبيَّن لَهُ أنّ معناه
تَبَسَّمَ إلى ذلك الحدّ. وقد ثَبَت في الحديث الّذي رواهُ ابنُ ماجهْ في
«السُّنَن» عن أبي هريرةَ عن النّبيّ ﷺ قال: «أَقِلَّ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ
الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» أي تَجلِبُ الغفلةَ، وأكثرُ ما تنشأُ عنه كثرةُ
الضَّحِكِ حُبُّ الدُّنيا فيَموت القلبُ مِن استحكامِ الغَفلةِ واستِحواذِها
عليهِ، وإنْ ماتَ القلبُ أمسَى قاسِيًا لا يتأثَّر بالمواعِظ، فلذلك لم يَكُن دأبُ
الصَّالحين غَلَبةَ الضّحِكِ على أحوالِهم ومَقاماتِهم.
مُباسطَتُه
ﷺ أصحابَه وجُلسَاءَه وعدَمُ انتِهارِه
خَدَمَه
382- |
يَعْجَـبُ
ممَّا يَعْجَـبُ الجَلِيـسُ |
|
مِـنْـهُ
فَـمَـا بِوَجْهِهِ عُـبُـوسُ |
383- |
أَصْـحَـابُـهُ
إذْ يَـتَـنـاشَـدُونَا |
|
بَيْنَهُمُ
الأَشْـعَـارَ يَضْـحَكـونَا |
384- |
وَيَـذْكُـرُونَ
جَـاهِـلـيَّـةً فَـمَـا |
|
يَـزِيـدُ
أَنْ يَشْـرَكَـهُـمْ تَبَسُّـمَا |
وكان ﷺ (يَعْجَبُ) أي يتعَجَّبُ (ممَّا يَعْجَبُ الجَلِيسُ)
أي يتعَجَّبُ (مِنْهُ) تطييبًا لخواطِرهِم ومؤانَسةً وجبرًا
لقلوبِهم([86]).
وكان ﷺ طَلْقَ الوَجهِ
مَلِيحَ البِشْرِ مع القريبِ والغريبِ والأدنَى والبعيدِ والغَنِيّ والفقِيرِ
والعَبدِ والحُرّ، (فَمَا) كان يُرَى (بِوَجْهِهِ)
أي في وَجهِه (عُبُوسٌ) في زائرٍ لَهُ أو وافِدٍ عليهِ بل ويَصبِرُ
على جَفْوة الغريبِ في مَنطِقِهِ ومَسألَتِهِ، والعُبوسُ تقطيبُ ما بينَ
العَينَينِ. وقد حَثَّ ﷺ على مَلاحةِ البِشرِ في وَجهِ الغَيرِ فقالَ ﷺ: «تَبَسُّمُكَ
فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» رواه التّرمذيُّ، وقال أيضًا: «لَا
تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ
طَلْقٍ([87])»
رواهُ مُسلِمٌ والتّرمذيُّ.
وكانَ أصحاب النبِيّ ﷺ
يَستجلِبُونَ أحيانًا بعضَ الغُرباءِ إلى مَجلِسِه ﷺ كيْ يَستفِيدُوا هُم
والصّحابةُ مِن جوابِهِ ﷺ على أسئِلَة أولئك الغُرباءِ، وذلك أنّهُم كانُوا
يسألونَه ﷺ ما بَدا لهم فيُجِيبهم هو تألِيفًا لَقلوبِهم ويقول لأصحابِه: «إذَا
رَأيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأرْفِدُوهُ» أي أَعِينُوه على
طِلْبَتِه.
وروَى البُخاريُّ وبعضُ
أصحابِ السَّنَن عن أبي بُردةَ بنِ أبي مُوسَى عن أبِيهِ رضي الله عنه قالَ: كانَ
رسولُ الله ﷺ إذَا جاءهُ السّائِلُ أو طُلِبَتْ إليهِ حاجَةٌ قال: «اشْفَعُوا
تُؤْجَرُوا([88])، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسانِ نَبِيِّهِ ما
شاءَ([89])».
وروَى الشَّيخانِ عن
ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما أنّ رسولَ الله ﷺ قالَ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ
أَخِيهِ([90]) كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ» أي
يُعيِنُه الله تعالَى في قَضاءِ حوائجِه ويَلطُفُ بهِ فيها، وليسَ معنَاه أنّ الله
تعالَى يَحتاجُ إلى أحَدٍ، حاشاهُ، ﱡﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﱠ
[فاطر: 15].
وكان (أَصْحَابُهُ) ﷺ (إذْ يَتَناشَدُونَا)
والألِفُ للإطلاقِ فيما (بَيْنَهُمُ) أي يَطلُب
بَعضُهم مِن بَعضٍ أنْ يُنشِدُ (الأَشْعَارَ) الجائِزةَ،
والإنشادُ هو أن يَقرأَ المرءُ الشّعرَ، لنفسِهِ كانَ أو لغَيره، وكانوا (يَضْحَكونَا) إذْ يَتحادثونَ (وَيَذْكُرُونَ)
أمورًا حصَلَتْ (جَاهِليَّةً) أي في فَترَتِها (فَمَا) كانَ ﷺ يَزجُرُهم ولا يَمنَعُهُم عمّا لا إثمَ فيهِ مِن
ذلكَ بل كان لا (يَزِيدُ) على (أَنْ يَشْرَكَهُمْ)
في المَجلِس سُكوتًا و(تَبَسُّمَا) وهذا إقرارٌ
مِنهُ ﷺ.
وما ذكرَه النّاظمُ هنا
هو ما رَواهُ التّرمذيُّ في «جامعِه» وأحمدُ في «مُسنَدِه» عن جابِرِ بنِ سَمُرَة
قَالَ: «جَالَسْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ، فَكَانَ
أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ، وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ
الجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَرُبَّمَا يَتَبَسَّمُ مَعَهُمْ».
وفي حديثٍ عنِدَ
مُسلِمٍ عن سِماكِ بنِ حَربٍ قال: قلتُ لجابِرِ بنِ سَمُرةَ: أكُنتَ تُجالِسُ
رسولَ اللهِ ﷺ؟ قال: نعم كثِيرًا، «كَانَ لا يَقُومُ مِنْ مُصَلّاهُ الَّذِي
يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أوِ الْغَداةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإذا طَلَعَتِ
الشَّمْسُ قامَ، وَكانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أمْرِ الْجاهِلِيَّةِ
فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ».
ولا بأسَ بالكلامِ
المُباحِ والأكلِ المُباحِ والنَّومِ في المَسجِد، ولا الْتِفاتَ إلى مَن يُحرِّمُ
شيئًا مِن هذا جَهْلًا منه وتحريمًا لِمَا أحلَّ اللهُ ورسولُه.
فصلٌ
في التّحذيرِ مِن حديثٍ مكذوبٍ يتعلَّقُ بالمَساجِد
مِمّا تَلهَجُ به
ألسِنةُ بعضِ العوَامِّ ولا أصلَ له بل هو فاسِدٌ قولُهُم: “وَرَد في
الحديثِ: “الكَلامُ في المَسجِدِ يأكُل الحَسَناتِ كما تَأكُلُ النّارُ
الحَطَبَ” ونحوُه ذلكَ قَولُ بعضِهم: “الحديثُ في المَسجِد يأكُلُ
الحسَناتِ كمَا تأكُلُ البَهِيمةُ الحَشِيشَ”، وأشنَعُ مِن ذلكَ قولُ
ءاخَرينَ: “الكلامُ المُباحُ في المَسجِد يأكُلُ الحسَناتِ كما تأكُلُ
النّارُ الحطَبَ” فنِسبةُ هذا إلى الرَّسولِ ﷺ كَذِبٌ وافتِراءٌ لأنّ هذا
الكلامَ مُخالِفٌ للثّابتِ في السُّنّةِ ومُصادِمٌ للإِجماعِ، فقد رَوَى
البخارِيُّ أنّ رَجُلَين مِن الصحابةِ كان لأحدهما دَينٌ على الآخَر فاختَصَما في
ذلك حتى ارتَفَعَت أصواتُهما في مَسجِد رسول الله ﷺ فقال الرسولُ ﷺ للدَّائِن أنْ
يُسقِطَ النِّصفَ ففَعَل ذلك، ولم يُنكِر علَيهِما ﷺ كَلَامَهُما في المسجِد وَلَا
وَبَّخَهُما.
قال الحافظ النّوويُّ([91]):
“يَجوزُ التّحدُّث بالحديثِ المُباحِ في المَسجِد وبأُمورِ الدُّنيا وغَيرِها
مِن المُباحاتِ وإنْ حَصَل فيه ضَحِكٌ ونَحوُه ما دامَ مُباحًا”.
وكذلك الأكلُ في المسجد لا بأسَ به إن
كان حلالًا، فقد جاءَ في الحديث الذي رواه
ابنُ
حِبّان في الصّحِيح وابنُ ماجه في «سُنَنِه» مِن حديثِ الحارِثِ بنِ جَزءٍ
الزُّبَيدِيِّ قال: «كُنَّا نَأكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي
المَسْجِدِ الخُبْزَ وَاللَّحْمَ».
وأمّا
النّوم في المسجِد فلا بأسَ به بل هو مُباحٌ لِذاتِه، ويُروى أنّ ابنَ عُمَرَ كان
يَبِيت في المسجد زمانَ النَّبِيّ ﷺ وهو عَزْبٌ، وروَى البيهقيُّ في «السُّنَن
الكبرى» أنّ سعيدَ بنَ المسيّب سُئِل عن النَّومِ في المَسجِد فقال: فأينَ كان أهلُ
الصُّفَّةِ؟!
وقال الحافظ النوويّ([92]):
“يجوز النَّومُ في المسجِد ولا كراهة فيه عِندَنا، نَصَّ عليه الشافعي رحمه
الله في «الأُمّ» واتَّفَق عليه الأصحابُ”.
عَدلُ النَّبِيّ
ﷺ وحُكمُه بالحَقِّ
385- |
قَـدْ
وَسِـعَ النَّاسَ بَبَسْطِ الخُلْقِ |
|
فَـهُـمْ
سَـوَاءٌ عِـنْـدَهُ فِـي الحَقِّ |
386- |
مَـا
انْـتَـهَـرَ الخَـادِمَ قَـطُّ فِيمَا |
|
يَأْتِـيْـهِ
أَوْ يَـتْـرُكُـهُ مَـلُـوْمَـا |
387- |
فِي
صُنْعِهِ لِلشّـىءِ لِـمْ صَـنَعْتَهُ |
|
وَتَـرْكِهِ
لِلشَّـىءِ لِـمْ تَـرَكْـتَـهُ |
388- |
يَـقُـولُ
لَـوْ قُـدِّرَ شَـىءٌ كَـانَـا |
|
سُـبْحَـانَ
مَـنْ كَمَّلَهُ سُـبْحَـانَا |
ومِن شمائلِهِ ﷺ
أنّه (قَدْ وَسِعَ)
أي شَمِلَ (النَّاسَ بَبَسْطِ) أي بِبِشرِ (الخُلْقِ) وطلاقةِ الوَجهِ وكرَمِ الأخلاقِ (فَهُمْ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي الحَقِّ) إذْ هو ﷺ أعدَلُ النّاسِ
ولا يُجوزُ عليهِ أنْ يَظلِمَ صاحِبَ حَقٍّ مِن أجلِ صِلةِ قرابةٍ أو غيرِ ذلكِ. وقد
رَوَى ابنُ ماجهْ في «سُنَنِه» وغيرُه عن جابِرِ بن عبد اللهِ قال: كانَ رَسُولُ
الله ﷺ بِالْجِعْرَانَةِ وَهُوَ يَقْسِمُ التِّبْرَ وَالْغَنَائِمَ وَهُوَ فِي
حِجْرِ بِلَالٍ([93])،
فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ
تَعْدِلْ، فَقَالَ ﷺ: «وَيْلَكَ،
وَمَنْ يَعْدِلُ
بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ» الحديثَ.
فقَول
هذا الرَّجُلِ للنّبيّ ﷺ “اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ”
هو كُفرٌ صُراحٌ، لأنّه طَعنٌ في عدالة النبيّ ﷺ، وسَبُّ النَّبِيّ
والطَّعنُ فيهِ كُفرٌ بالإجماعِ، نَقَل ذلك الفقيهُ أبو بَكرٍ الفارسِيُّ تلمِيذُ
تلامذةِ الإمامِ الشافعيّ رضيَ الله عنه([94])
والشّهاب الأذرعيّ([95]).
وقَد حاوَلَ بعضُ
الشُّراحِ تكلُّفَ التأويلِ الّذي لا دليلَ علَيهِ فقالوا: “فلَعَلَّه ﷺ لم
يُعاقِبْ هذا القائل لأنه لم يَثْبُت عليه ذلك وإنَّما نَقَلَهُ عنه واحِدٌ،
وشهادةُ الواحِدِ لا يُراقُ بها الدَّمُ”، فأجابَ عن ذلكَ الحافِظُ
النَّووِيُّ قائِلًا([96]):
“قال القاضي عِياضٌ: هذا التأويلُ باطِلٌ يَدفَعُهُ قولُه: “اعْدِلْ يَا
مُحَمَّدٌ وَاتَّقِ اللهَ يا مُحَمَّدُ”، وخاطبَهُ خِطابَ المُواجَهة
بِحَضرةِ المَلإِ حتَّى استَأذَنَ عُمَرُ وخالِدٌ النَّبِيَّ ﷺ في قَتْلِه، فقال
ﷺ: «مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ([97])» فهذِهِ هِيَ العِلَّة، وسلَكَ معه
ﷺ مَسلَكَهُ معَ غَيرِه مِنَ المنافقِيِن الَّذِين ءاذَوهُ وسَمِع مِنهُم في غَيرِ
مَوطِنٍ ما كَرِهَهُ لكِنَّهُ صَبَر استِبقاءً لانقِيادِهم([98])
وتألِيفًا لِغَيرِهم لِئَلَّا يتَحَدَّث النّاسُ أنّهُ يَقتُلُ أصحابَه
فيَنفِرُوا” اهـ.
وقال
المُلّا الكَورانيُّ عَقِبَ ذِكرِه هذا الحديثِ: “ومَنْ لم يرضَ بفعلٍ مِن
أفعالِ رسولِ الله ﷺ كافِرٌ داخِلٌ في زُمْرةِ الكافِرِين” اهـ.
ثُمّ
هذهِ القِصّةُ جاءتْ عِندَ غيرِ ابنِ ماجهْ بِلَفظِ القائِلِ: “إِنَّها
لَقِسمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وَجهُ اللهِ” وهو كُفرٌ أيضًا لتنقيصهِ النّبِيّ ﷺ
ونِسبَتِهِ له إلى الظُّلمِ. وقد اختُلِفَ في القائِلِ هل هو واحِدٌ والقِصّةُ
مُتَّحِدةٌ أم أنّهما قَضِيّتانِ، فقال ابنُ علّانَ في «شرح الأذكارِ»([99]): “وظاهر كلامِ القاضي عياضٍ أنّ
قائل: “هَذِه قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها” إلخ هو قائِلُ: “اعْدِلْ
يا مُحَمَّدُ”، وَقَد عرَفتَ مِن كلامِ ابنِ المُلَقِّن والشَّيخِ زكَرِيّا
أنَّهُما اثنان، فإنَّ قائِلَ: “اعْدِلْ” إلخ جاء في البُخارِيّ
التَّصرِيحُ بأنّهُ ذُو الخُوَيصِرةِ التَّمِيمِيُّ، وقائِلُ: “إِنّها قِسمةٌ”
جاءَ في الصَّحِيح أيضًا التَّصرِيحُ بأنَّهُ مِن الأنصارِ وسَمّاهُ الشَّيخُ
زكرِيًّا مُعَتِّبَ بنَ قُشَيرٍ“.
ومِمّا
يَدلُّ مِن القرءان على أنّ مَن رفَضَ حُكمَ رسولِ الله فهو كافِرٌ قولُ الله عزَّ
وجلَّ: ﱡﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾﱠ
[النِّساء: 65]، ويؤكِّدُ ذلكَ سببُ نزولِ هذه الآيةِ كما رواهُ الشَّيخانِ وبعضُ
أصحابِ السُّنَنِ عن عُروَةَ بنِ الزُّبَيرِ أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ خاصَمَ
الزُّبَيرَ فِي شِراجٍ([100])
مِنَ الحَرَّةِ([101])
يَسقِي بِها النَّخلَ، فقالَ الأنصارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ، فَأبَى عَلَيهِ
فاختَصَما عِندَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلزُّبَيرِ: «أَسْقِ([102])
يا زُبَيرُ ثُمَّ أرسِلِ الماءَ إلَى جارِكَ»،
فَغَضِبَ الأنصارِيُّ فَقالَ: أنْ كانَ ابنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجهُ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: «اسْقِ([103])
يا زُبَيرُ ثُمَّ احْبِسِ الماءَ حَتَّى يَرجِعَ إلَى الجَدْرِ([104])»،
فَقالَ الزُّبَيرُ: واللَّهِ إنِّي لَأحسِبُ
هَذِهِ
الآيَةَ نَزَلَت فِي ذَلِكَ، الحديثَ.
ومِن أدّلِّ الدّليلِ
على كرَمِ أخلاقِه ﷺ وسُمُوِّ مُعاملَتِه أنّه ﷺ (مَا انْتَهَرَ)
أي لَم يَزجُرِ (الخَادِمَ) مِن خَدَمِه أي لم يُعنِّفْ أحَدًا
مِنهُم (قَطُّ) لتقصيرِه في الخِدمة أو (فِيمَا يَأْتِيْهِ) الخادِمُ مِن صُنعٍ ما لَم يَكُنِ
المأتِيُّ بِهِ إثمًا (أَوْ) أي ولم يَكُنْ
يَعذِلُ أحدَهُم مُنتَهِرًا له ثُمّ (يَتْرُكُهُ) أي الخادِمَ (مَلُوْمًا) فيَحزَنُ الخادِمُ لذلكَ، بل كانَ يُبدِي
لخُدّامِهِ الرّأفةَ ويُعامِلُهُم بالتّواضُعِ، حتّى إنّه ﷺ مِن شِدّة حيائِهِ
وبَسْطِ العِشرةِ لخُدّامِه لا يقولُ
لأحَدٍ مِنهُم (فِي صُنْعِهِ) أي فِعلِهِ (لِلشَّىءِ لِمْ صَنَعْتَهُ) كذا أو على هذا الوَجهِ (وَ)لَا يقولُ لَهُ في (تَرْكِهِ لِلشَّىءِ لِمْ تَرَكْتَهُ)
يَا فُلانُ، وهذا عَينُ ما قالَهُ أنَسٌ رضيَ الله عنهُ: «لَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ
الله ﷺ عَشْرَ سِنِينَ وَأَنَا غُلامٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرٍ كَمَا يَشْتَهِي
صَاحِبِي أَنْ يَكُونَ([105])،
فوَاللَّهِ مَا قَالَ لِيَ أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَىءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ
فَعَلْتَ كَذَا؟ وَلَا لِشَىءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا» رواهُ
مُسلِمٌ وأحمدُ وأبو داودَ.
وكانَ ﷺ بدَلَ انتِهارِ
الخدَمَةِ يُخفِّفُ عنهُم و(يَقُولُ لَوْ قُدِّرَ شَىءٌ)
أن يكونَ (كَانَا) ولا يَرُدُّ ذلكَ شىءٌ، وهذا معنَى
حديثِ البيهقيّ في «شُعَب الإيمان» عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: خَدَمتُ رسولَ الله
ﷺ عَشْرَ سنِينَ، فما أرْسَلَنِي في حاجَةٍ قَطُّ، فلَمْ يَتَهيَّأْ لِي إلّا
قالَ: «لَوْ قُضِيَ لَكَانَ، وَلَوْ قُدِّرَ لَكَانَ». وفي هذا الأثَرِ
فوائِد كثيرةٌ جَمّةٌ، مِنها:
– الإرشاد إلى حُسنِ التّعامُلِ مع
الخَدَمِ والإحسانُ إليهم لا سيّما إنْ كانوا مُؤمنِين عمَلًا بالحديثِ: «لَا
يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ» أي الإيمانَ الكامِلَ «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» أي مِنَ الخيرِ.
– تعليمُه ﷺ النّاسَ التّفويضَ والتّسليمَ
لِما هو كائِنٌ وعدمَ الاعتراضِ على الله عندَ نُزولِ مَضَرّةٍ أو وقوع أمرٍ على
خِلاف ما يُحِبُّ الإنسانُ أن يكونَ.
– قولُ أنسٍ رضيَ الله عنهُ: «خَدَمْتُ
رَسُولَ الله ﷺ عَشْرَ سِنِينَ» معناه أنّها تسعُ سنين وأشهُرٌ، فإِنَّ
النَّبِيَّ ﷺ أقام بالمدينة عشرَ سِنِينَ تحدِيدًا لا تزيدُ ولا تنقُصُ، وقد
خَدَمَهُ أنَسٌ في أثناء السَّنة الأولى، كذلك حقَّقَهُ النّوويُّ([106]).
فأعظِم بِها مِن أخلاقٍ
محمَّدِيّةٍ شريفةٍ، وخصالٍ نبويّةٍ مُنيفةٍ، فـ(ـسُبْحَانَ) اللهِ أي تنزَّهَ وتقدَّسَ اللهُ عن مُشابهةِ
شىء مِن صِفاتِ المخلوقِينَ فهو اللهُ تعالَى (مَنْ كَمَّلَهُ) أي كَمَّل
نَبِيَّهُ محمَّدًا ﷺ بالأوصافِ الطَّاهِرةِ السَّنِيّةِ والأخلاقِ الباطنةِ
العَلِيّةِ (سُبْحَانَا) والألِف فيها للإطلاق.
فائدة:
اختُلِفَ في أصلِ لفظِ “سُبحان”، والّذي عليه كثيرٌ مِن أهلِ اللُّغةِ
أنّه نَصبٌ على المفعولِيّة المُطلقَةِ بفِعلٍ مُضمَرٍ تقديرُه: “أُسَبِّحُ
اللهَ تَسبِيحًا” أي أُنَزِّهُهُ عَمَّا لا يليق بِهِ. ورَوَى الأزهريُّ([107])
بإسناده إلى ابنِ الكَوَّاءِ سألَ عَلِيًّا رضي الله عنه عن “سُبْحانَ”
فقال: “كلِمةٌ رَضِيَها الله تعالى لِنَفسِه([108])
فأَوْصَى بها”.
هَيئتهُ في
الجُلوسِ ﷺ
389- |
وَفِي
الجُـلُوسِ يَـحْتَبِيْ تَوَاضُـعَا |
|
وَمَـرَّةً
كَالقُـرْفُـصَـاءِ خَاضِـعَـا |
(وَ)كانَ
ﷺ يَتّخِذُ (فِي الجُلُوسِ) هيئةَ المُتواضعِينَ – وهو ﷺ
سيِّدُهُم – فـ(ـيَحْتَبِيْ) في جلوسِهِ (تَوَاضُعًا)
للهِ تعالَى، والاحتِباءُ هو الجلوسُ على الألْيَينِ مع ضمِّ الفَخِذَينِ إلى
البَطنِ وجَمعِ السّاقَينِ مع الظّهرِ والبطنِ باليَدَينِ عِوضًا عنِ الثّوبِ
والحِزامِ ونَحوِهِما، والاسم الحُبْوة بضَمّ الحاء وكَسرِها([109]).
أمّا احتباؤُه بيَدَيه
فجاء في ذلكَ ءاثارٌ مِنها ما رواهُ البُخاريُّ في «صحيحِه» عن ابنِ عُمرَ رضي
الله عنهُما قالَ: «رأَيتُ رسولَ الله ﷺ بفِناءِ الكَعبةِ مُحْتَبِيًا
بِيَدِه».
أمّا احتباؤُه بالثَّوب
فمِمّا جاءَ فيهِ حديثٌ رواهُ أبو داودَ في «سُنَنِه» عن جابرِ بنِ سُلَيمٍ قالَ:
«أتَيتُ النَّبِيَّ ﷺ وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ وقَد وَقَعَ هُدْبُها
علَى قَدَمَيهِ».
وقد جاء في بعضِ
الأخبارِ بسنَدٍ ضعيفٍ مرفوعًا: «الاحْتِبَاءُ حِيطَانُ العَرَبِ» معناهُ
ليس في البَرارِي حِيطانٌ، فإذا أرادوا أنْ يَستَنِدُوا احتَبَوا لأنَّ الاحتِباءَ
يَمنَعُهم مِن السُّقوطِ ويَصِيرُ لهم كالجِدار.
ولَم يَكُن ﷺ مُلازِمًا
الاحتِباءَ في كُلِّ أحيانِهِ إذا جلسَ، بل مَرَّةً يحَتبِي (وَمَرَّةً)
يجلِسُ (كَالقُرْفُصَاءِ) بضم القاف والفاء وروي
بكسرهما، وبمَدٍّ وقَصرٍ فيهما. وقال الفَرَّاء: إذا ضمَمتَ مَددتَ وإذا كسَرتَ
قَصَرتَ([110]).
وقال أبو عبيدة: وهي جِلسة المُحْتَبِي ويُدِيرُ ذِراعَيه ويَديه على ساقَيهِ([111]).
وكان ﷺ يَجلسُ
مُحتَبِيًا مُتواضِعًا للهِ (خَاضِعًا) لَهُ عزّ وجلّ. لكنّ
فعِلَه ﷺ لا يُنافي الحديثَ الّذي رواهُ أبو داودَ وغيرُه: «أنَّ رَسُولَ اللهِ
ﷺ نَهَى عَنِ الحُبْوَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإِمامُ يَخطُبُ» إذ
النّهيُ سببُه أنّ الاحتِباءَ يَجلِبُ النّومَ فلا يَسمَعُ الخُطبةَ، ولا يكونُ مَقعدُه
مُتمَكِّنًا على الأرضِ فينتقِضُ وضوؤُه بالنّومِ.
صُوَرٌ مِن حُسنِ مُعامَلتِه ﷺ لأصحابِه
390- |
مَـجْـلِسُـهُ
حِلْمٌ وَصَـبْـرٌ وَحَيَا |
|
يَبْدَأُ
بِالسَّـلَامِ مَـنْ قَـدْ لَـقِـيَا |
391- |
وَيُـؤْثِـرُ
الـدَّاخِـلَ بِالـوِسَـادَةْ |
|
أَوْ
يَـبْسُـطُ الـثَّـوْبَ لَـهُ زِيَـادَةْ |
392- |
لَيْـسَ
يَقُولُ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ |
|
قَطْعًا
سِوَى الحَقِّ فَخُذْهُ واكْتُبِ |
وكان (مَجْلِسُهُ) ﷺ مع أصحابِهِ وغيرِهِم (حِلْمٌ) بكسر
الحاء أي وقارٌ، بل هو ﷺ أوقَرُ
النّاسِ وأكثرُهم
حِلمًا وأعظَمُهم تحَمُّلًا، فيُزيِّنُ مَجلِسَه حِلمٌ (وَصَبْرٌ)
بادِيانِ عليهِ ﷺ ومُظهِرانِ سَمِيَّ ءادابِه ورَفِيعَ أخلاقِه ﷺ، وفي ذلك تعليمٌ
منه ﷺ لأصحابِه ووُفودِهِ، (وَ) يَزيدُ مجلِسَهُ أُنسًا (حَيَا)ؤُه ﷺ،
والحَياءُ مَلَكَةٌ تَمنَعُ المَرءَ مِمَّا لا يَلِيقُ فِعلُه في الحَضْرة
والغَيْبة([112]).
وكان ﷺ (يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) وجاء في الأثَرِ: «يَبْدُرُ»
بضَمّ الدّال والرّاء أي يُبادِرُ ويَسبِقُ (مَنْ قَدْ لَقِيَا) أي
لَقِيَهُ مِن أصحابِهِ ويبْدَؤُهم بالمُصافحة، وإذا جاءَهُ وَفدٌ قال: «مَرحبًا».
(وَ)مِن
كَرمِ أخلاقِهِ وبَسْطِ عِشرَتِهِ ﷺ أنّه كانَ يُكرِمُ مَن يَدخُل عليه فـ(ـيُؤْثِرُ) أي يُقَدِّم ويُفرِدُ (الدَّاخِلَ)
عليهِ على نَفسِهِ (بِـ)ـالجُلوسِ على (الوِسَادَةْ) والاعتمادِ علَيها حتّى وإنْ كانتْ مفروشةً تحتَه
ﷺ، بل ويَعزِمُ أي يُؤَكِّدُ على الداخِل في الجلوسِ عليها لِدَفعِ الوَحْشة عنهُ
إنِ امتَنَع الداخلُ مِنَ الجُلوسِ علَيها تأدُّبا أمامَ رسولِ الله ﷺ.
روَى الطّبرانيُّ في
«مَكارِم الأخلاقِ» عَن أنَسٍ رضيَ لله عنهُ قال: دَخَلَ سَلمانُ الفارسِيُّ علَى
عُمَرَ بنِ الخطّابِ وهو مُتَّكِئٌ على وِسادةٍ فألقاها لَهُ، فقال سَلمانُ: اللهُ
أكبَرُ، صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فقال عُمَرُ: حَدِّثْنا يا أبا عَبدِ الله، فقال
سَلمانُ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ
فَأَلْقَاهَا وَقَالَ: «يَا سَلْمَانُ إِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ
عَلَى أَخِيهِ فَيُلْقِي لَهُ وِسَادَةً إِكْرَامًا لَهُ إِلَّا غَفَرَ الله لَهُ».
وروَى فيه أيضًا عنِ
ابنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ الله ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ([113]): الطِّيبُ وَالْوِسَادَةُ وَاللَّبَنُ»
رواهُ الطَّبرانيُّ.
(أَوْ)
أي وكان ﷺ (يَبْسُطُ) في بَعضِ الأحيانِ (الثَّوْبَ لَهُ) أي
ثوبَ نَفْسِهِ لحاضِرٍ عِندَه أو داخِلٍ عليهِ (زِيَادَةً) في الإكرامِ لهُ.
وروَى الطّبرانيُّ في «المُعجَم الكبِير» عن وائلِ بنِ حُجْرٍ رضي
الله عنه قال: جِئتُ النَّبِيَّ ﷺ
فقال: «هَذَا وَائِلُ بنُ حُجْرٍ
جَاءَكُم، لَمْ يَجِئْكُمْ رَغْبَةً وَلَا رَهْبَةً، جَاءَ حُبًّا للهِ
وَلِرَسُولِهِ» وبَسَط له رِداءَه
وأجلَسَه إلى جَنْبِه وضَمَّه إليه وأَصْعَدَ بِه المنبرَ فخَطَب النّاسَ فقال
لأصحابِه: «ارْفُقُوا بِهِ
فَإِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْمُلْكِ»،
فَقلتُ: إنَّ أهلِي قد غَلَبُوني على الَّذِي لي، قال: «أَنَا أُعْطِيكَهُ وَأُعْطِيكَ ضِعْفَهُ»، الحديثَ.
وهو
ﷺ معصومٌ مَصونٌ (لَيْسَ يَقُولُ
فِي) حالَةِ (الرِّضَا وَ)حالَةِ
(الغَضَبِ قَطْعًا) شيئًا (سِوَى) قَولِ (الحَقِّ) ولا يأمُرُ إلّا بما يوافقُ الشّرعَ (فَـ)ـكلامُهُ فصلٌ لا يَخرُجُ عنِ الحَقِّ فـ(ـخُذْ) الحقَّ عنـ(ـهُ واكْتُبِ) بالكسرِ
للوَزنِ وقَيِّدْ تعليماتِه وإرشاداتِه وسُنَنِه واعمَلْ بها، فإنّ الله يقولُ: ﱡ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗﱠ [الحَشر:
7].
وروَى الطّبرانيُّ في «المُعجَم الكبِير» عن ابن عبّاسٍ رضي الله
عنهما أنّ رسولَ الله ﷺ قالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ
قَوْلِهِ وَيُدَعُ غَيْرَ النَّبِيِّ».
ورَوَى أحمدُ في
«مُسنَدِهِ» عن عبدِ الله بن عمرِو بنِ العاصِ: قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ
شَىءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ
عَنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: تَكْتُبُ وَرَسُولُ اللهِ يَقُولُ فِي الْغَضَبِ
وَالرِّضَا؟! فَأَمْسَكْتُ([114])
حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ([115])
مَا خَرَجَ مِنْهُ([116]) إِلَّا حَقٌّ». وفي رِوايةٍ
قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ
أَفَأَكْتُبُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟
قَالَ: «نَعَمْ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا حَقًّا».
فيستحيلُ على النّبيّ ﷺ
أنْ يَظلِمَ أحَدًا في حُكمٍ أو أنْ يُخطِئَ في اجتِهادٍ في الأُمورِ الشّرعيّةِ،
ونَستطرِدُ في ذِكر هذه المسألة في فصلٍ مُستقِلٍّ لأهمّيَّتِها.
فصلٌ
في عِصمةِ النّبِيّ ﷺ عَن الخطإِ في التّشريعِ
العَجَبُ مِنَ الّذين
تَجَرّأوا على رسول الله ﷺ فادَّعَوا أنّه يُخطِئُ في التّشريعِ أي يَجتَهِدُ
فيقولُ في الشّريعةِ بِحُكمٍ ما خَطأً، فهؤلاءِ قد عارَضوا قولَ الله تعالَى: ﱡﭐ ﱋ ﱌ
ﱍ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱠ
[النَّجم:
3-4].
وعِصمةُ النَّبِيّ عن
الخطإِ في الدِّين هو القولُ الّذي عليهِ المُحقِّقونَ وهو الّذي لا مَحِيدَ
عنه، قال عِياضٌ:
“هذا هو الحَقُّ الّذي لا يُلتَفَتُ إلى خِلافِ مَن خالَفَ فيهِ مِمّن أجازَ
علَيه الخطأَ في الاجتِهادِ، لعِصمةِ النَّبِيّ ﷺ مِن الخطإِ في الاجتِهادِ في
الشَّرعِيّاتِ”([117]).
وعلى هذا مضَى البيضاوي
في «المنهاج»، والحافظ السبكي في «جَمعِ الجوامِع»، وقال في «الإبهاج»([118]):
“قال البيضاويُّ: فرعٌ لا يُخطِئُ اجتِهادُه وإلَّا لَمَا وَجَب اتّباعُه.
(ش): عَبَّر عن هذا بالفَرعِ لكَونِه مَبنِيًّا على جوازِ الاجتِهادِ للنَّبِيّ ﷺ
والّذِي جزَمَ به مِن كَونِه لا يُخطِئُ اجتِهادُه هو الحقُّ، وأنا أُطَهِّرُ
كِتابِي أنْ أحكِيَ فيهِ قولًا سِوَى هذا القَولِ بل لا نَحْفَلُ بِه ولا نَعْبَأُ“.
ونقَل الزّركشيُّ([119])
عن الحَلِيمِيّ قولَه في الكلامِ علَى خَصائِص الأنبياء: “ومِنها العِصمةُ
مِن الخطَإِ في الاجتِهاد”.
ونقلَ الإسنويّ([120]) عن الرّازي قولَه: “إنّه
الحقّ”، ومِثلَه قال ابنُ اللَّحّام الحنبليّ([121])،
وللهِ دَرُّ الشّمس البرماويّ القائلِ في ألفيّتِه:
يَجُوزُ لِلـنَّـبِـيِّ
أَنْ يَجْـتَـهِـدَا |
¯¯ |
وَهْوَ مُصِيبٌ لَيْسَ يُخْطِيْ
أَبَدَا |
وقال
في الشّرح([122]):
“الحقُّ الّذي نَعتقِدُه أنّه لا يقَعُ خطأً ألبَتَّة، فإنَّ كَونَه يقعُ
خطأً يُضادُّ منصِبَ النُّبوّةِ أيضًا، ويكونُ بعضُ المُجتهدِينَ – وهو المُصِيب –
أكمَلَ في حالِ إصابَتِه
مِن النَّبِيّ، وهو
محُالٌ”.
وقَد
نقَل القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيُّ في «المَسالِك»([123])
إجماعَ المسلمِينَ على تكفيرِ مَن خطّأ النبِيَّ ﷺ في التّشريع.
عِظَتُه النّاسَ وإنذارُه إيّاهُم ﷺ
393- |
يَـعِـظُ
بِالـجـِدِّ إِذَا مَـا ذَكَّـرَا |
|
كَـأَنَّـهُ
مُـنْـذِرُ جَـيْـشٍ حَـذَّرَا |
وكان ﷺ
(يَعِظُ)
النّاس (بِالجِدِّ) لا يَشوبُ وعظَهُ هَزلٌ (إِذَا مَا ذَكَّرَا) أي ذكَّرَهُم بما فيه مَصلحةُ دِينهِم
ودُنياهُم بل يهتمُّ بذلك غايةَ الاهتِمامِ ويُلقِي الوعظَ فيهِم وعليهِ هيئةُ
الواعِظِ المُحَذِّرِ (كَأَنَّهُ مُنْذِرُ) قَومٍ
مِن دُنُوِّ (جَيْشٍ) عظيمٍ (حَذَّرَا)
مِنهُم، وإنّ مِن شأنِ مَن يقومُ بذلكِ أنْ يَشتَدَّ غَضَبُه خوفًا على قَومِه ويَرفَعَ
صَوتَه لِيُبَلِّغَهُم.
وكان ﷺ ذا كلِماتٍ
جوامِعَ في عِظاتِه ونصائِحِه، فَمِن ذلكَ ما رواهُ الشّيخانِ عن أبي هُريرةَ أنّ النّبِيّ
ﷺ قالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ([124])،
وَلَنْ يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلّا غَلَبَهُ([125])،
فَسَدِّدُوا([126])
وَقارِبُوا([127])
وَأَبْشِرُوا([128])،
واسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وَشَىءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ([129])».
وروَى الخَرائطيُّ في
«مَكارِم الأخلاق» عن أسامةَ بنِ زَيدٍ أنّه سَمِعَ أبا حازِمٍ وحَفْصَ بنَ
عُبَيدِ الله بنِ أنَسٍ يَقُولانِ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ
يُحَدِّثُ أَصْحابَهُ عَنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، فَإِذا رَءَاهُمْ قَدْ كَسِلُوا([130])
فَعَرَفَ ذَلِكَ فِيهِم أَخَذَ بِهِمْ فِي بَعْضِ أَحادِيثِ الدُّنْيا([131])،
حَتَّى إِذا نَشِطُوا وَأَقْبَلُوا أَخَذَ بِهِمْ فِي حَدِيثِ الآخِرَةِ».
وروَى ابنُ ماجهْ وأبو
داودَ والتّرمذيُّ في «السُّنَن» عنِ العِرباضِ بن ساريةَ رضي الله عنه قال: قامَ
فِينا رَسولُ الله ﷺ ذاتَ يَومٍ، فوعَظَنا مَوعِظةً بَلِيغةً وَجِلَتْ منها
القُلوبُ([132])،
وذَرَفَتْ منها العُيونُ، فقيلَ يا رسولَ الله: وَعَظْتَنا مَوعِظةَ مُوَدِّعٍ
فاعْهَدْ إلَينا بِعَهْدٍ، فقالَ: «عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، والسَّمْعِ
والطّاعَةِ([133])،
وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا([134])،
وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلافًا شَدِيدًا، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي،
وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيها بِالنَّواجِذِ([135])،
وَإِيّاكُمْ والأُمُورَ المُحْدَثاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ([136])».
وروَى ابنُ عساكِرَ في
«تاريخ دِمشقَ» أنّه ابنَ عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: «كانَ رسولُ الله ﷺ
وإِذَا وَعَظَ جَدَّ وَمَادَ([137])»
الحديثَ.
وروَى البُخاريُّ في
«صحيحه» عن أبي سَعيدٍ الخُدريّ رضي الله عنه قالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي
أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى([138])،
ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقال: «أَيُّها
النّاسُ، تَصَدَّقُوا»، فَمَرَّ عَلَى النِّساءِ فَقال: «يا مَعْشَرَ
النِّساءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ»
فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ([139])،
وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ([140])،
ما رَأَيتُ مِنْ ناقِصاتِ عَقْلٍ([141])
وَدِينٍ([142])
أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحازِمِ مِنْ إِحْداكُنَّ([143])
يا مَعْشَرَ النِّساءِ».
ظُهورُ أماراتِ السُّرورِ في
وَجهِهِ ﷺ
394- |
وَيَسْـتَـنِـيـرُ
وَجْـهُـهُ إنْ سُـرَّا |
|
تَـخَـالُـهُ
مِـنَ السُّــرُورِ بَـدْرَا |
(وَ)كان
ﷺ (يَسْتَنِيرُ وَجْهُهُ) أي يُضيءُ سُرورًا (إنْ سُرَّا) بشىءٍ حتى إنّكَ إذا رأيتَهُ (تَخَالُهُ)
أي تَحسَبُهُ (مِنَ السُّرُورِ بَدْرَا) تامَّ الإنارة.
وأصلُ ما في النَّظمِ
ما رواهُ الشَّيخانِ مِن حديثِ كَعبِ بنِ مالِكٍ: «سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ
اللهِ ﷺ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا
نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ».
وروَيا أيضًا مِن حديثِ
عائشةَ رضي الله عنها «أنّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُورًا
تَبْرُقُ([144])
أَسَارِيرُ وَجْهِهِ([145])».
وأخرَج أبو الشّيخُ بنُ
حَيّانَ عن ابنِ عُمرَ رضي الله «كان النَّبِيُّ ﷺ يُعرَف رِضاهُ
وغَضَبُه بوَجْهِه، كانَ إِذَا رَضِيَ فكَأَنَّمَا تَلاحُكُ الجُدُرِ([146])
وَجْهُهُ» الحديثَ.
تَخلِيَتهُ ظَهرَهُ ﷺ للمَلائِكةَ إذا
مَشَى
395- |
يَمنَعُ
أَنْ يَمْشِيَ خَـلْـفَـهُ أَحَـدْ |
|
بَـلْ
خَلْفَهُ مَلَائِـكُ اللهِ الأَحَـدْ |
ومِن عظِيم تواضُعِه ﷺ
أنّه كان يُقَدِّمُ أصحابَهُ عليهِ إذا مَشَوا و(يَمنَعُ) مِن
(أَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُ أَحَدٌ) مِنهُم (بَلْ)
يأمرُهُم أن يكونوا قُدّامَهُ ويَترُكُ (خَلْفَهُ) لأنْ تُرافِقَهُ (مَلَائِكُ اللهِ) الواحدِ الّذي لا شريكَ له (الأَحَدِ) أي الّذي لا يَقبَلُ الانقِسامِ ولا التّجزُّؤَ
لأنّه تعالَى ليسَ جِسمًا ولا يُشبِهُ شيئًا مِن المخلوقاتِ.
وكان
ﷺ لا يَدَع أحدًا يَمشِي معَهُ وهو راكِبٌ حتَّى يَحمِلَهُ معهُ فوقَ الدّابةِ،
فإنْ أَبَى الماشِي قال لَهُ ﷺ: تقَدَّمْنِي إلى المكانِ الفُلَانِيّ، وذلك
تواضُعًا مِنهُ ﷺ.
جَمِيلُ صَفْحِه ﷺ وعَفْوِه
396- |
وَلَيْـسَ
يَجْزِيْ سَـيِّـئًا بِـمِثْـلِـهِ |
|
لَكِـنْ
بِعَفْوٍ وِبَصَـفْحِ فَضْـلِـهِ |
(وَ)مِن
عَظيمِ أخلاقِهِ وحُسنِ شَمائِلِه ﷺ أنّه (لَيْسَ يَجْزِيْ) أيْ
يُقابِلُ مَن يُسيءُ إليهِ الإساءةَ (سَيِّئًا بِمِثْلِهِ)
مُكافأةً وانتِقامًا و(لَكِنْ) يُقابِلُ ذلك (بِعَفْوٍ) منهُ ﷺ مع قُدرَتِه على الانتقامِ مِنهُ (وِبـ)ـجَمِيلِ (صَفْحٍ) مِنهُ ﷺ تفضُّلًا
دالًّا على (فَضْلِهِ) وسُمُوِّ شِيَمِه عليهِ السَّلام.
والآثارُ الدّالّةُ على
عَفوِهِ وجميلِ صَفحِهِ عمَّن ءاذَوه كثيرةٌ تَكِلُّ عن نَسخِها الأيدِي وتضيقُ عن
جَمعِها الكُتُب، مِن ذلك ما رواهُ البيَهقِيُّ بسَنَدِه إلى الإمامِ الشافعيّ
رضيَ الله عنهُ إلى أبي يُوسُف القاضي قال: “أنَّ رَسُولَ الله ﷺ عَفا عَن
مَكَّةَ وَأَهلِها([147])
وَقالَ: «مَن أغلَقَ عَلَيهِ بابَهُ فَهُوَ ءامِنٌ، وَمَن دَخَلَ
المَسجِدَ فَهُوَ ءامِنٌ، وَمَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفيانَ فَهُوَ ءامِنٌ»
وَنَهَى عَنِ القَتلِ إِلّا نَفَرًا قَد سَمّاهُم إِلّا أَن يُقاتِلَ أَحَدٌ
فَيُقاتَلُ، وَقالَ لَهُم حِينَ اجتَمَعُوا فِي المَسجِدِ: «ما تَرَونَ أنِّي
صانِعٌ بِكُم؟» قالُوا: خَيرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وابنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قالَ: «اذهَبُوا
فَأنتُمُ الطُّلَقاءُ([148])».
قال أبو يُوسُف: وَلَم يَجعَل مِنها فَيئًا قَلِيلًا وَلا كَثِيرًا، لا دارًا وَلا
أَرضًا وَلا مالًا، وَلَم يَسْبِ مِن أَهلِها أَحَدًا، وَقَد قاتَلَهُ قَومٌ فِيها([149]) فَقَتَلُوا وَهَرَبُوا فَلَم يَأخُذ
مِن مَتاعِهِم شَيئًا، وَلَم يَجعَلهُ فَيئًا، وَقَد أَخبَرتُكَ أَنَّ رَسُولَ
الله ﷺ لَيسَ فِي هَذا كَغَيرِهِ فَهَذا مِن ذَلِكَ، فَتَفَهَّم”.
ورَوَى الحاكِمُ في
«المُستَدرَك» عن عِكرِمةَ بن أبي جَهلٍ قال: لَمّا انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ
الله ﷺ قُلْتُ: يا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذِهِ([150])
أَخْبَرَتْنِي أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي، فَقالَ رَسُولُ الله ﷺ: «أَنْتَ ءامِنٌ»،
فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْتَ
عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، وَأَنْتَ أَبَرُّ النّاسِ، وَأَصْدَقُ النّاسِ،
وَأَوْفَى النّاسِ. قالَ عِكْرِمَةُ: أَقُولُ ذَلِكَ وَإِنِّي لَمُطَأْطِئٌ
رَأْسِي اسْتِحْياءً مِنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي
كُلَّ عَداوَةٍ عادَيْتُكَها أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعْتُ فِيهِ أُرِيدُ فِيهِ
إِظْهارَ الشِّرْكِ، فَقالَ رَسُولُ الله ﷺ: «اللَّهُمُ اغْفِرْ لِعِكْرِمَةَ
كُلَّ عَداوَةٍ عادانِيها أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعَ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُصَدَّ عَنْ
سَبِيلِكَ([151])»،
قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِخَيْرِ ما تَعْلَمُ فَأُعَلِّمهُ، قالَ: «قُلْ:
أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ([152])،
وَتُجاهِدُ فِي سَبِيلِهِ»، ثُمَّ قالَ عِكْرِمَةُ: “أَما والله يا
رَسُولَ اللَّهِ، لا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْتُ أَنْفَقْتُها فِي الصَّدِّ عَنْ
سَبِيلِ الله إِلّا أَنْفَقْتُ ضِعْفَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا قاتَلْتُ
قِتالًا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ الله إِلّا أَبْلَيْتُ ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ”. ثُمَّ اجْتَهَدَ فِي الْقِتالِ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ أَجْنادِينَ
شَهِيدًا فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، وَقَدْ كانَ رَسُولُ الله
ﷺ اسْتَعْمَلَهُ عامَ حَجَّتِهِ عَلَى هَوازِنَ يُصَدِّقُها([153])،
فَتُوُفِيَ رَسُولُ الله ﷺ وَعِكْرِمَةُ يَوْمَئِذٍ بِتَبالَةَ([154]).
وروَى البُخاريُّ في
«صحِيحِه» عَن عبدِ الله بنِ عمروِ بنِ العاصِ أنَّ مِمّا جاءَ في وصفِ نَبِيِّنا
محمَّد ﷺ في التّوراةِ الصّحيحةِ الّتي أُنزِلَتْ على موسَى ﷺ: «لَيْسَ بِفَظٍّ
وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ([155])،
وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ».
حُبُّه ﷺ للفَأْلِ
وكراهِيتُه للطِّيَرَةِ
397- |
كَـانَ
يُحِبُّ الـفَـأَلَ مِمَّنْ ذَكَـرَهْ |
|
وَكَـانَ
يَكْـرَهُ اتِّـبَـاعَ الطِّـيَرَهْ |
و(كَانَ)
رَسُولُ الله ﷺ (يُحِبُّ الفَأَلَ) الحسَنَ (مِمَّنْ ذَكَرَهْ)، والفَأْلُ لفظٌ يُستَعملُ فيما يَسُرُّ
وفيما يَسُوءُ، والغالِبُ استِعمالُهُ في السُّرور خِلافًا للطِّيَرةِ. وقد رُوِي
عنهُ ﷺ أنّه سُئِلَ عنِ الفَأْل فقال: «كَلِمَةٌ صَالِحَةٌ يَسْمَعُها
أَحَدُكُم» أي فيَتفاءل بها ويفرَح.
(وَكَانَ)
ﷺ (يَكْرَهُ) أي لا يُحِبُّ (اتِّبَاعَ الطِّيَرَةْ) وهي
التّشاؤُمُ المُتعارَفُ عليهِ في الجاهِلِيّةِ، وذَلِك أنّ العَرَب في الجاهليّة
كانتْ تُنَفِّر الطّير وتَزجُرُها فإذا مَرَّتِ الطَّيرُ مِن اليَمِين إلى اليَسار
خَرَجَ أحَدُهم في حاجَتِه وإلا تشاءَم ولَم يَخرُج، حتّى إنّهم صارُوا
يَتَطيَّرُون بِغَير الطُّيور أيضًا كالظِّباء.
وأمّا ما وَرَدَ في الحديثِ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» فمعناهُ اعتِقادُ
أنّ الطِّيَرَة تَنْفَع أو تَضُرُّ بِدونِ مشيئةِ الله وخَلْقِه هُو شِركٌ بالله
تعالَى مُخرِجٌ مِن الإسلام، ليسَ أنّ مُجَرَّدَ التّشاؤُم بمجيءِ فُلانٍ أو
ذَهابِهِ يكون شِركًا. ومِمّا يُخرِجُ مِنَ الإسلام، والعياذُ بالله، أنْ
يَعتَبِرَ الشّخصُ شيئًا حسَّنَهُ الشّرعُ أنّه شُؤمٌ بِذاتِهِ.
وأمّا ما رواهُ البُخاريُّ في «الأدَب المُفرَد» عَن حابِسٍ التّميمِيّ أنّ
رسولَ الله ﷺ قالَ:
«لَا
شَىءَ فِي الْهَامِّ، وَأَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ» فمعناهُ أنّه ليسَ في فِعلِ الجاهليّة مِن تنفيرِ
طَيرِ الهامِّ طلَبًا للطِّيَرَةِ خَيرٌ، وأمّا الفأْلُ فيما فيه خَيرٌ فهو حسَنٌ،
وإطلاقُ الطِّيَرةِ على الفأْلِ مَجازٌ، لأنّ الأصلَ أنّ الطِّيَرة لا تكون إلا في
السُّوء وقد تُستَعمل مجازًا في السُّرورِ، كذا قاله الحافظ النوويُّ([156]).
398- |
وَلَـمْ
يَعِبْ قَطُّ طَـعَامًا يَحْضُـرُهْ |
|
يَأْكُـلُـهُ
إِنْ يَشْـتـَهِيْ أَوْ يَذَرُهْ |
399- |
وَلَـمْ
يَـكُـنْ جُـلُوسُـهُ مُتَّكِيَا |
|
فِي
حَالَةِ الأَكْـلِ وَلَكِنْ مُقْعِيَا |
400- |
تُـعْـجِـبُـهُ
الـذِّرَاعُ ……………. |
|
……………………………………… |
(وَ)مِن
جَمِيل صِفاتِهِ ﷺ أنّه (لَمْ يَعِبْ) أي لَم
يَذُمَّ (قَطُّ) أي أبدًا (طَعَامًا)
حَلالًا مِمّا كانَ (يَحْضُرُهُ) بل كانَ شأنُهُ
ﷺ أنَّهُ إذا حَضَرهُ طَعامٌ (يَأْكُلُهُ إِنْ يَشْتَهِيـ)ـه أي كانَتْ تَقبَلُهُ نَفسُهُ (أَوْ) أي وإلّا فإنّه (يَذَرُهُ) فلا يأكُل مِنهُ
إنْ كَرِهَهُ وذلكَ مِن غَيرِ أنْ يَعِيبَهُ، كالضَّبِّ فإنّه ﷺ لَم يُحَرِّمْه ولا عابَهُ ولكِن لم يأْكُلُه.
قال الحافِظُ النَّووِيُّ([157]):
“تعيِيبُ الطّعامِ هو أن يقولَ: هذا مالِحٌ، قليلُ المِلحِ، حامِضٌ، رقيقٌ،
غلِيظٌ، غيرُ ناضِجٍ، ونحو ذلك، وأما قوله ﷺ للضَّبِّ: «لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ
قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعافُهُ» فبَيانٌ لِكراهِيَتِه لا إظهارُ عَيبِه”.
(وَ)إذا
جلسَ ﷺ ليأكُلَ فإنّه (لَمْ يَكُنْ جُلُوسُهُ مُتَّكِيًا)
أي مُتّكِئًا مُعتَمِدًا على أحَدِ شِقَّيهِ أو على شىءٍ يَطؤُه تَحتَهُ (فِي حَالَةِ الأَكْلِ) بل ذلك غالِبًا ما يكونُ عادةَ
الشَّرِهِ النَّهِمِ، (وَلَكِنْ) كان ﷺ يَجلِسُ
حالَ الأكلِ (مُقْعِيًا) أي جالِسًا على أَلْيَتَيْهِ
ناصِبًا ساقَيه مُستَوفِزًا غيرَ مُتَمَكِّنٍ، ويضَعُ بطنَ قدَمِه اليُسرَى على
ظَهرِ قدَمِه اليُمنى، وهذه الهيئةُ أنفَعُ هَيئاتِ الأكلِ وأفضَلُها، لأنّ
الأعضاءَ كلَّها تكونُ على وَضعِها الطّبِيعيّ، وأردأُ الجِلساتِ للأَكلِ
الاتِّكاءُ على الجَنْبِ فإنّه يَمنَعُ مَجرَى الطّعامِ على هَيئتِه ويُعَوِّقُه
عن سُرعةِ تَعوُّدِه إلى المَعِدة، قاله الشيخ الصّالِحيُّ([158])،
وقد ثبتَ في الحديثِ أنّه ﷺ قال: «أَمَّا أَنَا فَلَا ءَاكُلُ مُتَّكِئًا».
قال القاضي عِياضٌ([159]):
“والاتِّكاءُ هو التَّمَكُّن للأكل، والتَّقَعْدُدُ([160])
في الجلوس له كالمترَبِّع وشِبهه مِن تَمَكُّن الجِلسات التي يَعتَمِدُ فيها
الجالس على ما تحتَه، والجالِسُ على هذه الهيئة يَستَدعِي الأكلَ ويَستكثِرُ
مِنهُ، والنَّبِيُّ ﷺ إنَّما كان جُلوسُه للأكل جُلوسَ المُستَوفِز مُقْعِيًا
ويقول: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، ءاكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ([161])،
وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ العَبْدُ» وليسَ مَعْنَى الحديثِ في الاتِّكاءِ
الْمَيْلَ على شِقٍّ عِندَ المُحَقِّقِينَ”.
وتابَعَهُ المُلّا
عليٌّ قائِلًا([162]):
“بل هو المعنَى الأعَمُّ الشامِلُ له ولِغَيرِه، بخِلاف ما فَهِم العامّةُ
مِن أنَّ الاتِّكاء مُنحَصِرٌ في الميل إلى أحَدِ شِقَّيهِ أو الاستِناد إلى ما
وَراءَهُ، وبهذا يُجمَعُ بَينَ ما قاله المصنِّف ههنا وما ذكره في «الإكمال» عنَ
الخطّابِي قالَ: إنّه خالَف في هذا التأويلِ أكثرُ النّاسِ وإنهم إنَّما حمَلوا
الاتِّكاء على أنه المَيلُ على أحَدِ الجانِبَين، ولذا أنكرَهُ عليه ابنُ الجوزِيّ
وقال: المرادُ به المائِلُ على جَنْبِهِ، واللهُ أعلَمُ” اهـ.
وتعقَّبَ الخَطّابِيَّ
الشيخُ محمّدٌ الصّالحِيُّ فقال([163]):
“فإنْ كانَ المُرادُ بالاتِّكاءِ الاعتِمادَ على الوسائدِ والوِطاءِ([164])
الذي تحتَ الجالسِ كما نُقِل عن الخطّابي، فيكونُ المعنَى: إنّي إذَا أكلتُ لَم
أقعُدْ مُتَّكِئًا على الأوطِئة والوسائِد كفِعلِ الجبَابِرة ومَن يُرِيدُ
الإكثارَ مِن الأكلِ، لَكِنْ ءاكُلُ بُلْغَةً([165]) مِن الزَّاد فلذلك أقعُدُ
مُسْتَوفِزًا” اهـ
وكان ﷺ (تُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ) أي يُعجِبُه طَعمُها لاستِطابَتِها له
ولأنّها أخفُّ على المَعِدةِ وأسرَعُ مِن غيرِها هَضْمًا، ولَم يَكُن ﷺ يَتتبَّعُ
اللَّحمَ ولا غَيرَه أو يَعتادُ أكلَهُما تنعُّمًا، فهو ﷺ أزهَدُ النّاسِ وأبعَدُ
النّاسِ عَن التّنعُّمِ.
خبَرُ أكلِه ﷺ
مِن الشّاةِ المسمُومةِ
وقد رُوِيَ أنَّ زينبَ
بنتَ الحارثِ اليهوديّة امرأةَ ابنِ مِشْكَمٍ دَعَتْ رسولَ الله ﷺ إلى مائدةٍ
عليها ذِراعٌ وسَمَّمَتهُ فيه، وذلك أنّها جَعَلَتْ في بادئِ الأمرِ تسألُ: أيُّ
الشاةِ أحَبُّ إلى مُحَمَّدٍ؟ فيقولون: الذِّراعُ، فَعَمَدَت إلى عَنْزٍ لها
فذبحَتْها وصَلَتْها([166])،
ثم عَمَدت إلى سُمٍّ لا يُبْطِئ – أي لا يَلْبَثُ أنْ يَقتُلَ مِن ساعَتِه – وقد
شاورَتْ يهودَ في سُمومٍ فاجتمَعُوا لها على هذا السُّمِّ بِعَينِه، فسَمَّتِ
الشاةَ وأكثرَتْ في الذِّراعَين، فوضَعَتْ بين يدَيهِ ومَن حَضَر مِن أصحابِه
وفيهم بِشرُ بنُ البَراءِ، وتناول ﷺ الذِّراع فانتَهَئ منها([167])،
وتناوَل بِشرُ بن البَراء عَظمًا ءاخَرَ، فلمَّا ازدَرَدَ([168])
ﷺ لقمتَه ازدَرَد بِشرُ بن البراء ما في يَدِه وأكَل القَوْمُ،
فقال
ﷺ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُم، فَإِنَّ هذِهِ الذِّراعَ تُخْبِرُني أنَّهَا
مَسْمُومَةٌ». فقال بِشرُ بن البَراء للنّبِيّ ﷺ: قد واللهِ يا رسولَ الله
وجدتُ ذلك([169])
مِن أُكْلَتي التي أكَلتُها، فما منعَني أنْ ألفِظَها إلا كراهيةُ أن أُنَغِّصَ
إليك طعامَك، فلَمَّا تسوَّغتَ ما في يَدِك لم أرغَبْ بنَفسِي عن نَفسِك([170])،
ورجوتُ أن لا تكونَ ازْدَرَدْتها وفيها بَغْيٌ([171])،
فلَم يَرُم بِشرٌ مِن مَكانِه حتّى عاد لونُه كالطَّيْلَسانِ([172])
وماطَلَه وَجَعُه سَنةً لا يتحوَّل إلا ما حُوِّلَ، ثم ماتَ منه، ويقال: لم يَرُمْ
مِن مكانِه حتّى ماتَ، وهذه للبَراءِ شهادةٌ، وقد عاشَ رَسولُ الله ﷺ بعد ذلك
ثلاثَ سنِينَ.
وقَد اختُلِفَ فِيما
فُعِلَ بزينبَ بنتِ الحارثِ، فقال البيهقيُّ يحتمِلُ أنْ يكونَ تركَها أوّلًا ثمّ
لمّا ماتَ بِشرُ بنُ البَراءِ مِن الأُكْلةِ قتَلَها، وبذلك أجاب السّهَيلِيُّ
وزاد: أنّه تركَها، لأنّه كان لا يَنتقِمُ لنَفْسِه([173])
ثمّ قتَلَها ببِشْرٍ قِصاصًا، وقال الحافظ العسقلانيّ([174]):
“ويَحتمِلُ أن يكونَ تركَها لكونِها أسلَمَتْ، وإنّما أخَّرَ قَتْلَها حتى
مات بِشرٌ لأنّ بِمَوتِه يَتحقَّقُ وجوبُ القِصاص بِشَرطِه، وذكَر أبو سعدٍ
النّيسابوريُّ أنّه قتَلَها وصلَبَها([175]).
وقد
روَى أبو داودَ في «سُنَنِه» أنّ النَّبِيّ ﷺ لَمّا كانَ في وَجَعِهِ الَّذِي ماتَ
فِيهِ قالَ: «ما زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ
فَهَذا أَوانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي». والأبهَرُ عِرقٌ مُسْتَبطِنٌ بالصُّلبِ
مُتَّصِلٌ بالقَلبِ ثُمّ تَتشعَّبُ منه سائر الشّرايينِ، إذا انقطَعَ ماتَ صاحبُه([176]).
وفي روايةٍ لأبي نُعَيم: «تُعَاوِدُنِي فِي كُلِّ عَامٍ» أي يراجِعُني
الألَمُ فأَجِدُهُ في جَوفِي كُلَّ عامٍ بسبب أَكلِي من الطعامِ المسمومِ، وفي ذلك
دليلٌ على أنّه قد نالَ ﷺ معَ عُلوِّ درجَتِه الشّهادةَ أيضًا.
وفِي
خَبرِ الشّاةِ المسمومةِ فوائدُ جَمّةٌ غيرُ ما سبَقَ، منها:
– جَوازُ أكلِ ذَبِيحةِ الكِتابيّ، كما
دلَّ على ذلكَ صريحُ الآيةِ: ﱡﭐ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﱠ
[المائدة: 5].
– وحِلّ الأكلِ مِن ذَبِيحةِ المرأةِ.
– تقريبُه ﷺ بحُسنِ خلُقِه غيرَ المسلمِينَ
مِن الإسلامِ.
– جوازُ مخالَطة الكُفّار فيما أذِن فيه
الشَّرعُ مِن غير تحسينٍ لبَاطلٍ ولا تشجيعٍ على محرَّمٍ أو تزيينٍ لفَسادٍ.
– دليلٌ على أنّه ﷺ لا يَعلَم الغيبَ كلَّه
وإلّا لَمَا أكَلَ. فإن قيل: عَلِمَ أنّ الشاةَ مَسمومةً وأَكَل لاعتقادِه أنه لا
يَنضَرُّ، فالجوابُ: أنّه لم يَكُن ليَسكُتَ عن تحذيرِ الصَّحابِي الّذي معَه مِن
الأكلِ.
– معجزةُ إخبارِ لَحمِ الشّاةِ النَّبِيَّ
ﷺ بأنّها مسمومةٌ.
– معجزةُ عدَمِ تأثيرِ السُّمِ في أبهَرِ ﷺ
مِن ساعَتِه.
– دليلٌ على أنّ الأسبابَ لا تَخلُق
المُسبَّبات.
أكلُه
ﷺ الدُّبّاءَ والعسَلَ
والحَلْواءَ والبِّطِّيخَ والقِثَّاءَ والرُّطَبَ
400- |
……………………………. وَالدُّبَّاءُ |
|
وَالعَسَـلُ الْمَحْبُـوبُ وَالحَـلْـوَاءُ
|
401- |
وَيَـأْكُـلُ البِّـطِـيـخَ وَالقِـثَّـاءَ
|
|
بِـرُطَـبٍ يَـبْـغِـيْ بِـهِ الـدَّوَاءَ |
402- |
يَقُولُ يُطْفِيْ بَـرْدُ ذَيْـنِ حَـرَّ
ذَا |
|
وَكُـلُّ إِرْشَـادٍ فَـعَـنْـهُ أُخِـذَا |
(وَ)كان
ﷺ
يُعجِبُه (الدُّبَّاءُ) وهو اليَقطينُ، وقيل: القَرعُ
المعروفُ بالحِجازِ، فكان ﷺ يَستحسِنُه ويُحِبُّ تَناوُلَه لِمنافعِهِ؛ فهو جيّد
التّغذيةِ، يَزِيدُ في الدِّماغ، ويقوّي البَصَر، ويُليّن البَطن، ويُسكِّن
العطَشَ.
وروَى الشَّيخانِ وبعضُ
أصحابِ السُّنَنِ عن أنسٍ رضي الله عنه أنّه قالَ: «رَأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ
يَتَتَبَّعُ الدُّبّاءَ مِن حَوَالَيِ القَصْعةِ»، قالَ: فلَم أزَلْ أُحِبُّ
الدُّبّاءَ مِن يَومِئِذٍ.
وروَى ابنُ ماجهْ في
«سُنَنِه» عن جابرٍ رضي الله قالَ: دخلتُ على النَّبِيّ ﷺ في بَيتِهِ وعِندَه هذا
الدُّبّاءُ، فقُلتُ: أيُّ شىءٍ هذا؟ قال: «هَذا القَرْعُ، هُوَ الدُّبّاءُ
نُكْثِرُ بِهِ طَعامَنا».
(وَ)كذلكَ
(العَسَلُ) وهو (الْمَحْبُوبُ) للنّاسِ
عامّةً كان يُعجِبُهُ ﷺ الممزوجُ منهُ بالماء، كما ذهَب إليه جمهورُ الشُّراح،
ويَشربُه ﷺ مِن ساعتِه. قال المُناويُّ: “وفيه مِن
حِفْظ الصِّحّةِ ما لا يَهتدِي لمعرفته إلا فُضلاءُ الأطِبَّاء، فإنَّ شُربَه
ولَعْقَه على الريق يُذِيبُ البَلغَم، ويَغسِلُ خَمل المَعِدة، ويجلو لزُوجَتها،
ويَدفع فَضلاتِها، ويَفتح سَدَدها، ويُسَخِّنُها
باعتدال، ويفعل ذلك
بالكَبِد والكُلَى والمَثانةِ، وإنَّما يُضِرُّ بالعَرَض لصاحبِ الصَّفراء لحِدَّتهِ
وحِدَّةِ الصَّفراء”([177]).
قال أبو بكر بن العربيّ([178]):
“اللَّبنُ والعسلُ مَشرُوبان عظِيمان سِيَّما لبَنُ الإبِل فإنها
تأكل مِن كُلِّ الشَّجر، وكذا النَّحل لا تُبقِي نَوْرًا([179])
إلا أكَلَت منه، فهُما مرَكَّبان مِن أشجارٍ مُختلِفةٍ وأنواعٍ مِنَ النّبات
متبايِنةٍ، فكأنَّهُما شَرابان مطبوخان مصعَّدان لو اجتمَع الأَوَّلُون والآخِرُون
على أن يُرَكِّبُوا شَيئَينِ مِنهُما ما أمكَنَ، فسُبحانَ جامِعِهِما”.
وقَد جاءَ في القرءانِ
بيانُ عظيمِ برَكةِ العسَل فقال تعالى: ﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ
ﲕ ﲖ ﲗﱠ [النّحل:
69]، وكذلك قالَ النّبيُّ ﷺ: «عَلَيْكُم
بِالشِّفائَيْنِ القُرْءانِ وَالعَسَلِ» رواهُ البيهقيُّ والحاكمُ.
وروَى أبو داودَ في
«سُنَنِه» عنِ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما «أنَّ النّبِيَّ ﷺ لَبَّدَ رَأْسَهُ
بِالْعَسَلِ».
(وَ)كذلكَ
(الحَلْوَاءُ)([180]) كان يُعجِبُهُ، وهو اسمٌ لطعامٍ عُولِج
بِحَلاوةٍ كعَسلٍ وسُكَّرٍ ونَحوِهما، قاله الأزهريُّ، وذهب النَّوَويُّ إلى أنّه
كلُّ حُلوٍ وإنْ لم تَدخُلْه صَنعةٌ، فقد يُطلق على الفاكِهة. والحَلواء محبوبةٌ
عند النّاسِ عامّةً لمُلاءَمَتِها للنَّفْس والبَدَن.
قال أبو سليمانَ الدّارانيُّ رحمهُ الله([181]): “الحَلْوَاءَ
لَيسَ عَلَى مَعنَى كَثرَةِ التَّشَهِّي لَها وَشِدَّةِ
نِزاعِ
النَّفسِ إِلَيها وَتَأَنُّقِ الصّنعَةِ فِي اتِّخاذِها فِعلَ أَهلِ الشَّرَهِ
والنَّهَمِ، وَإِنَّما هُوَ أَنَّهُ كانَ إِذا قُدِّمَ لَهُ الحَلواءُ نالَ مِنها
نَيلًا صالِحًا مِن غَيرِ تَقدِيرٍ، فَيُعلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَد أَعجَبَهُ
طَعمُها وَحَلاوَتُها”.
(وَ)كان
ﷺ (يَأْكُلُ البِّطِيخَ) بِالرُّطَبِ أي معَهُ أحيانًا (وَالقِثَّاءَ) بِكَسرِ القاف على المشهورِ ويُضَمُّ (بِرُطَبٍ) أحيانًا أُخرَى، وكان ﷺ (يَبْغِي بِهِ)
أي الجَمْعَ بينَهُما إذا تناوَلَهُما (الدَّوَاءَ) أي الانتِفاعَ
بهِ للبَدَنِ وذلك بالجمعِ بينَ الحَارِّ والبارِدِ، وكان (يَقُولُ يُطْفِيْ)
وفي روايةٍ: «يَكْسِرُ» (بَرْدُ) هــ(ـذَيْنِ) البِطِّيخِ والقِثّاءِ (حَرَّ) هــ(ذَا) أي الرُّطَبِ.
ويُؤخذُ مِن فِعلِهِ
ذلكَ ﷺ جوازُ مُراعاةِ صِفاتِ الأطعِمةِ وطَبائِعها واستعمالُها على الوَجهِ
الأَلْيَق بِها على قاعِدَةِ الطِّبِّ، لأنّ في الرُّطَب حَرارةً وفِي القِثَّاءِ
والبِطِّيخِ بُرودةً، فإذا أُكِل البارِدُ مع الحَارِّ معًا اعتَدَلَا.
ومِن فوائد أكلِ هذا
المرَكَّبِ تَعدِيلُ المِزاجِ وتَسمِينُ البَدَن، فقد ثَبَتَ عَنْ عائِشةَ رضيَ
اللهُ عنها أنّها قالَتْ: «كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي لِلسُّمْنَةِ تُرِيدُ أَنْ
تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ
الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ، فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ السِّمَنِ».
وقَد يُشكِل بأنّ
البِطِّيخَ النّضِيجَ حارٌّ لحَلاوَتِه، فالجوابُ كما قال المُظهِريُّ([182])
والشّهابُ الرَّمليُّ([183])
والسيُّوطيُّ([184])
وغيرُهم إنّ المُرادَ بالبِطِّيخِ هُنا حالُه قبلَ أنْ يَنضُجَ ويَصِيرَ حُلوًا، فإنّه
قبلَ نُضْجِه وحَلاوَتِه يكونُ باردًا.
واختُلِف
في البِطِّيخ، فقيل هو الخِرْبِزُ، وقيل: الأصفَر، وقيل: الأحمَرُ. ويتمسَّك
بعضُهم
للقولِ الأوّل بحديث
النّسائيّ عن حُمَيدٍ عن أنَسٍ رضي الله عنه: «رأيتُ رسولَ الله ﷺ يَجمَعُ بَيْنَ
الرُّطَبِ وَالخِرْبِزِ([185])»
وحسَّنَ سنَدهُ الحافظ العسقلانيُّ([186]).
قال الشهاب الرّمليّ([187]):
“والمرادُ بالبِطِّيخ في حديثِ البابِ: الأخضَرُ، فإنّه وصَفَه بالبُرودةِ،
والباردُ الأخضَرُ، وأمّا الأصفرُ فإنّه حارٌّ”. وتعقَّبَه الحافظُ فقالَ([188]):
“وقد تَكْبُر القِثّاءُ فتَصْفَرُّ مِن شِدّة الحَرِّ فتَصِيرُ كالخِرْبِز
كما شاهَدْتُه كذلك بالحِجاز، وفي هذا تَعَقُّبٌ على مَن زَعَم أنّ المُرادَ
بالبِطِّيخِ في الحديثِ الأخضَرُ واعْتَلَّ بأنَّ في الأصفَرِ حَرارةً كما في
الرُّطَبِ وقد وَرَد التّعلِيلُ بأنَّ أحدَهُما يُطْفِئُ حَرارةَ الآخَرِ،
والجوابُ عن ذلك بأنّ في الأصفَرِ بالنِّسبةِ للرُّطَب بُرودةً وإنْ كان فيه
لحَلاوَتِه طرَفُ حَرارةٍ”.
واختُلِف في القِثّاء،
فقيلَ: هو المعروفُ بالفَقُّوسِ في اصطِلاحِ مِصرَ، وقيل: الخِيارُ([189]).
وفِي جَمعِه ﷺ بينَ
الطّعامَينِ بيانُ لإباحةِ الجَمعِ بينَ نَوعَينِ مِن حَلالِ الأطعِمة، قال
الحافظُ النّوويُّ([190]):
“وفيه جَوازُ أكلُ الطعامَين معًا والتوسُّع في الأطعِمة، ولا خِلافَ بين
العلماء في جواز هذا، وما نُقِل عن بعض السَّلَف مِن خلاف هذا فمحمولٌ على كراهة
اعتيادِ التَّوَسُّع والترَفُّه والإكثارِ منه لغير مَصلحةٍ دِينِيّةٍ” اهـ.
ففِي بعضِ ما سبَقَ إرشاداتٌ نبويّةٌ شريفةٌ للعبادِ، (وَكُلُّ إِرْشَادٍ) أرشدَ إليه ﷺ بِقولِهِ
أو فِعلِهِ (فَعَنْهُ) بِلا تردُّدٍ (أُخِذَا) أي
خُذْهُ واعمَلْ به، كيف لا، وقد أعطى اللهُ تعالَى نَبِيَّه ﷺ عِلمَ الأوّلِينَ
والآخرِينَ.
403- |
يَـأْكُـلُ
بِالأَصَـابِـعِ الثَّـلَاثَـةِ |
|
يَلْـعَـقُـهَا
لِقَصْـدِ ذِيْ الـبَـرَكَةِ |
404- |
يَـبْـدَأُ
بِـسْــمِ اللهِ ثُـمَّ يَخْـتِـمُ |
|
بِالحَمْدِ
فِي شُـرْبٍ وَأَكْلٍ يَطْـعَمُ |
وكان ﷺ (يَأْكُلُ بِالأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ) الإبهامِ والسَّبّابةِ
والوُسطَى مِن يَدِهِ اليُمنَى الشّريفةِ، وفي اقتِصارِه ﷺ على الأكلِ بالثّلاثِ
أدبٌ جمِيلٌ مُشعِرٌ بعدَمِ الشَّرَهِ في الطعَّام والاقتِصارِ على ما يُحتاج إليه
تقليلًا مِن غيرِ تكثيرٍ وهذا فيما يَتأتَّى فيه ذلك مِن الأطعِمة، أمّا إذا كانَ
المرءُ يأكلُ ما لا يَتأتَّى ذلكَ فيه استَعانَ عليه بما يُحتاجُ إليه مِن
أصابِعه. وقد ذهَبَ بعضُ الفقهاءِ إلى أنّ الثلاثةَ هي السَّبّابةُ والوُسطَى
والخِنصِرُ وأنّه يُستعانُ معَها بالإبهام رابِعًا للإمساكِ باللُّقمةِ([191]).
(يَلْعَقُهَا)
أي يَلحَسُ الأصابِعَ الثّلاثةَ بفمِهِ الشّريفِ (لِقَصْدِ)
تحصيلِ (ذِيْ) أي هذهِ (البَرَكَةِ)
الحاصلةِ في أثرِ الطّعامِ. والأصلُ في معنَى البَرَكةِ الزِّيادةُ مِنَ الخَيرِ
وثُبوتُهُ، والمراد هُنا ما يَحصُل به التّغذِيةُ وتَسلَمُ بهِ عاقِبةُ الآكِلِ
مِن الأذَى ويَقوَى معَهُ على الطّاعةِ وغيرِ ذلك، قاله النّوويُّ([192]).
وثبَتَ عنه ﷺ قولُه: «إِذَا
أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ
يُلْعِقَهَا»، معناه لا يَمسَحْ يَدَه حتى يَلعَقَها هو، فإنْ لم يفعل
فَلْيُلْعِقْها غيرَه مِمَّن لا يَتَقَذَّرُ ذلك كزَوجةٍ ووَلدٍ وخادِمٍ
يُحِبُّونَه ويَلتَذُّون بذلك ولا يَتَقَذَّرُون. قال النّوويُّ([193]):
“وكذا مَن كان في معناهُم كتِلميذٍ يَعتقِدُ بَركتَهُ ويَوَدُّ التَّبَرُّك
بِلَعْقِها، وكذا لو أَلْعَقَها شاةً ونَحوَها”.
وفي روايةٍ عند مُسلِمٍ
زيادةُ: «إنَّكُمْ لا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ البَرَكةُ» معناهُ أنّ
الطّعامَ الّذي يَحضُرُه المرءُ فيهِ برَكةٌ ولا يَدرِي أنّ تِلكَ البرَكةَ فيما
أكَلَه أو فيما بَقِي على أصابعِه أو في ما بَقِي في أسفَلِ القَصْعةِ فيَنبَغِي
أن يُحافِظَ على هذا كُلِّه لتَحصُلَ البرَكةُ، قاله النّوويُّ([194]).
وكيفيّة اللَّعقِ
البدءُ بالوُسطَى مِن الأصابِع ثمّ السَّبّابة ثمّ الإبهامِ، والسَّببُ في البدءِ
بالوُسطَى أنّها أكثَرُ ما يُصيبُه أثرُ الطّعامِ مِن الثّلاثةِ الأصابِع لأنّها
أطوَلُ الأصابِع فيَعلَقُ بِها أكثرُ مِمّا يَعلَقُ مِن غيرِها أو لأنّها أوّلُ ما
يُصِيبُه الطّعامُ مِن بَينِ الثّلاثةِ غالبًا، ومِثلُه سببُ تقديمِ السَّبّابة
على الإبهام، وقيل غيرُ ذلكَ([195]).
وكان ﷺ إذا أرادَ
الأكلَ أو الشُّربَ (يَبْدَأُ) متبرِّكًا (بِاسْمِ اللهِ) أي بذِكرِ اسم اللهِ تعالَى، وإثباتُ الألِف في
“باسْمِ” مِن “باسْمِ اللهِ” هو المُقدَّمُ – وقد تُحذَفُ –
لكن حَقُّها أنْ تُثبَت، ومثلُها “باسْمِ رَبِّك”، وتُحذَفُ مِن
“بسم الله الرحمنِ الرحيمِ” لكَثرةِ استِعمالهِ.
(ثُمَّ) كانَ
ﷺ
(يَخْتِمُ بِالحَمْدِ)
للهِ (فِي شُرْبٍ) يَشرَبُهُ (وَأَكْلٍ يَطْعَمُـ)ـهُ
أي عقِبَهُما، فقد روَى البُخاريُّ وابنُ ماجهْ وأبو داودَ عَن أبي أُمامة رضي
الله عنه أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان إذا رَفَع مائِدَته قال: «الحمدُ لِلَّهِ
كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفيٍّ وَلا مُوَدَّعٍ وَلا
مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنا([196])».
وكانَ
ﷺ (يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةٍ)
مِنَ المَرّاتِ ويتنفَّسُ (أَنْفَاسًا) ثلاثةً عَقِبَ
كُلِّ شَربةٍ بإبانةِ الإناءِ عَن فَمِهِ، ويَحمَدُ اللهَ تعالى في كُلِّ نَفَسٍ
ويَشكُرهُ في ءاخِرِه، كذلكَ رواهُ ابنُ السُّنِّيِّ.
وكان
ﷺ (يَمَصُّ) الماءَ مَصًّا أي على مُهلةٍ شُربًا رَقيقًا لا
عَبًّا والعَبُّ الشُّربُ تتابُعًا مِن
غيرِ تنفّس([197])،
وقد جاء في حديثٍ رواهُ البيهقيُّ بسندٍ فيه ضَعفٌ([198])
عَن أنسٍ مرفوعًا: «مُصُّوا الماءَ مَصًّا وَلَا تَعَبُّوهُ عَبًّا»، وفي
بَعضِ الرّواياتِ زِيادةُ: «فَإِنَّ الكُبَادَ مِنَ العَبِّ» أي وجَعَ
الكَبدِ يأتِي مِن العَبِّ بسبِ هُجومِ الماءِ جُملةً واحدةً على الجَوفِ.
(فَهْوَ)
أي الشُّربُ على هذهِ الصِّفةِ (أَهْنَأُ) أي أَروَى
لآخِذِه (اخْتِلَاسًا) أي على جُرَعاتٍ قليلةِ الكَمِّ.
ثُمّ إنّه ﷺ معَ كَونِه
يتنفَّسُ بينَ الشِّرباتِ لكن (لَمْ يَتَنَفَّسْ فِي) شُربِه مِن (الإِنَا)ءِ أي داخِلَهُ (إِذْ يَشْرَبُ)
مِنهُ بلْ (يُبِيْنُهُ) أي يُبعِدُهُ (عَنْ فِيهِ)
أي فَمِه الشّريفِ (فَهوَ) أي عِلّة ذلكَ أنّه (أَطْيَبُ) وأحسَنُ في الشُّربِ كما جاءَ عنهُ ﷺ عندَ ابنِ
حِبّانَ في «صَحِيحِه» عَن بَهْزٍ قال: كانَ رسولُ اللهِ
ﷺ إِذَا شَرِبَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ: «هُوَ أَهْنَأُ
وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ» معناهُ أقمَعُ للعطَشِ، وأقوَى على الهَضْم، وأقَلُّ
أثرًا في بَردِ المَعِدة وضَعفِ الأعضاءِ، قاله الشّمسُ البرماويّ([199]).
ومِن الحِكمةِ في
النَّهيِ أدَبًا عَن التّنفُّسِ في الإناءِ – كما ذكَرَ غيرُ واحِدٍ مِن الفقهاءِ([200]) – أنّه إذَا فُعِل ذلكَ لم يُؤْمَن أنْ يَبْدُر
مِن فِيهِ الرِّيقُ فيُخالِطَ الماءَ فيَعافُه الشّارِبُ منه، ورُبَّما تَرَوَّح
بنَكْهةِ المُتنفِّس إذا كانَتْ فاسِدةً فيَفسُدُ لرِقّةِ طَبعِ الماءِ ولُطْفِه.
أمّا نَفَسُه ﷺ فهو
شريفٌ مُبارَكٌ أطيبُ مِن الطِّيبِ وأزكَى مِن الماءِ الّذي لَم يُباشِرْهُ ﷺ
بَعدُ، فإذا باشَرَه
بشَربةٍ مِنهُ حَلَّ فيما بَقِي مِن الماءِ في الإناءِ برَكةٌ لا يَعلَمُ عِظَمَها
إلّا اللهُ عزَّ وجلَّ، فعُلِمَ مِن ذلكَ أنّ إبانتَهُ ﷺ للإناءِ عَن فَمِه
والتّنفُّسَ خارِجَه هو لتعليمِ أُمّتِه.
فإنْ قيل: ما التّوفيقُ
بينَ الحديثِ المذكورِ ءانِفًا وبينَ حديثِ البُخاريّ عن أنَسٍ رضي الله عنه أنّ
كانَ يَتَنفَّسُ في الإِناءِ ويَقُولُ إنّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَفعَلُه؟
فالجوابُ: أنّه ذهَبَ
أكثَرُ الشُّرّاح إلى أنّ المُرادَ تنفُّسُه في الإناءِ أي بينَ الشِّرباتِ مِن
الإناء، فكان يتنفَّسُ خارِجَه مُبِينًا للإناءِ عَن فيهِ الشّريفِ ولا يَتنفَّسُ
نَفَسَه الزَّكِيَّ فيه. وذَهَبُ ابنُ بَطّالٍ([201])
إلى أنّ المرءَ إذا شَرِبَ معَ مَن لا يَتقذَّرُ مِنه فالتَّنَفُّس له مُباحٌ،
ولذلكَ تنَفَّسَ ﷺ لعِلْمِه برَغبةِ النّاسِ فيما يَتنفَّسُ فيه لِيَدُلَّ
أُمَّتَه على إباحةِ ذلك مِمّن لا يَتقذَّرُ بِنَفَسِه، ألا تَرَى أنه مَجَّ في
وَجْهِ مَحمودِ بنِ الرَّبِيعِ مَجّةً فكانتْ له بِذَلِكَ فَضِيلةٌ.
وكان ﷺ (يَشْرَبُ) الشّرابَ ماءً أو غيرَه (قَاعِدًا) في
أكثرِ أحوالِهِ (وَ)يَشَربُ (مِنْ قِيَامِ لِـ)ـأمرٍ
(عَارِضٍ كَـ)ـشُربِه مِن بِئرِ (زَمْزَمِ)
المَنسوبِ إلى المَسجِدِ (الحَرَامِ) لكَونِهِ
موجودًا فيه، فلذلك حرَّكَ النّاظِمُ ءاخِرَ “زَمزمَ” بالكَسر مُضافةً
إلى “الحَرامِ”، وزَمزَمُ ممنوعةٌ من الصَّرفِ للعَلميّةِ والتّأنيثِ.
(وَ)مِمّا
أُثِرَ عنه ﷺ مِن فِعلِه (شُرْبُهُ) الماءَ (مِن) فَمِ (قِرْبَةٍ معَلَّقَةٍ) وهو
قائِمٌ، والقِربةُ بكسرِ القافِ ظَرفٌ مِن جِلدٍ يُخرَزُ مِن جانِبٍ واحدٍ
يُستَقَى بِهِ الماءُ واللَّبَنُ ونَحوُهُما مِمّا حُفِظَ فِيها، وقال بعضُهم([202]):
السِّقاءُ للماءِ واللَّبَنِ ونَحوِهما، والوَطْب([203])
للَّبَنِ أو معَ
السَّمْنِ خاصّةً([204])، والقِربةُ
للماءِ خاصّةً، وقد (دَلَّ بِهِ) أي بشُربِهِ ﷺ (لِلرُّخْصَةِ) أي على جوازِ شُربِ الماءِ قِيامًا، وهذه
الرُّخصةُ (الْمُحَقَّقَةُ) أي الثّابتةُ دَلَّ عليها
حديثُ كَبْشةَ الأنصاريّة أختِ حسّانَ رضي الله عنهُما: «أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ
دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ
قَائِم»، فَقَطَعَتْ فَمَ القِربةِ تَبْتَغِي بَرَكةَ مَوضِعِ فِيْ([205])
رَسولِ الله ﷺ. قال الترمذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وهذا دليلٌ لأهل
السُّنّة على جوازِ التبرُّك بما مَسَّهُ رسولُ الله ﷺ بِيَدِه أو بِفَمِهِ
الشّريفِ كما فعلَتْ هذه الصّحابيّةُ الجلِيلةُ بقَطْعِها فَمَ القِربة
وتَبرُّكِها بها بعدَ ذلكَ ثُمّ تبرُّكِ غيرِها مِن بعدِها بذلكَ.
وكان
ﷺ إذا شَرِبَ شرابًا لبنًا أو غيرَهُ وحولَهُ مِن أصحابِهِ (يُنَاوِلُ)
مِن سُؤرِهِ أي ما بَقِي مِن مَشروبِه (الأَيْمَنَ) مِن صَحابَتِه
أي مَن كان مِنهُم على يَمِينِه (قَبْلَ) الّذي هو على
الجانِبِ (الأَيْسَرِ) مِنهُ، وإنْ كانَ الّذي على يمينِ
النّبِيّ ﷺ مفضولًا، فقد رَوَى الشّيخانِ عَن أنسٍ رضيَ الله عنه – وهو ابنُ عَشرِ
سنِينَ – أَنَّ رَسولَ الله ﷺ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ([206])
وَعَنْ يَمِينِهِ أعْرَابِيٌّ وَعَنْ يَسَارِهِ أبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ﷺ ثُمَّ
أعْطَى الأعْرَابِيَّ وَقَالَ: «الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ([207])»،
وفي رِوايةٍ: «الأَيْمَنُونَ الأَيْمَنُونَ([208])،
ألَا فيَمِّنُوا([209])»،
وفي ثالِثةٍ:
«الأيْمَنُونَ
الأيْمَنُونَ الأيْمَنُونَ». قال أنسٌ: “فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ
فَهِيَ سُنَّةٌ”. وجاءَ في روايةٍ أنّ الّذي كانَ على يَمِينِه عبدُ اللهِ
بنُ عبّاسٍ رضي الله عنهُما.
وفي
الحِديثِ فوائِدُ كثيرةٌ، مِنها:
–
صِحّةُ روايةِ
مَا تحمَّلهُ المرءُ صَبِيًّا، إذ كانَ أنسٌ رضي الله عنه ابنَ عشرِ سنِينَ
بالمدينةِ لَم يَبلُغِ الحُلُم بعدُ.
–
الحكمةُ في
شَوبِ اللَّبنِ بالماءِ إبرادُه أو تكثيرُه أو إزالةُ
حُموضتِه أو مجموعُ بعضِ أو كُلِّ هذه المَقاصِد.
–
تعليمُ النّبِيّ
ﷺ أصحابَهُ التّيامُنَ وحثُّهُ لَهُم على الإكرامِ.
–
حثُّه ﷺ أصحابَه
على التّبرُّك بِسُؤرِه وإعانَتُه لَهُم على ذلك.
اختِيارُه ﷺ الحُلوَ البارِدَ
واللَّبَنَ مِن الشَّرابِ
410- |
وَالبَارِدُ
الحُـلْـوُ يُحِـبُّ شُـربَـهُ |
|
وَاللَّـبَـنَ
اسْـتَزَادَ إِذْ أَحَـبَّـهُ |
411- |
يَـقُـولُ
زِدْنَا مِنْهُ فَهْوَ يُـجْـزِيْ |
|
عَنِ
الشَّـرَابِ وَالطَّعَامِ الْمُجْزِيْ |
ولمَ يَكُن ﷺ يُقَدِّمُ
الأيسَرَ على الأيمنِ (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي
القاعدِ على يَمِينِهِ تطيِيبًا لخاطِرِه لا وُجوبًا عليهِ، وإنّما كان يُقَدِّمُ
(لِـ)ـمصلحةٍ
يَراها كمُراعاة (حَقِّ الأَكْبَرِ) سِنًّا. وجاءتْ أحاديثُ
كثيرةٌ تدُلٌّ على رِعايَتِه ﷺ حقَّ الأكبَر، مِنها ما رواهُ أبو داودَ في
«سُنَنِه» عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَسْتَنُّ([210])
وَعِنْدَهُ رَجُلانِ أحَدُهُما
أكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ،
فَأوْحَى اللَّهُ إِلَيهِ فِي فَضْلِ السِّواكِ، أنْ كَبِّرْ([211])
أَعْطِ السِّواكَ أكْبَرَهُما». وروَى الطّبرَانيُّ في «المُعجَم الأوسط» وأبو
يَعلَى في «المُسنَد» عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما قَالَ: كانَ رسولُ الله ﷺ إذَا
سَقَى قالَ: «ابْدَؤُوا بالكَبِيرِ أوْ بِالأَكابِرِ».
وفي حديثٍ رواهُ
الشَّيخانِ وغيرُهما أنّه ﷺ أرشَد إلى أنْ يكونَ مُتحدِّثُ القَومِ أكبرَهُم فقالَ
ﷺ: «الكُبْرَ الكُبْرَ»، وفي روايةٍ: «لِيَبْدَإِ الأَكبَرُ»، وفي
ثالثةٍ: «كَبِّرْ كَبِّرْ».
ورُبَّمَا استأْذَنَ ﷺ
في تقديمِ مَن على شِمالِهِ على مَن على يَمِينِه كما استأذن ابنَ عَبّاسٍ رضي
الله عنهما وهو غلامٌ وكان خالدُ بنُ الوليد عن شِماله وذلك في بيت ميمونةَ وقد
جاءتهُم بإناءٍ مِن لَبَنٍ، وقد روَى الحديثَ مُسلِمٌ عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ
السّاعِدِيّ ونصُّه أنَّ رسولَ الله ﷺ أُتِيَ بِشَرابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ
يَمِينِهِ غُلامٌ([212])
وَعَنْ يَسارِهِ أَشْياخٌ([213])
فَقالَ لِلْغُلامِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ؟» فَقالَ
الْغُلامُ: لا واللهِ لا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قالَ: فَتَلَّهُ
رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي يَدِهِ([214]).
قال بعضُهم: إنّما
استأذَنَ النَّبِيُّ ﷺ الغلامَ دون الأعرابيِّ إدلالًا على الغلامِ – وهو ابنُ
عَبّاسٍ – وثِقةً بطِيبِ نَفْسِه بأصلِ الاستئِذانِ لا سِيَّما والأشياخُ
أقارِبُه، نقلَه النّوويُّ([215]).
وقال القاضي عياضٌ:
“وفَعَل ذلك أيضًا تألِيفًا لقُلوبِ الأشياخِ وإعلامًا بوُدِّهم وإيثارِ
كرامَتِهم إذَا لم تَمْنَعْ مِنها سُنَّةٌ، وتَضَمَّن ذلك أيضًا بيانَ هذه
السُّنَّةِ وهي أنَّ الأيمَنَ أحَقُّ ولا يُدفَعُ إلى غيرِه إلا بإذنِه، وأنه لا
بأسَ باستِئذانه، وأنّه لا يَلزَمُه الإذنُ”([216]).
وقد نَصَّ الشّافعيّةُ
وغيرُهم على أنه لا يُؤثَرُ في القُرَب وإنما الإيثارُ المحمودُ ما كانَ في حُظوظِ
النَّفْس دُون الطاعاتِ، قالوا: فيُكرَهُ أن يُؤثِرَ غيرَه بمَوضِعه مِن الصَّفِّ
الأولِ مِن الجَماعةِ، وقال بعضُهم: هو خِلافُ الأَولَى([217]).وقال
الحافظُ النّوويُّ([218]):
“وأمّا الأعرابيُّ فلم يَستأذِنْهُ مخافةً من إيحاشه في استِئذانه في صَرْفِه
إلى أصحابه ﷺ، ورُبَّما سَبَقَ إلى قلبِ ذلك الأعرابيِّ شىءٌ يَهلِكُ به لِقُرْب
عهدِه بالجاهليّة وأَنَفَتِها وعدمِ تَمَكُّنِه في معرفَتِه خُلُقَ رَسُولِ الله
ﷺ، وقد تظاهَرَتِ النُّصوصُ على تأليفِهِ ﷺ قَلْبَ مَن يَخافُ علَيه”.
وفي هذه الأحاديثِ
بَيانُ أنّ هذِه هي السُّنَّة الواضِحةُ وهو المُوافِقُ لِما تَظاهَرَتْ عليه دَلائِلُ
الشَّرْع مِنَ اسْتِحبابِ التَّيامُنِ في كُلِّ ما كان مِن أنواعِ الإكرامِ، وقد
بيَّن ﷺ أنَّ الأيمَنَ في الشرابِ ونحوه يُقَدَّم وإن كان صغيرًا أو مفضولًا لأنَّ
رسولَ الله ﷺ قد قَدَّم الأعرابِيَّ والغلامَ على أبي بكر رضي الله عنه، وأمّا
تقديمُ الأفاضلِ والكِبار فهو عِندَ التَّساوِي في باقي الأوصافِ([219]).
ومِن عظيمِ أدَبِهِ ﷺ
ما رواهُ مُسلمٌ وبعضُ أصحابِ السُّنَنِ عن أبي قَتادةَ وأبو يَعلَى عن
ابن أبِي أوفَى –
واللَّفظُ له – قال: أصابَ رسولَ الله ﷺ وأصحابَه عَطَشٌ فنَزَلْنا مَنزِلًا
فأُتِي بإِناءٍ فجَعَل رسولُ الله ﷺ يَسقِي أصحابَه وجَعَلُوا يقولون: اشرَبْ
فيَقولُ ﷺ: «ساقِي الْقَوْمِ ءاخِرُهُمْ شُرْبًا» حتَّى سَقاهم كُلَّهم.
(وَ)كان ﷺ يُعجِبُهُ (البَارِدُ الحُلْوُ) مِنَ الشّرابِ و(يُحِبُّ شُربَهُ) لِما فيهِ
مِنَ المنافِعِ للبَدِن، فكان ﷺ يَشربُ اللَّبنَ بالماءِ البارِدِ والماءَ
بالعسَل، وإذا شَرِبَ الماءَ بالعسَلِ قال ﷺ: «إنَّهُ يُبْرِدُ فُؤَادِي
وَيَجْلُو بَصَرِي» رواه ابن السُّنِّي.
وِممّا شَرِبَه ﷺ مِن
الحُلو البارِد ماءُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ، لكنّه ﷺ كان لا يَشربُه إذا مرّ عليهِ
مُدّةٌ يُخشَى معَها أنْ يتغيَّرَ فيه الشَّرابُ عادةً مِن النَّبيذِ الحُلوِ([220])
إلى الخَمرِيّة، وفي ذلك رَوَى مُسلِمٌ في «صحِيحِه» وبعضُ أصحابِ السُّنَن عن
ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُنْبَذُ([221]) لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقاءِ([222])، فَيَشْرَبُهُ يَومَهُ والغَدَ وَبَعدَ
الغَدِ، فإذَا كانَ مَساءُ الثّالِثةِ شَرِبَهُ وَسَقاهُ([223])»
الحديثَ.
فائدة:
ماءُ العسَلُ هو الماءُ الّذي أُذِيب فيه العسلُ، وهو نَوعانِ: نِيءٌ ومطبوخٌ،
ويُصَنعُ بوَضعِ جزءٍ مِن عسَلٍ وجُزءانٍ مِن ماءٍ، فإذا أُرِيد صُنعُ المطبوخِ
مِنهُ وُضِعَ على نارٍ هادِئةٍ حتّى يَذهب مِنهُ الثُّلث ثُمّ يُنزَل عن النّارِ
ويُصَفَّى، فإن أريدَ فَضلُ إسخانٍ جُعِلَ فيه مُصْطَكَّى أو زَعْفرانٌ أو
زَنجبِيلٌ أو قَرَنْفُلٌ. وهو شرابٌ حارٌّ بطَبعِه يُقوِّي المعدةَ الباردةَ،
ويُشَهِّي، ويُدِرُّ البولَ، ويمنَعُ مِن الأمراض البارِدةِ، ويُسهِّلَ الطَّبعَ
إذا صادَفَ خَلْطًا مُستَعِدًّا للاندِفاعِ، وينفع مِن اللَّقوة ولِمَن عرَض له
استِرخاءٌ في أعضائِه، وإذَا قُطِّرَ في العَينِ جَلا الآثارَ جَلاءً عَجِيبًا، لكنّهُ
يُضِرُّ بأصحابِ المَرارِ والورَمِ الحارِّ([224]).
(وَ)كان ﷺ يُحِبُّ (اللَّبَنَ) و(اسْتَزادَ) أي طلَبَ مِن اللهِ الازديادَ مِنهُ (إِذِ) استزادَ لأنَّهُ (أَحَبَّهُ) فكان (يَقُولُ) في دعائِهِ ﷺ: اللَّهُمَّ (زِدْنَا مِنْهُ)
لأنّه أرادَ بوجودِ الأكثرِ مِنهُ عِظَمَ النّفع لَهُ ولأمّتِهِ، وهذا يُحمَلُ على
الإكثار من شكرِ الله تعالَى حيث رَزقَهُم شيئًا ينفَعُهم نَفْعًا عظيمًا كما
أكَّده الرسولُ ﷺ، وقد عَلَّم أُمَّتَهُ ذلك فعنِ ابنِ عَبّاسٍ رضيَ الله عنهما
أنّ رَسُولَ الله ﷺ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ فَقَالَ: «إِذَا أَكَلَ
أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا
خَيْرًا مِنْهُ، وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا
فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَىءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنُ» (فَـ)ـاللَّبَنُ (هْوَ يُجْزِيْ) أي يَكفِي ويُغنِي في ءانٍ واحِدٍ (عَنِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ الْمُجْزِيْ) كُلٌّ مِنهُما للبَدَن.
بابٌ فِيه (ذِكرُ خُلُقِه ﷺ في
اللِّباسِ) وأصنافِ ثِيابِه ﷺ
412- |
يَلْبَـسُ مَـا مِـنَ الثِّيَابِ وَجَـدَا |
|
مِـنَ الإِزَارِ وَالقَـمِـيْـصِ
وَالرِّدَاْ |
413- |
وَبُـرْدَةٍ وَشَــمْـلَـةٍ وَحِـبَـرَهْ |
|
وَجُـبَّـةٍ أَوْ فَـقَـبَـاءٍ حَـضَــرَهْ |
كان
ﷺ (يَلْبَسُ)
أيًّا (مَا مِنَ الثِّيَابِ) اللّائقةِ بهِ قَد (وَجَدَا) بألِف الإطلاقِ (مِنَ) المَلبوسِ:
– كـ(ـالإِزَارِ) وهو ما يَستُرُ
أسفلَ البَدَنِ، وقيل: ما تحتَ العاتِق مِن وَسطِه الأسفَلِ([225]). روَى ابنُ
ماجَه في «سُنَنِه» عَن عُمَرَ رضي الله عنه قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ
اللهِ ﷺ
وَهُوَ عَلَى
حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَإِذا عَلَيْهِ إِزارٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذا
الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ»
الحديثَ.
– (وَالقَمِيْصِ)
وهو ما يَستُرُ البَدنَ مِن المَخِيطِ مِن الأعلَى إلى الوَسطِ أو إلى الأسفَلِ،
ذُو كُمَّينِ غيرُ مُفَرَّجٍ ويكونُ مِن قُطنٍ أو كَتّانٍ([226]). روَى
البيهقيُّ والطّبرانيُّ عن أسماءَ بِنتِ يَزيدَ قالتْ: «كانَتْ يَدُ كُمِّ
قَمِيصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الرُّسْغِ([227])».
–
(وَالرِّدَا)ءِ وهو ما يُوضَعُ على
العاتِقَين وبينَ الكتِفَين فوقَ الثِّيابِ([228]). رَوَى مُسلِمٌ
في «صحِيحِه» عَن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ
وَعَلَيْهِ رِداءٌ نَجْرانِيٌّ([229])
غَلِيظُ الْحاشِيَةِ([230])».
–
(وَبُرْدَةٍ) وهو كساءٌ مُربَّع أسوَدُ فيهِ صِغَرٌ يُلتَحَفُ بهِ([231]). روَى أبو داود عَن أبي رِمْثةَ قالَ: انطلَقْتُ معَ
أبِي نحوَ النَّبِيّ ﷺ «فرَأَيتُ
علَيهِ بُرْدَينِ أخْضَرَينِ».
–
(وَشَمْلَةٍ) وهي كِساءٌ يُشتمَلُ بِه أي يُتلَفَّفُ به([232])، فإنْ كان
فيها خُطوطٌ سُودٌ فهي النَّمِرةُ([233]). روَى أبو داود عَن جابِرِ بنِ سُلَيمٍ قالَ: «أَتَيتُ النَّبِيَّ ﷺ
وهوَ مُحْتَبٍ
– بِشَمْلةٍ([234])، وقَدْ وَقَعَ
هُدْبُها([235]) علَى قَدَمَيهِ».
–
(وَحِبَرَةٍ) وهي مِن البُرود اليَمانِيةِ المُخَطَّطة المصنوعةِ
مِن القُطنِ أو الكَتّانِ، وسُمِّيَتْ بذلكَ لكَونِها مُحبَّرةً أي مُحسّنةً([236]). روَى الشَّيخانِ أنّ أنَسًا رضي الله عنه قالَ: «كانَ أَحَبُّ الثِّيابِ
إِلَى النَّبِيِّ ﷺ
أنْ يَلْبَسَها الحِبَرَةَ».
–
(وَجُبَّةٍ) وهي ثَوبانِ يُخاطانِ وَيُحشَى بَينَهُما قُطْنٌ
تُتَّخَذ للبَرْد([237]). روَى ابنُ ماجهْ في «سُنَنِه» عن سَلمانَ الفارسيّ
رضي الله عنه «أنَّ
رسولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ فَقَلَبَ
جُبَّةَ صُوفٍ كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ»([238]).
– (أَوْ فَقَبَاءٍ) وهو ثَوبٌ مُفَرَّج المُقَدَّم إلى الحَلْق لا يَحتاج لابِسُه إلى إدخالِ
رأسِه فيهِ([239]). روَى الشَّيخانِ وبعضُ أصحابِ السُّنَن عَنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ
قالَ: قَسَم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْها
شَيئًا، فَقالَ مَخْرَمَةُ: يا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقالَ: ادْخُلْ فادْعُهُ لِي، قالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ،
فَخَرَجَ إِلَيهِ وَعَلَيهِ قَباءٌ مِنْها فَقالَ: «خَبَأْنا هَذا لَكَ»، قالَ: فَنَظَرَ إِلَيهِ فَقالَ: «رَضِيَ مَخْرَمَةُ».
وكان أيُّ شىءٍ (حَضَرَهُ) ﷺ مِن هذه الثّيابِ لَبِسَه،
سواءٌ كان رقيقًا أو ثَخِينًا، مُخطَّطًا أو مُعلَّمًا أو دُونَ ذلك، مُوشًّى أو
بلونٍ واحِدٍ. ورُوِي([240])
أنّه ترَكَ ﷺ يومَ ماتَ ثَوبَيْ حِبَرةٍ، وإِزارًا عُمانِيًّا، ورِداءً أخضَرَ
حَضْرَمِيًّا يَشهَدُ فيه العِيدَينِ طولُه أربعةُ أذرُعٍ وشِبرٌ
وعَرضُهُ ذِراعانِ، وثَوبَين صُحارِيَّينِ([241])،
وقَمِيصًا صُحارِيًّا، وقَمِيصًا سَحُولِيًّا([242])،
وجُبّةً يَمنِيّةً، وخَمِيصَةً([243])،
وكِساءً أبيضَ مُلبَّدًا([244])،
وقَلانِسَ صِغارًا لاطئةً([245])
ثلاثًا أو أربَعًا، وإزارًا طولُه خَمسةُ أشبارٍ، ومِلْحَفةً([246])
مُوَرَّسةٌ([247])،
وعِمامةً سَوداءُ.
414- |
لَبِـسَ
أَيْـضـًا حُـلَّـةً حَـمْـرَاءَ |
|
فَـزَادَهَـا
بِـحُسْـنِـهِ سَـنَـاءَ |
415- |
وَرُبَّما
ارْتَـدَى الكِسَـاءَ وَحْـدَهُ |
|
لَيْـسَ
عَـلَـيْـهِ غَـيْـرُهُ لَمْ يَعْدُهُ |
416- |
وَرُبَّـمَـا
كَـانَ الإِزَارُ وَحْـدَهْ |
|
لَـيْـسَ
عَلَيْهِ غَـيْـرُهُ بِـعُـقْـدَهْ |
417- |
وَرُبَّـمَـا
كَـانَ عَـلَـيْـهِ مِـرْطُ |
|
مُـرَحَّـلٌ
يَـقْـنَـعُ لَا يَشْـتَـطُّ |
418- |
وَرُبَّـمَـا
صَـلَّـى بِـثَـوْبٍ وَاحِدِ |
|
مُـلْـتَـحِـفًا
بِـهِ بِـغَـيْـرِ زَائِـدِ |
وق
د (لَبِسَ أَيْضًا)
ﷺ (حُلَّةً حَمْرَاءَ)
وهي رِداءٌ مِن ثوبَينِ، وليس الأحمرُ هنا المُشْبَعَ وإنّما هو شىءٌ يُشبِهُ
اللَّونُ المعروف في بلادنا بالبُنِّي (فَـ)ـبَدَتِ الحُلّةُ أجمَلَ مِمّا كانَت
عليهِ إذْ (زَادَهَا) ﷺ (بِـ)ـسبَبِ (حُسْنِهِ) وبَهائِه (سَنَاءً) أي
بريقًا وجَمالًا.
روَى
التّرمذيُّ في «سُنَنِه» عَن جابِر بن سَمُرةَ
رضي الله عنه قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ
فِي لَيْلَةٍ
إِضْحِيَانٍ([248])
وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ
فإِذَا عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ الْقَمَرِ».
وروَى أيضًا عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رضي
الله عنه قال: «ما رَأيتُ مِن ذِي لِمّةٍ([249]) في حُلّةٍ حَمراءَ أحسَنَ مِن
رَسولِ الله ﷺ».
(وَرُبَّما)
أي وَقَدْ، فـ”رُبَّما” هنا للتحقيقِ نَظيرُ ما جاءَ في قولِهِ تعالى: ﱡرُبَّمَا([250]) ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱠ، فقَد
(ارْتَدَى) ﷺ في بعضِ الأحيانِ (الكِسَاءَ) أيِ اللِّباسَ الواحِدَ (وَحْدَهُ) أي (لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) مِنَ الأكسِيَةِ في الوقتِ الواحِدِ و(لَمْ يَعْدُهُ) أي لَم يُجاوِز في بعضِ الأحيانِ الكِساءَ في
اللُّبسِ إلى غَيرِه بلْ اكتَفَى بِهِ تواضُعًا مِنه ﷺ وزُهدًا.
فمَن وضعَ الرِّداءَ في الصّلاةِ ولَبِسَ العِمامةَ والقَلَنسُوةِ بنيّةٍ
حسَنةٍ كنيّة الاقتداءِ بالنّبِيّ ﷺ ومُتابعَتِه فإنّ ذلكَ يزيدُ في
الثَّوابِ إلى حَدٍّ كبيرٍ.
(وَرُبَّمَا) أي
وقَد (كَانَ الإِزَارُ) الّذي
يتّخذِهُ ﷺ أحيانًا علَى هيئةِ التّوشُّحِ، وأحيانًا يأتزِرُ
به (وَحْدَهُ) أي (لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) مِن الثِّيابِ، وكان يَعقِدُ أي يَربِطُ بينَ
طَرَفيهِ (بِعُقْدَةٍ)
ليَثبُت على بدَنِه الشّريفِ ﷺ.
روَى البيهقيُّ في
«السُّنَن الكُبرَى» عن عُبادةَ بنِ الصّامتِ رضي الله عنه قالَ: «خَرَجَ
عَلَيْنا رَسُولُ اللهِ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ مُتَوَشِّحًا بِشَمْلَةٍ لَهُ
صَغِيرَةٍ قَدْ عَقَدَ طَرَفَيْها بَيْنَ كَتِفَيْهِ
فَصَلَّى بِنا
لَيْسَ عَلَيْهِ شَىءٌ غَيْرُها».
(وَرُبَّما) أي
وقَد (كَانَ) ﷺ (عَلَيْهِ) في بعضِ الأحيانِ مِنَ الثِّيابِ (مِرْطٌ) بكسر الميم
وسكون الرّاء وهوَ كِساءٌ مِن صُوفٍ مُربَّعٌ فيه أعلامٌ، وقيل: مِن خَزٍّ أو
صُوفٍ، وقيل: هو كِساءٌ يُتَّزَرُ به (مُرَحَّلٌ) بفتح الحاء المهملة المشدَّدة ضربٌ مِن بُرودِ
اليَمَن عليه بعضُ تَصاوِيرِ رِحالِ الإبِل أي بأكوارِها وَمتَاعِها([251])،
ويُروَى “مُرَجَّل” بجيمٍ وهو ما عليه صورةُ المَراجِل بمعنَى القُدور
أو الخُطوط([252]).
روَى مُسلِمٌ في «صحِيحه» وأبو داودَ في «السُّنَن» عن عائشةَ رضي الله
عنها: «خَرَجَ
النَّبِيُّ ﷺ ذاتَ غَداةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعَرٍ أسْوَدَ».
وكان ﷺ
(يَقْنَعُ) بكُلِّ ما حضرَه مِن ثوبٍ وإنْ حضرَه نَوعٌ
أعلَى مِن غيرِه مِمّا يُباحُ له لُبسُه لَبِسَه لكنْ (لَا يَشْتَطُّ)
أي لا يُفرِط في لُبسِه بل يكونُ مُراعِيًا للوسَط المُعتدِل في الخُشونةِ
واللِّين وبهيئةٍ أبعدَ مِن الكِبرِ.
(وَرُبَّما) أي
وقَد (صَلَّى) ﷺ في بعضِ
الأحيانِ (بِثَوْبٍ وَاحِدِ) أي فيه (مُلْتَحِفًا) أي مُشتَمِلًا مُتلفِّفًا (بِهِ) اشتِمالًا (بِغَيْرِ زَائِدٍ) عليهِ وذلك بَيانًا للجوازِ.
روَى الشَّيخانِ مِن حديثِ عُمَرَ بنِ أبِي سَلَمةَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ
بَيْنَ طَرَفَيْهِ([253])».
وروَى البُخاريُّ في
«صحِيحِه» عَن سَعِيدِ بنِ الحارِثِ قالَ: سأَلْنا جابِرَ بنَ عَبدِ اللهِ عَنِ
الصّلاةِ فِي الثَّوبِ الواحِدِ فقالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَعْضِ
أسْفارِهِ فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ
ثَوْبٌ واحِدٌ فاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إلَى جانِبِهِ، فَلَمّا انْصَرَفَ
قالَ: «ما السُّرَى([254]) يا جابِرُ؟» فَأخْبَرْتُهُ
بِحاجَتِي، فَلَمّا فَرَغْتُ قالَ ﷺ: «ما هَذا الِاشْتِمالُ الَّذِي رَأيْتُ؟»،
قُلْتُ: كانَ ثَوْبٌ – يَعْنِي ضاقَ – قالَ: «فَإِنْ كانَ واسِعًا فالْتَحِفْ
بِهِ، وَإنْ كانَ ضَيِّقًا فاتَّزِرْ بِهِ».
تنبِيه: ليُحذَر مِن قِصّةٍ مكذوبةٍ على
النّبِيّ ﷺ فيها أنّ عائشةَ رضي اللها عنا جاءتْ تَعقِدُ الإزارَ للنّبيّ ﷺ وهو
لابسُه فانعقَدَ الإزارُ على بعضِه فعَلِمَتْ أنَّ النّبِيَّ مِن نُورٍ حقيقيٍّ
لطيفٍ وليسَ جسدًا كثيفًا، وهذا مِن التُرّهاتِ والسَّخافاتِ الّتي تُصادِمُ قولَ
الله تعالَى: ﱡﭐ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﱠ ،
والبشَرُ هو الإنسانُ، وقال تعالَى: ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﱠ. وهو
ﷺ كان يأكُل ويَشرَبُ كسائرِ الأنبياءِ، قال تعالى: ﱡﭐ ﲜ ﲝ ﱠ أي
الأنبياءَ ﱡﲞ ﲟ ﲠ ﲡﱠ. وقد ثبتَ أنّه
ﷺ دَمِيَتْ قدَماهُ الشَّريفتانِ، وشُجَّ رأسُه الشّريفُ، وكُسِرَت رَباعيتُه
المُنيرةُ في غَزوةِ أُحُدٍ، ويكفي في ذلك دليلًا على أنّه كانَ جسدًا جُثّةً كثيفةً
لا نورًا لطيفًا كما ادَّعى بعضُ الزَّنادِقةِ.
419- |
لَا
يُسْـبِـلُ الـقَـمِـيـصَ وَالإِزَارَ |
|
بَـلْ
فَـوْقَ كَعْبَيْهِ هُمَا اقْتِـصَـارَ |
420- |
بَلْ
رُبَّـمـا كَانَا لِنِصْـفِ السَّـاقِ |
|
تَـوَاضُـعـًا
لِـرَبِّـهِ الـخَـلَّاقِ |
وكان ﷺ (لَا يُسْبِلُ) أي لا
يُرسِلُ (القَمِيصَ) الّذي عليهِ ولا يُرخِيهِ نُزولًا إلى الأرضِ (وَ)كذلك لا يُرسِلُ (الإِزَارَا) نازِلًا عَنِ الكعبَينِ (بَلْ) يَجعَلُ
القميصَ والإزارَ مُرتفِعَينِ (فَوْقَ كَعْبَيْهِ) وهُما العَظمانِ النّاتِئانِ عِند مَفْصِل
السَّاقِ والقَدَمِ مِن الجَنْبَين، فـ(ـهُمَا) أي قميصُه وإزارُه ﷺ محبوسَانِ عَن بلوغِ الكَعبَينِ أبًدا حالَ
لُبسِه لهُما ﷺ (اقْتِصَارًا) منهُ على ذلكَ
(بَلْ رُبَّما) أي وقَد (كَانَا) أي القميصُ والإزارُ يَصِلانِ (لِنِصْفِ) أي إلَى وسَطِ (السَّاقِ تَوَاضُعًا) منه ﷺ (لِرَبِّهِ الخَلَّاقِ)
أي اللهِ الّذي يَخلُقُ ما يشاءُ مِن دُونِ أنْ يَعترِيَهُ مانِعٌ. وفِعلُه ﷺ ذلكَ
صائِنٌ للثَّوبِ عن الأوساخِ ومُيسِّرٌ للمَشيِ حال لُبسِه لَه.
رَوَى مُسلمٌ في
«صحِيحِه» عن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهُما: مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي
إِزارِي اسْتِرْخاءٌ فَقالَ: «يا عَبْدَ اللهِ ارْفَعْ إِزارَكَ»،
فَرَفَعْتُهُ، ثُمَّ قالَ: «زِدْ»، فَزِدْتُ، فَما زِلْتُ أَتَحَرّاها
بَعْدُ، فَقالَ بَعْضُ القَوْمِ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقالَ: أَنْصافِ([255])
السّاقَيْنِ.
وروَى ابنُ ماجهْ
وغيرُه عَن حُذيفةَ رضي الله عنه قالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَسْفَلِ عَضَلَةِ
ساقِي أَوْ ساقِهِ فَقالَ: «هَذا مَوْضِعُ الإِزارِ، فَإِنْ أَبَيْتَ
فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَلا حَقَّ لِلْإِزارِ
فِي الكَعْبَيْنِ».
وفي حديثٍ عِندَهُ
أيضًا عن أبي سعيدٍ الخُدْريّ رضي الله عنه قالَ: سَمِعتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «إِزْرَةُ
المُؤْمِنِ إِلَى أَنْصافِ ساقَيْهِ، لا جُناحَ عَلَيْهِ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الكَعْبَيْنِ، وَما أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ فِي النّارِ». ومعناهُ أنّ مَن
أرسَل الإزارَ أو غيرَه مِن الثَّوبِ عنِ الكعبَينِ خُيَلاءَ وكِبْرًا فقَد وقَعَ
في ذنبٍ مِن الكبَائِرِ، وإلّا فإنْ لَم يَكُن إسبالُه بِقَصدٍ مُحرَّمٌ لَم
يَحرُم لكن يُكرَه.
421- |
يَلْـبَـسُ ثَـوبَـهُ مِـنَ الْمَيامِـنِ |
|
وَنَـزْعُـهُ بِالعَـكْـسِ لِلتَّيَامُـنِ |
422- |
كَانَـتْ لَـهُ مِلْحَفَةٌ مَـصْـبُوغَـةُ |
|
بِـزَعْـفَـرَانٍ أَوْ بِوَرْسٍ يُـنْـبَـتُ |
423- |
يَـقُـولُ عِنْدَ اللُّبْـسِ بِاللِّسَـانِ |
|
الـحَـمْـدُ للهِ الَّـذِي كَسَـانِـيْ |
424- |
مَا يَسْــتُـرُ العَـوْرَةَ مِـنْ
لِبَاسِ |
|
مَـعَ التَّـجَـمُّـلِ بِـهِ فِـي
النَّاسِ |
ومِن حُسنِ فِعلهِ ﷺ
أنّه كان (يَلْبَسُ) بفَتحِ الباءِ (ثَوبَهُ مِنَ) جِهةِ (الْمَيامِنِ) جمع مَيْمَنةَ بمعنَى اليَمِينِ، ويدُلُّ على
ذلكَ الحديثُ الّذي رواهُ التّرمذيُّ في «سُنَنِه» عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه
قال: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيامِنِهِ»، (وَ)أمّا (نَزْعُهُ) الثّوبَ ﷺ
فكانَ (بِالعَكْسِ) أي بالهيئةِ المُقابِلةِ (لِلتَّيَامُنِ) وهو
التّياسُر.
فَمَن أرادَ التّأسِّي
بالآداب النّبويّة ابتدأَ في لُبسِ الثّوبِ والنَّعلِ والسَّراويلِ وشِبهِها
باليَمِينِ مِن كُمَّيهِ ورِجْلَيِ السَّراويلِ وخَلَع الأيسَرَ ثُمّ الأيمَنَ،
وكذلكَ الاكتِحالُ، والاستِياكُ، وتَقلِيمُ الأظفارِ، وقَصُّ الشّاربِ، ونَتْفُ
الإِبطِ، وحَلْقُ الرّأسِ، ودُخولُ المَسجِد، والخُروجُ مِن الخَلاءِ، والأكلُ،
والشُّربُ، والمُصافَحةُ، وأخذُ الحاجةِ مِن إنسانٍ ودَفعُها إليهِ وما أشبَه هذا،
فكُلُّه يُفعَلُ باليَمِينِ وضِدُّه باليَسارِ، قاله النّوويُّ([256]).
و(كَانَتْ لَهُ) ﷺ (مِلْحَفَةٌ) أي
مُلاءةٌ (مَصْبُوغَةٌ بِزَعْفَرَانَ) وهو معروف، والأصلُ صرفُه لأنّه اسمُ جنسٍ لا
علَمٌ، يقالُ: زَعْفَرْتُ الثَّوبَ أي صَبَغتُه بزَعْفَرانٍ فهو مُزَعْفَرٌ (أَوْ)
أنّه ﷺ كانَ له مِلحفةٌ مصبوغةٌ (بِوَرْسٍ) وهو نَبتٌ أصفَرُ (يُنْبَتُ) أي يُزرَعُ باليَمَنِ.
وقَد روَى أبو داودَ في «سُنَنِه» عَن قَيسِ بنِ سَعدٍ
أنّه «ناوَلَ
رسُولَ اللهِ ﷺ مِلْحَفةً مَصْبُوغةً بِزَعْفَرانٍ أَوْ وَرْسٍ فاشْتَمَلَ([257])
بِها». وأمّا عند ابنْ ماجهْ فهو عن
قيسٍ قال: «أَتَانَا النَّبِيُّ ﷺ
فَوَضَعْنا لَهُ ماءً فاغْتَسَلَ، ثُمَّ أتَيْناهُ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ([258])
فاشْتَمَلَ بِها، فَكَأنِّي أنْظُرُ إِلَى أثَرِ الوَرْسِ عَلَى عُكَنِهِ([259])».
ظاهرُ
هذينَ الحديثَين إباحةُ لُبسِ المُوَرَّسِ والمُزعفَرِ لغيرِ المُحْرِم – لورودِ
تحريمِ ذلكَ على المُحْرِم في حديثٍ ءاخَرَ – وهو كذلك للمرأةِ، لكنّ هذا
يُعارِضُه في المُزعْفَر للرَّجُل ما في الصَّحِيحَين عن أنسٍ رضي الله عنه «أَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُّ»، ولهذا قال
الشافعيُّ رضي الله عنه: “وأنهَى الرَّجُل الحلالَ بكُلِّ حالٍ أنْ
يَتَزَعْفَرَ وءامرُهُ إذا تَزَعْفَرَ أنْ يَغسِلَه”، لكن حملَ الخطّابِيُّ
والبَيهقيُّ مِن الشافعيّةِ النَّهيَ على ما صُبِغَ مِن الثِّيابِ بَعد نَسْجِه،
فأمّا ما صُبِغَ ثُمّ نُسِجَ فلا يَدخُل في النَّهيِ، وجَوَّز الحافظ الزّين
العِراقيُّ حَملَ النَّهيِ على لَطْخِ البدَنِ بالزَّعفرانِ دُونَ لُبسِ الثَّوبِ
المَصبوغِ بِه، وأيَّدَه بما في «سُنَن النَّسائِيّ» بإسنادٍ صَحِيحٍ عن أنسٍ رضي
الله عنه قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ
يُزَعْفِرَ
الرَّجُلُ جِلْدَهُ»، كذلك نقلَه أبو
زُرعةَ عن والدِهِ([260]).
فائدة:
الوَرْسُ نَباتٌ كالسِّمْسِمِ ولهُ ساقٌ بخِلافِ الزَّعفرانِ، لَيسَ ببَرِّيٍّ،
فإِذا جَفَّ عِند إدراكِه تفَتَّقَتْ خَرائِطُه فيُنفَضُ فيَنتَفِضُ مِنهُ شىءٌ
يُصبَغُ بِهِ. يُزرَعُ فيُقِيمُ فِي الأَرضِ عِشرِينَ سَنَةً وَلا يَتَعَطَّلُ،
وأجودُهُ حديثُه. نافِعٌ للكَلَفِ طِلاَءً، وللبَهَقِ شُربًا، تُتَّخَذُ مِنهُ الغُمرَةُ
لِلوَجهِ([261])، ولُبسُ
الثَّوبِ المُوَرَّسِ مُقَوٍّ عَلَى الباهِ([262]).
وروَى أبو داود في «سُنَنِه» أنّه ﷺ كانَ إذا أرادَ أن
يَلبَسَ شيئًا (يَقُولُ عِنْدَ اللُّبْسِ بِاللِّسَانِ) – لفظٌ أتى به النّاظمُ مُوازنةً – (الحَمْدُ للهِ الَّذِي كَسَانِيْ) هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ
مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
وَمَا تَأَخَّرَ»، وعِندَ ابن ماجهْ
عَن عُمرَ رضي الله عنه أنّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي»
أي (مَا يَسْتُرُ العَوْرَةَ) مِنِّي (مِنْ لِبَاسٍ) «وَأَتَجَمَّلُ
بِهِ فِي حَيَاتِي» أي ما يَكسُونِي (مَعَ التَّجَمُّلِ بِهِ) أي بالثَّوبِ (فِي النَّاسِ) «ثُمَّ
عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ([263]) فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ فِي كَنَفِ اللَّهِ([264]) وَفِي حِفْظِ اللهِ وَفِي سِتْرِ اللهِ حَيًّا
وَمَيِّتًا».
فعُلِمَ مِمّا مَرَّ مِن الآدابِ النّبوِيّةِ أنّ ما يَلبَسهُ
المرءُ بنِيّةٍ حسَنةٍ كسَترِ العَورة وإظهارِ نعمةِ الله عليه أو كان مَيسورًا
فأرادَ أن يَعرِفَهُ الفقراءُ السّائلونَ بذلكَ ليقصِدُوهُ لقصدِهِ الإحسانَ
إليهِم، وقَد روَى التّرمذيُّ في «سُنَنه» مرفوعًا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ». قال الطِّيبيُّ([265]):
“يَعنِي إذَا ءاتَى اللهُ عبدًا مِن عِبادِه نِعمةً مِن نِعَم الدُّنيا
فلْيُظْهِرْها مِن نَفْسِه بأنْ يَلبَس لِباسًا يَلِيقُ بحالِه لإظهارِ نِعَمِ
اللهِ علَيه ولِيَقْصِدَه المحتاجونَ لطلَبِ الزَّكاةِ والصَّدقاتِ. وكذلك
العُلماءُ فلْيُظْهِرُوا عِلمَهُم ليَستفِيدَ النّاسُ مِن عِلمهم”.
ونظيرُ هذا قولُ ابن
عبّاسٍ رضي الله عنهُما: “أنا مِن الرّاسخِينَ في العِلمِ”([266])،
وكذلك رُوِي عن عليّ وعن محمَّد بن جعفرٍ وأحمد الرّفاعيّ الكبير رضي الله عنهم
أجمعينَ قالوا: “سَلُونِي قَبلَ أنْ تَفقِدُونِي”.
وقدَ بَيَّن رسولُ الله
ﷺ أنَّ كُلَّ ذلكَ ليسَ ممنوعًا ولا داخِلًا في الكِبرِ إنْ كانَ القصدُ مِنهُ
غيرَ محظورٍ، فروَى البُخاريُّ في «الأدب المفرَد» أنّ بعضَ الصّحابةِ قالَ
للنّبيِّ ﷺ: فَما الكِبْرُ، هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنا حُلَّةٌ يَلْبَسُها؟
قالَ: «لا»، قالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنا نَعْلانِ حَسَنَتانِ
لَهُما شِراكانِ حَسَنانِ؟ قالَ: «لا»، قالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
لِأَحَدِنا دابَّةٌ يَرْكَبُها؟ قالَ: «لا»، قالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
لِأَحَدِنا أَصْحابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قالَ: «لا»، قالَ: يا رَسُولَ
اللَّهِ فَما الكِبْرُ؟ قالَ: «سَفَهُ الحَقِّ([267])
وَغَمْصُ النّاسِ([268])».
فعُلِمَ مِمّا مَرَّ
أنّ الممنوعَ والمحرَّمَ هو فِعلُ ذلكَ كلِّه بقَصدِ الفَخرِ والتّكبُّرِ سواءٌ
كان نعلًا أو أكبَرَ مِن ذلكَ، وهو ذنبٌ مِن الكبائِر ورَدَ فيه الوعيدُ الشّديدُ
في نُصوصٍ قُرءانيّةٍ وحديثيّةٍ كثيرةً مِنها ما رواهُ الشَّيخان وأحمدُ وغيرُهم
عن ابن عُمرَ رضي الله عنهُما أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: «بَيْنَما رَجُلٌ يَجُرُّ
إِزارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأرْضِ إِلَى
يَوْمِ القِيامَةِ» أي يَغوصُ في الأرضِ ببُطءٍ نُزولًا إلى يومِ القِيامةِ،
ويُفهَم منه أنّ جسَدهُ يبقَى محفوظًا معَ دَوامِ العذابِ عليهِ إلى ذلكَ اليومِ،
ويحتملُ كونُه مُسلِمًا.
425- |
وَيَصْـعَـدُ الْمِنْـبَـرَ إِذْ يَشَـاءُ |
|
بِـرَأْسِــهِ عِـصَـابَـةٌ دَسْــمَـاءُ
|
(وَ)كانَ رسولُ الله ﷺ (يَصْعَدُ) أي
يَرقَى (الْمِنْبَرَ) الخاصَّ بهِ (إِذْ) أي
حينَ (يَشَاءُ)
و(بِرَأسِهِ) الشّريفِ أي عليهِ (عِصَابَةٌ) وهي ما يُعصَبُ بِه الرَّأسُ مِن عِمامةٍ أو
مِنديلٍ أو خِرْقةٍ([269])،
وجاءَ في بعضِ الرّواياتِ أنّها (دَسْمَاءُ) وفي أُخرَى: «دَسِمَةٌ»
بكَسرِ السِّينِ، وكلاهُما في «صحيحِ البُخاريّ»، واختُلِف في معنَى الدُّسومةِ
هنا فقال بعضُهم: لونُها كلَونِ الدَّسَم كالزَّيتِ وشِبههِ، ولعلّ ذلكَ مِن كثرةِ
ادّهانِه ﷺ بالزّيتِ لكثرةِ منافِعِه، وقال غيرُهم: هي سوداءُ اللَّونِ، وهي كذلك
في «صحيحِ مُسلِمٍ»، وقيل: لم تَكُن دسماءَ اللَّونِ بما خالَطها مِن الدَّسَم بل
لأنّ لونَها لونُ الدَّسَمِ أصالةً، كما يقال: ثوبٌ زَيتِيٌّ وجَوزِيٌّ، وقال ابنُ
الأنبارِيِّ: اللَّون الدَّسِم هو الأغبَرُ في سَوادٍ، ذكرهُ في «المَطالِع»([270]).
وقد جاءَ ءاثارٌ تدلُّ
على صِفة عِمامَتِه ﷺ في أوقاتٍ وأماكِنَ مُختلِفةٍ، منها:
– رَوَى مُسلِمٌ وابنُ ماجهْ عن عَمرِو بنِ
حُريثٍ قالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى
المِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمامَةٌ سَوْداءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْها بَيْنَ
كَتِفَيْهِ». وفي روايةٍ عند البيهقيِّ في «شُعَب الإيمان»: «وَعَلَيْهِ
عِمامَةٌ سَوْداءُ حُرْقانِيَّةٌ([271])»
الخ.
وروَى ابنُ ماجهْ وأبو
داودَ والبيهقيُّ في «السُّنَن» عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ
اللهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمامَةٌ قِطْرِيَّةٌ([272])،
فَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ العِمامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ
يَنْقُضِ العِمامَةَ» .
وروَى الطّبرانيُّ في
المُعجمَين «الأوسَط» و«الأكبَر» عن الفضِل بن العبّاسِ رضي الله عنه قالَ: قالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ: «شُدُّوا رَأْسِي لَعَلِّي
أَخْرُجُ إِلَى المَسْجِدِ»، فَشَدَدْتُ رَأَسَهُ بِعِصابَةٍ صَفْراءَ ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ يُهادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ. وفي روايةٍ عند أبي يَعلَى:
«عِصابَةٌ حَمْراءُ أَوْ قالَ: صَفْراءُ».
426- |
وَنَـعْـلُـهُ الـكَـرِيمَةُ الْمَصُـونَـهْ |
|
طُـوْبَى لِمَنْ مَـسَّ بِهَا جَـبِـيـنَـهْ |
(وَ)أمّا
(نَعْلُهُ) ﷺ فهي (الكَرِيمَةُ) المُشرَّفةُ
أي الشّريفةُ المٌشرَّفةُ بمُماسَّتِها جِلدَ النّبِيّ ﷺ، وهي النّعلُ (الْمَصُونَةُ) أي المحفوظةُ عن الخَبَثِ مَعنًى وعنِ الدَّنَسِ
حِسًّا إذْ كانَ ﷺ يَتحفَّظُ عن الدَّوسِ في النَّجاساتِ لأنّه ﷺ أرقَى النّاسِ
طَبعًا وأسمَاهُم أدَبًا، فـ(طُوْبَى) أي الهَناءُ
والقُرّة والخيرُ الطّيِّبُ الكثيرُ (لِمَنْ) قَد (مَسَّ) مِن النّاسِ (بِهَا) أي النّعلِ
الشّريفةِ رأسَهُ و(جَبِينَهْ) وجَبهتَهُ
وقبَّلَها، ولِكُلّ امرِئٍ جَبِينانِ عادةً وهُما حَرفانِ مُكتَنِفَا الجبهة أي
مُحِيطانِ بِها مِن جانِبَيها فيما بينَ الحاجِبَين([273]).
كيفَ لا يكونُ لِمَن
مسَّ النعلَ الكريمةَ ذَلكَ وهي الّتي مسَّها رسولُ الله ﷺ أفضلُ المخلوقينَ
وسيّدُ العالَمِينَ.
ومِن عَجِيب ما ذُكِر
في أمرِ تِمثال نَعلِ النَّبِيّ ﷺ أنّ أبا جعفرٍ أحمد بن عبد المجيد، وكان شيخًا
صالحًا قال: حذَوتُ هذا المثال لبَعض الطَّلَبَةِ، فجاءَنِي يومًا فقال لي: رأيتُ
البارحة من بركة هذا النَّعل([274]) عَجَبًا،
أصاب زَوجِي وَجَعٌ شديدٌ كاد يُهلِكُها، فجَعَلتُ النعلَ على موضِع الوَجَع
وقلتُ: اللهُمَّ أَرِنِي بركةَ صاحِب هذا النَّعل، فشَفاها الله لِلْحِين([275]).
وروي عن أبي القاسم بن
مُحَمَّد شيخ أبي إسحاق قال: وَمِمَّا جُرِّب مِن بركتِه أنّ مَن أَمسَكَهُ([276]) عِندَه
مُتَبَرِّكًا به كان له أمانًا مِن بَغيِ البُغاة وغلَبةِ العُدَاةِ وحِرزًا مِن
كُلِّ شيطانٍ مارِدٍ وعَينِ كُلِّ حاسِد، وإنْ أَمسَكَتهُ المرأةُ الحامل
بِيَمِينها وقد اشتَدَّ عليها الطَّلقُ تَيَسَّرَ أَمرُها بِحَول الله وَقُوَّتِه([277]).
وقد تعَدّى أحدُ مشايخ
الوهّابيةِ المدعُو “أبو بكر الجزائريّ” (ت 1439هـ) على العُلَماء
المادحِينَ لتِمثالِ نَعلِ النَّبيّ ﷺ ووَصَف مَنهَجَهُم في هذا بالضَّلالِ، فقال
في كتابِه المسمَّى «وَجَاؤوا يرَكضُون، مَهلًا يا دُعاةَ الضَّلالَة» ما نصُّه([278]):
“ومِن أَسوَئِها تبرُّكُ هؤلاء القُبُوريِّينَ برَسمٍ تَخَيَّلُوه لنعلِ
النَّبِي ﷺ ثم تَناقَلُوه وقدَّسُوه وبالَغوا في ذلك حتى شارَفوا أن يَعبُدوه وهو
مجرَّدُ خَيالٍ تخيَّلُوه في نَعلِ النَّبِيّ ﷺ”، ثم قال: “إنّ مسألةَ
النَّعلِ هذه لَتُضحِكُ النَّملَ في قُرَاها والنَّحلَ في خَلاياها”، وقال
أيضًا: “إنَّ هذا الغلوّ الفارغَ في شأنِ النَّعل الخياليّةِ لو قُدِّر أن
كُشِف على باطِن صاحِبِه لوُجِد أنه لا يَرعَى لرسولِ الله ﷺ في سُنَّتِه
ومِلَّتِه
وأُمَّتِه كَبِيرَ
حُرمة” اهـ.
فهذا المدعو “أبو
بكر الجّزائريُّ” الذي يدَّعِي أنّ الذي يمدَح تمثال نعل النبيّ ﷺ هو الذي
يُبغِض النبيَّ حَقًّا وإن كان ادَّعَى غير ذلك هو نفسُه القائل في درسٍ له
بالمدينة المنوّرة: “الذبيحةُ التي تُذبَح في مولِد النبيّ أَحرَمُ عندَ
اللهِ مِن الخنزير”، وقال في دَرسِ ءاخَرَ له في المسجِد النّبويّ:
“واللهِ إنّ الإسلام لن يَستقيمَ إلا إذا أخرَجوا هذا الصَّنَم من
المسجِد” وأشار بِيَدِه إلى القَبر الشريف والقُبّة الخضراء.
وقد صنَّف عددٌ كبيرٌ
مِن الفقهاءِ والمحدِّثِينَ أشعارًا في مَدحِ تِمثالِ نَعلِ النّبِيّ ﷺ، نذكُر
مِنهُم الشّهابَ أحمدَ المَقّرِيَّ التِلِمْسانيَّ ومحمدَ بن فرَجٍ السَّبْتِيَّ
وفتحَ اللهِ البَيلونيَّ والفقيهَ أبا الحسَنِ عليَّ بنَ أحمدَ الخزرجِيَّ الفاسِيَّ الشامِيَّ والسيّد النَّسِيبَ نائبَ
مَحكمةِ ابنِ طُولونَ محمدَ بنَ موسَى الجَمّازِيَّ الحُسينيَّ والفقيهَ أبا بكرِ
بنِ مُحْرِزٍ المَغرِبيَّ وأبا الحسَن بنَ سعدِ الخيرِ البَلِنْسِيَّ والشيخَ أبا
محمّد بنَ الآبارِ القُضاعيَّ الأندلُسِيَّ والشيخَ ابنَ خطِيبِ دارَيّا والشيخَ
أبا اليُمْن بنَ عساكرَ والشيخ عبدَ الحقّ بنَ عبد القادر القنَوِيَّ الشافعيَّ
والمحدِّثَ أبا الحسن الرُّعَينِيَّ والشيخ عبدَ المُنعِم البُويطِيَّ الزَّينِيَّ
والشيخ أبا الحَكَم مالكَ بنَ عبد الرحمن المالَقيَّ والشيخَ محمدَ بن إسماعيلَ بن
عُفَيرَ الأمويَّ وابن رُشَيدٍ الفِهريَّ الخطيبَ السَّبْتيَّ والشيخ الفاضلَ
محمدَ بنَ حسّانَ القَيسيَّ والشهابَ أحمدَ الخَفاجيَّ والشيخةَ سَعْدونةَ أمَّ
السعدِ ابنةَ عِصامٍ الحِمْيَرِيَّ والحافظ الفقيه ابنَ هارونَ التُّونسيَّ
الكِنانيَّ، وقد ذكَرَهم المحدِّث أحمد بنُ المَقَّرِي في «فَتح المُتعالِ» والحافظ
ابن عساكرَ([279]) وابن عبد
الملِك المُرّاكشيّ([280]) وصلاح
الدّين الصّفَديّ([281]) وابن القاضي المِكناسي([282]) والشّهاب
الخَفاجي([283]) ومحمد
المُحِبِّ الحَمْوِي([284]) وعبد
القادر المَجلِسي الشّنقيطي ([285]) وغيرُهم.
ومِن جُملةِ تمدُّحِهم
في ذلكَ قولُ الشيخ أبي الحسَن عليّ بن محمد الرُّعيني رحمه الله في مدح نَعل
النبيّ ﷺ وتمثالِ النَّعل الكريمِ: [الطّوِيل]
مِثالُ
نِعَالِ المُصْطَفَى سَيِّدِ الوَرَى |
|
نَبِيِّ
الهُدَى المَبْعُوثِ مِن ءَالِ هَاشِمِ |
حَكَاهُ
لَنَا أَشْـيَاخُنَا عَنْ شُـيُوخِهِمْ |
|
بِإِسْـنَادِهِمْ
عَنْ عَالِـمٍ بَعْدَ عَالِـمِ |
تَـلَـقَّـتْـهُ
مِنّـا أوجُـهٌ بِخُـدودِهــا |
|
وَأَلْقَتْهُ
أَيْـدِيْنَا مَكَـانَ العَمِـائِـمِ |
وَعُفِّـرَتِ
الوَجَـنَـاتُ فيهِ مَحَـبَّـةً |
|
وأُلْصِــقَ
تَقبِيـلًا لَـهُ بِالمَـبَـاسِـمِ |
إذَا لَـمْ
تُعَايِـنْـهَا فَـهَـذَا مِـثَـالُها |
|
مُثِيرٌ شَـدِيدَ
الشَّـوقِ مِنْ كُلِّ هَائِمِ |
هذا هو مذهبُ أهلِ
السُّنّة والجماعةِ في تعظيمِ النّبِيّ محمّد ﷺ والتّبرُّك بآثارِه، وهو المذهبُ
الحَقُّ، أمّا مذهبُ الوهّابيّةِ والجُفاةِ نُفاةِ التّوسُّلِ بالنّبيّ ومانعِيِ
التّبرُّكِ بآثارِه بعدَ مَماتِه فمذهبٌ ساقِطٌ مرذولٌ لا الْتِفاتَ إليهِ،
ومآلُهم تكفيرُ جميعِ الأُمّة وعلمائِها.
وقد جرَى المسلِمُونَ
سلَفًا وخلَفًا على التبرُّك بآثار رسول الله ﷺ، حتى إنّ البخاريّ قد بَوَّب في «صحِيحه»
لذلك فقال: «بابُ ما ذُكِر مِن دَرع النَّبِيّ ﷺ وعصاه وسَيفِه وقدَحِه وخاتَمِه،
وما استَعمَل الخلفاءُ بعدَه مِن ذلك مِمّا لَم يُذكَر قِسمَتُه ومِن شعَرِه ونَعلِه
وءانِيَته مِمّا يَتَبَرَّك أصحابُه وغيرُهم بعدَ وفاته».
ثُمّ مِن الآثار التي
تَدُلّ على تبرُّك الصحابة بنَعل النبيّ ﷺ ما ذكره الشيخ عبد الوهّاب الشّعرانيُّ
في ترجمة عبد الله بنِ مَسعودٍ رضي الله عنه قال([286]): “وكان
رضيَ الله عنه مِن أجوَدِ النّاس ثَوبًا ومِن أطيبِ النّاس رِيحًا تعظيمًا لِنَعل
رَسول الله ﷺ إذا حَمَلَه” اهـ.
وقَد ألبَسَ ﷺ أبا
هُريرةَ نعلَه الشّريفةَ لُيصيبَه مِن البَركةِ الّتي طُرِحَتْ بِها مِن
مُماسَّتِها جِلدَ النَّبِيّ ﷺ وليُبيِّن للنّاس ما أرسلَهُ بهِ رسولُ اللهِ ﷺ.
روَى البُخاريّ في «صحيحِه» أنّ أبا هُريرةَ رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى
رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: «أبو هُرَيرَةَ»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ
اللهِ، قالَ: «ما شَأْنُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتَ بَينَ أظْهُرِنا فَقُمْتَ
فَأبْطَأْتَ عَلَيْنا فَخَشِينا أنْ تُقْتَطَعَ دُونَنا فَفَزِعْنا فَكُنْتُ
أوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأتَيْتُ هَذا الحائِطَ فاحْتَفَزْتُ كَما يَحْتَفِزُ
الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلاءِ النّاسُ وَرائِي، فَقالَ: «يا أبا هُرَيْرَةَ»
وَأعْطانِي نَعلَيهِ قالَ: «اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ
وَراءِ هَذا الحائِطَ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِها
قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ».
ثُمّ تابعَ النّاظِمُ
رحمَهُ الله الكلامَ على وَصفِ نَعلِ النّبيّ ﷺ فقال:
427- |
لَـهَا قِـبَـالَانِ بِسَــيْـرٍ وَهُـمَا |
|
سِـبْتِيَّتَانِ سَـبَـتُـوْا شَـعْـرَهُـمَا |
428- |
وَطُـولُـهَا شِــبْـرٌ وَإِصْـبَـعَـانِ |
|
وَعَـرْضُـهَا مِـمَّا يَـلِـيْ الكَعْبَانِ |
429- |
سَـبْـعُ أَصَـابِـعَ وَبَـطْـنُ القَـدَمِ |
|
خَـمْـسٌ وَفَوْقَ ذَا فَسِـتٌّ فَاعْلَمِ |
430- |
وَرَأْسُـهَـا مُـحَـدَّدٌ وَعَـرْضُ مَـا |
|
بَيْنَ القِبَالَيْنِ اصْبَعَانِ اضْبِطْهُمَا |
431- |
وَهَـذِهِ تِـمْـثَـالُ تِـلْـكَ النَّـعْـلِ |
|
وَدَوْرُهَا أَكْـرِمْ بِـهَـا مِـنْ نَـعْـلِ |
وكانتْ نعلُه الشّريفةُ
ﷺ (لَهَا قِبَالَانِ) أي لِكُلِّ نعلٍ زِمامانِ أي كُلُّ واحِدٍة
مِنهُما (بِسَيْرٍ) وهو ما يكونُ بينَ إصبعَينِ مِن
أصابِعِ الرّجلِ، فزِمامٌ بينَ الإصبِع الوُسطَى والّتي تَلِيها وزِمامٌ بينَ
الإبهامِ والّتي تلِيها([287]) (وَهُمَا) أي القِبالان (سِبْتِيَّتَانِ) بكَسرِ
السِّينِ وإسكانِ الباءِ أي سَوداوانِ مُتَّخذَتانِ مِن جُلودِ البقَر المدبوغةِ
بالقرَظِ([288])،
وسُمِّيَتا بذلك لأنّ الدّابغِينَ لها (سَبَتُوْا) أي أزالُوا
عنهُما (شَعْرَهُمَا) أو لأنّها انسَبَتَتْ بالدِّباغ
أي لانَتْ([289]).
(وَ)كانَ
(طُولُهَا) أي نَعلِه ﷺ (شِبْرٌ) باليَدِ
المُعتدِلةِ، وهو ما بين طَرف الإبهامِ وطرفِ الخِنصرِ ممتَدّين، (وَإِصْبَعَانِ) بأصابعِها (وَ)كانَ (عَرْضُهَا) أي نَعلِه ﷺ (مِمَّا) أي مِن الوَجهِ
الّذي (يَلِيْ) أي يُواجِهُ (الكَعْبَانِ)
بدَلَ “الكَعبَينِ”- على لُغةِ بلْحارِث بنِ كَعبٍ فِي إجراءِ المُثنَّى
بالألِف دائمًا – (سَبْعُ أَصَابِعَ) مستويةٍ (وَ)أمّا (بَطْنُ) أي باطِنُ (القَدَمِ) فطُولُها (خَمْسٌ) مِن الأصابِع (وَفَوْقَ ذَا) أي بَطنِ القدَمِ (فَـ)ـالطُّولُ
(سِتٌّ) مِن الأصابِع (فَاعْلَمِ) هذه الحُدودَ.
(وَ)كانَ
(رَأْسُهَا) أي النَّعلِ (مُحَدَّدٌ) أي ذُو حَدٍّ أي
شِبهُ اللِّسانِ (وَ)أمّا (عَرْضُ مَا) يَفصِلُ (بَيْنَ القِبَالَيْنِ) مِن مَسافةٍ فـ(اصْبَعَانِ)
ملتصِقتانِ، والإصبعُ يذكَّرُ ويؤنَّث، فـ(اضْبِطْهُمَا) حشوٌ كَمَّل
له الوَزنَ.
رَوَى ابنُ أبي شيبةَ
في «المُصنَّف» عن يزيدَ بنِ أبي زِيادٍ قالَ: «رَأَيْتُ نَعْلَ النَّبِيِّ ﷺ
فِي
المَدِينَةِ
مُخَصَّرَةً([290])
مُلَسَّنَةً([291])
لَهُ عَقِبٌ خَارِجٌ»، وعند ابن الأعرابيّ:
«مُعَقَبَّةً([292])
مُخَصَّرَةً»
إلخ.
(وَهَذِهِ)
إشارةٌ إلى نَقْشِ نَعلِ النّبِيّ ﷺ الّتي كانتْ في نُسخةِ النّاظمِ أو إلى
الأوصافِ والحدودِ المارّةِ فإنّها أي النَّقشُ (تِمْثَالُ)
أي تمثيلٌ لـ(تِلْكَ النَّعْلِ) الشّريفةِ الّتي سبَقَ
وصفُها على الأوّلِ أو صِفةُ تِمثالِ تِلكَ النَّعلِ على الثّاني (وَدَوْرُهَا) أي تحديدُ دَورِها بمعنَى مُحِيطِها ودائرتِها
المنقوشةِ على الأوّل أو ذِكرِ حُدودِها طولًا وعرضًا ونحوَهُما، فـ(أَكْرِمْ بِهَا) أي
ما أكرمَها أي أكثَرَ بكرتَها (مِنْ نَعْلٍ) مَسَّتْ جِلدَ رسولِ الله ﷺ.
وقَد رأيتُ جَماعةً مِن أهلِ السِّيَرِ تَبِعوا النّاظمَ العراقيَّ في نَقلِ
هذه الحُدودِ في النَّعلِ الشّريفةِ ولَم أرَ مَن أحالَ ذلكَ إلى غيرِه أو أسنَدَ
ذلكَ، لكنْ جاءَ في أثرٍ عند الدَّولابيُّ عن الحُسينِ بن عليّ عن موسَى بن أبي
نُباتةَ قالَ: «رَأَيْتُ نَعْلَ النَّبِيِّ ﷺ طُولُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ
أُصْبَعًا، وَصَدْرُهَا سَبْعَةُ أَصَابِعَ، وَأُذُنُهَا خَمْسُ أَصَابِعَ
وَعُفْيَهَا أُصْبُعٌ وَكَانَ لَهَا زِمَامَانِ وَعَرْضُهَا خَمْسُ أَصَابِعٍ»، وَضَمَّ حُسَينٌ أربَعًا مِن أَصَابِعِهِ الْيُسْرَى
مَعَها السَّبّابةُ. ولَمّا كانَ الشِّبرُ مقدَّرًا باثْنَيْ عشرَ إصبعًا كان طولُ
النّعلِ على هذه الرّوايةِ شِبرًا وإصبعًا، وفرقٌ بينَ ما ههنا وبينَ ما ذكرَهَ
العِراقيُّ فليُحَرَّر.
فائدة: قال أحمدُ بن محمّد المَقَّرِيّ في «فَتح المُتعالِ»([293]): كانَ المُصطفَى ﷺ يَلبَسُ النّعلَ ورُبَّما مشَى
حافيًا لا سيّما إلى العِباداتِ تواضُعًا منه ﷺ وطَلَبًا لمزيدِ الأجرِ”. وقد
سبَقَ
قولُ النّاظم: “يَمْشِي بِلَا نَعْلٍ وَلَا خُفٍّ” إلخ.
([9]) أي الله تعالى أعطاني ما أحمِلُكم عليه، ولولا ذلك لم
يَكُن عندِي ما أحمِلُكم، واللهُ تعالَى مُنزَّهٌ عنِ المُباشرةِ والمُماسَّةِ في أفعالِه،
فالمُماسّةُ والمباشرةُ مِن صفاتِ الخلوقِينَ.
([16])
هو اللَّحمُ المُمَلَّحُ المُجفَّفُ بالشَّمسِ. وليسَ مُرادُه بذلكَ
الحَطَّ مِن شأنِ والدِتَهِ السيّدةِ الصّالحةِ ءامنةَ رضي الله عنها، حاشاه،
إنّما يعني بذلك أنّه متواضِعٌ ابنُ مُتواضِعةٍ، وقد سبقَ الكلامُ على شأْنِ
السيّدةِ ءامنةَ رضي الله عنها أوَّل الكتابِ وأنّها كانتْ مُؤمِنةً تَقِيّةً
صالحةً ولِيّةً عارفةً باللهِ تَعالَى.
([17]) أي زِيادةً على ما أنتَ فيه مِن التّواضُع، وقد
بلَغَ ﷺ الغاية في تَواضُعِه، وهو الّذي قال: «مَنْ =
= تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ»، فهو ﷺ حبيبُ رَبِّ العالَمِينَ وسيّدُ
المُتواضِعينَ.
([26]) وقَد يَسَّرَ لَنا الله الوَهّابُ أنْ عَمِلْنا تحقيقًا
لمَتنِ الأدبِ المُفرَد مع حواشيَ نافعةٍ وشرَحناه في خمسِ مجلَّداتٍ، فليُنظَرَا.
([29]) وفي ذلك إشارةٌ إلى تأكيد معنَى البَيعةِ ولتنالَ
النّساءُ البركةَ مِن أثرِ يَدِه ﷺ التي وضَعَها في الماءِ مِن غيرِ مَسٍّ للنّساءِ.
([44]) قال العسقلانيُّ في «الفتح» (10/490): “والمقصودُ مِن الأخْذِ باليَدِ لازِمُه وهو الرِّفْقُ
والانقِيادُ“.
([45]) وقد أكرمني الله عزّ وجلّ بأن أهدِيَت إليَّ قِطَعٌ مِن
نَعلِ سيّد الخلق محمَّد ﷺ عن طريقِ بعضِ أهل البيتِ الأشرافِ وقد عرضتُها على
شيخنا وأستاذنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن عبد الله الهرري الحبشي رضي الله عنه
فأخذها باحترام وقبَّلَها ووضعَها على عينَيه وصدرِه.
([63]) أي قَدرَ الكِفاية وليسَ هو الشِّبَع المَذمُومَ الّذي
يَفعَلُه العامّة وهو الأكلُ إلى حَدِّ الامتِلاءِ فقد جاء في الحديثِ الصّحيحِ: «بِحَسْبِ
ابْنِ ءَادَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ
طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ نَفَسٌ»، وقد كان
النَّبِيُّ ﷺ يأكلُ سَبْعَ أو تِسعَ لُقَيماتٍ بأصابِعه الثّلاثةِ
الإبهامِ والسَّبَّابةِ والوُسطَى تقليلًا لكمِّيّةِ اللُّقمة ويأكلُ بنِيّةٍ
حسَنةٍ ما وَجَدَه مِن الحَلالِ.
([66]) أي أنتَ مِلكٌ للهِ وحدَهُ ولستَ عبدًا مملوكًا لي
لأنّني أعتقتُكَ، والله ربُّك لا خالِقَ لكَ سِواهُ.
([67]) وهو قَرْنُ المَنازِل مِيقاتُ نَجْدٍ تِلقاءَ مَكّةَ على
يومٍ وليلةٍ منها، وأصلُهُ الجبَلُ الصغيرُ المستطيلُ المنقَطِعُ عن الجبَلِ
الكبيرِ. يُنظر: مسالِك
الأبصار في مَمالك الأمصار، شهاب الدّين العُمري، (2/340).
([68]) سَمْعُ اللهِ أزليّ أبديّ يَسمَع به سائرَ المسمُوعات،
وسَمعُهُ لا يتغيّر ولا يَحْدُثُ له سَمعٌ شيئًا بعدَ شىءٍ ولا هو بِأُذُنٍ ولا
صِماخٍ ولا خَرْقٍ ولا عَظْمٍ ولا جارحةٍ ولا ءالةٍ، وكذا كُلُّ صِفَتِه تعالى هي
صفاتٌ =
= أزليّةٌ أبديّةٌ ليست بأعضاءٍ ولا جوارِحَ ولا تُشبِهُ
صِفاتِ المخلُوقِينَ ولا بوَجهٍ مِن الوُجوه.
([70]) قال الحافظُ العَسقلانيُّ: “هُما جَبَلا
مَكَّةَ أَبُو قُبَيسٍ والَّذِي يُقابِلُهُ وَكَأَنَّهُ قُعَيقِعانُ وَقالَ
الصَّغانِيُّ: بَل هُوَ الجَبَلُ الأَحمَرُ الَّذِي يُشرِفُ عَلَى
قُعَيقِعانَ وَوَهِمَ مَن قالَ هُوَ ثَورٌ كالكَرمانِيِّ، وَسُمِّيا بِذَلِكَ
لِصَلابَتِهِما وَغِلَظِ حِجارَتِهِما والمُرادُ بِإِطباقِهِما أَن يَلتَقِيا
عَلَى مَن بِمَكَّةَ” ا.هـ. أي مِن
الكُفّار لإهلاكِهِم.
([78])
قال الكَرامانيُّ «الكواكِب الدَّراري» (12/144): “وكان قد أخذَ
بلِجام بَغْلَتِه ليَكُفَّها عن إسراعِ التّقدُّم إلى العَدُوّ لا لاعتِقادِه أنّ
رَسولَ الله ﷺ يَنْهَزِمُ، حاشاهُ مِن ذلكَ”.
([79])
قال القَسطلّانيُّ «إرشاد السّاري» (5/77): “أي أنا النَّبِيُّ
والنَّبِيُّ لا يَكذِبُ فلَستُ بكاذِبٍ فيما أقولُ حتّى أنهَزِمَ، وأنا مُتيَقِّنٌ
أنَّ الّذِي وَعَدَنِي اللهُ بِه مِنَ النَّصْر حَقٌّ”.
([80])
قال ابن الدَّمامِينيُّ «مصابيح الجامع» (6/265): كان بَعضُهم لا يَقِفُ
على قوله: «لَا كَذِبْ» بالسُّكون بل بفَتحةٍ ليَخرُجَ عن وَزْنِ الشِّعر،
وهذا تَغييرٌ للرِّوايةِ الثّابتةِ بمُجرَّد خيالٍ يَقُومُ في النَّفْسِ، وقد
قَدَّمْنا ما يَدفَعُ كونَ هذا شِعرًا فلا حاجةَ إلى إخراجِ الكلامِ عمّا هو عليه
في الرِّواية”.
([86])
وقد عَهِدنا ذلك مِن شيخِنا الإمامِ المُرَبِّي الفاضِلِ والوليِّ الصّالِحِ
عبدِ الله الهرريّ رحِمَه الله، فإنّه كانَ يتعجَّب مِمّا يتعجَّبُ مِنهُ جلِيسُهُ
الّذي يُكَلِّمُهُ فيقول الشيخُ عِند سَماعِهِ حديثَ ضَيفِهِ: “هكذا؟ هاه؟!”وذلكَ
مِن بابِ المؤانسةِ والمُلاطفةِ وتطييبِ خاطِرِ جَليسِهِ اقتداءً بالأخلاقِ النّبوِيّةِ
الشّريفةِ.
([87])
قال الحافظ النوويُّ «شرح صحيح مُسلِم» (16/177): “رُوِيَ طَلْق على
ثلاثةِ أوجُهٍ: إسكانُ اللَّامِ وكَسرُها وطلِيقٌ بزِيادةِ ياءٍ، ومعناهُ سَهلٌ
مُنْبَسِطٌ”.
([88])
أي إذا عرَض صاحِبُ حاجةٍ حاجتَه علَيَّ اشفَعُوا له إليَّ، فإنّكُم إنْ
شَفَعْتُم له حصَلَ لكُم بتِلكَ الشَّفاعةِ أجْرٌ.
([97])
أي فيما يَبدُو للنّاس، لأنّ مَن لم يَحضُرْ مِن النّاسِ الحادثةَ لم
يَعلَم حقيقةَ ما جَرَى فظَنَّه مِن أصحابِه، فلَو أمَرَ بِقَتْلِه لأدَّى ذلك
إلى قولِ المُنافقِينَ والمُشركِينَ:
“مُحمَّدٌ يَقتُلُ أصحابَه”.
([98]) أي تَركًا لقتلِهِم حالًا للعِلّة
المذكورةِ أعلاهُ لا أنّهُ رضيَ بفِعلهِم أو سكَتَ عنِ الإنكارِ علَيهِم.
([104]) أي يصيرَ إليه، والجَدْرُ هو ما يُوضَعُ بينَ شَرَباتِ
النَّخلِ كالجِدارِ، وقيل: الحواجِزُ الّتي تَحبِسُ الماءَ.
([105]) أي لِصِغَر سِنِّه وعَدَمِ الخُبرةِ الواسعةِ لم يَكُن
يأتي بالمأمورِ بهِ على الوَجهِ الأتمّ كما يُطلَبُ منه.
([108])
أي رضي أن يُمَجَّد بها ويُعَظَّم بها ذاتُهُ المُقَدَّس. وإذا قيل: قال
الله عن نَفْسهِ أي عن ذاته، فليس هو عزَّ وجلَّ بمعنَى الرُّوح لأنّه تعالى لا
يُشبِهُ شَيئًا مِن مخلوقاتِهِ.
([114]) ليسَ ذلكَ للشكّ ولا لتجويزِ حصولِ الخطإ من
النَّبِيّ ﷺ في أمورِ الدِّين بل أرادَ عمرٌو أنْ يَزدادَ تثبُّتًا مِن النَّبِيّ
ﷺ فيما يَعتَقِدُه مِن عِصمةِ النَّبِيّ ﷺ عن الخطإِ في الدِّين.
([115]) أَيْ أَحْلِفُ بِاللهِ الَّذِي نَفْسِي تَحْتَ
مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَاللهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الجَارِحَةِ وَالعُضْوِ.
([126]) أي احرِصُوا على إصابة الحقّ ومتابَعةِ الرَّسول فاعمَلُوا أعمالَكُم
مسدَّدةً لا غلوَّ فيها ولا تقصيرَ.
([127]) اطلبوا القُربَ بطاعةِ الله، وهو قُربٌ معنويٌّ، فالله موجودٌ
بلا مَكانٍ، ولا مَسافةَ بينَه وبينَ خَلْقِه.
([133]) لِمَن يلي أمرَكم من الأمَراء ما لم يأمُروا بمعصيةٍ
عادلًا كان أو جائِرًا، وإلا فلا سَمْع ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، لكن
لا يجوزُ الخُروجُ على الخليفةِ ومحاربَتُه وإن كانَ جائِرًا ما لَم يُرَ مِنهُ
كُفرٌ بَواحٌ أي ظاهِرٌ.
([134]) أي وإنْ تأمَّر علَيكمُ عَبدٌ مِن الحبشَة لأنّ العبدَ
العرَبي والرُّومي ثمَنُه عند الناس أغلَى مِن الحبشيّ.
([135]) المُبالغةُ في التّمسُّك بهذه الوَصِيّةِ بجَمِيع ما
يُمكِنُ مِن الأسبابِ المُعِينةِ علَيه، كالّذي يَتمسَّك بالشىءِ ثُمّ يستعِينُ
عليه بأسنانِه، استظهارًا للمُحافظة، وعلى هذا التأويلِ فالنَّواجِذُ هي الأنيابُ،
ويجوزُ أن يكون معناه المحافظةَ على هذه الوصِيّة بالصَّبْر على مُقاساةِ
الشّدائدِ.
([139]) وأمّا تُكثِرنَ اللَّعنَ بغير حَقٍّ بأنْ تَلعن ولدَها
أو زَوجَها أو مَن لا يَحِلُّ لها لَعنُه وهو مِن الكبائر.
([140]) أي حالُ أكثرِكُنَّ أنّكُنّ تَجْحَدْنَ إنعامَ الخَلِيطِ
علَيكُم وهو الزَّوجُ أو أعَمُّ مِن ذَلِك.
([143]) أي إذا أرَادَ بعضُهُنَّ شيئًا غالَبْن بعضَ الرِّجالِ
علَيهِ حَتَّى يَفعَلُوه سواءٌ كان صَوابًا أو خطَأً.
([146]) هو المِرءاةُ تُوضَعُ في الشَّمْس فيُرَى ضَوؤُها على
الجِدار، معناهُ وَجهُه الشّريفُ مُنيرٌ وَضّاء.
([150]) يَقصِد زَوجتَه أُمَّ حَكِيمٍ بِنتَ الحارِث بنِ هِشامٍ
كما بَيَّنَتْ ذلك الرِّواياتُ الأُخرَى.
([152]) مُرادُه أنْ يُكرِّر النُّطقَ بالشّهادتَينِ بَعد أنْ
تَشَهَّدَ قَبلُ ودَخلَ في الإسلامِ، فإنَّ الشَّهادتَينِ أفضَلُ الكَلامِ ولِمَا
ورَدَ في الحَدِيثِ: «لا إله اإلَّا اللهُ أحسَنُ الحَسَناتِ»، وحديث: «لا تُبْقِي
ذَنْبًا وَلَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ».
([155]) أي لا يَرفَع الصّوتَ بهيئةٍ تُخِلُّ بمروءَتِه ولا
يُخاصِمُ غيرَه إحقاقًا للباطِل وإبطالًا للحقّ.
([185]) قال
الزّبِيديُّ «تاج العروس» (15/136):
“الخِربِز
بِالكَسرِ أهمَلَهُ الجَوهَرِيّ، وَنقل الصَّاغانِيّ عَن الكِسائيّ هُوَ
البِطِّيخُ، وَقَالَ: عربيٌّ صَحِيح، أَو أصلُه فارسِيٌّ، قَالَه أَبُو حنيفَة“.
([196]) قال النوويُّ في «الأذكار»: “وذهب
الخطّابِيُّ إلى أنّ المرادَ بهذا الدعاءِ كُلِّه البارئُ سبحانهُ وتعالى وأنَّ
الضمير يعود إليه وأن معنى قوله: «غَيْرَ
مَكْفِيٍّ» أنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ (أي لا يَطلُب مِن خَلْقِه أن يُطعِم بعضُهم بعضًا لعَجْزٍ أو لاحتِياجٍ منه
إليهم، فهو قادِرٌ على إيصال الرِّزْق إليهم مِن غير استعانةٍ، ولا يكونُونَ سببًا
في فِعله سُبحانَه) كأنّهُ على هذا مِن الكفاية وإلى هذا ذَهَب غيره في
تفسير هذا الحديثِ أي أنّ الله تعالى مُسْتَغْنٍ عن مُعِينٍ وظَهِيرٍ. وقولُه: «لَا مُوَدَّعٍ» أي غيرُ مَترُوكٍ الطَّلَبُ منهُ والرغبةُ إليه، وهو بمعنَى المُستغنَى عنه. ويَنتصِبُ «رَبَّنَا» على هذا
بالاختصاصِ أو المَدحِ أو بالنِّداء كأنه قال: يا ربَّنا اسمَعْ (أي
استَجِبْ، واللهُ لا يَغِيبُ عن سَمْعِه شىءٌ) حَمْدَنا ودُعاءَنا، ومَن رفَعهُ قَطَعهُ وجَعَلهُ خبَرًا، وكذا قَيَّدَهُ
الأَصِيلِيُّ، كأنّه قال: ذلك رَبُّنا، أو “أَنتَ رَبُّنا” ويَصِحُّ فيه الكسرُ على البدَلِ مِن الاسم مِن قوله: الحَمدُ للهِ“.
([210]) معناه يَستاكُ، وأصلُه مأخوذٌ مِن السَّنِّ وهو إمرارُكَ
الشّىءَ الّذي فيه حُزونةٌ على شىءٍ ءاخَرَ =
= ومِنهُ المِسَنُّ الّذي يُشحَذُ بِه الحَدِيدُ ونَحوُه،
تُرِيدُ أنّه كان يَدلُكُ أسنانَه، قاله الخّطابيُّ في «مَعالِم
السُّنَن» (1/30).
([222])
أي القِرْبة، وِعاءٌ رقِيقٌ يَترشَّحُ مِنها الماءُ ويَنفُذُ فيها الهواءُ
فلا يَسرُعُ تغيُّرُ النَّبِيذِ الحُلوِ الطّاهِر فيها.
([234])
قال المُظهِريُّ في «المَفاتِيح» (5/26): “يَحتمِلُ أن يكونَ مَعناهُ كان جالِسًا على هَيئةِ
الاحتِباءِ وأَلقَى شَمْلتَه خَلْفَ رُكبَتَيهِ وأخَذَ بِكُلِّ يَدٍ طرَفًا مِن
تلكَ الشَّمْلةِ ليكونَ كالمُتمَكِّنِ على شىءٍ، وهكَذا عادةُ العرَبِ إذا لم
يَتّكِؤُوا على شىءٍ أخَذُوا رُكبَهُم بأيَدِيهم وأَلْقَوا حَبْلًا أو شَمْلةً أو
مِنْطَقةً خَلْفَ رُكَبِهِم ويَشُدُّونَه خَلْفَ ظَهرِهم”.
([238]) تمسَّك الحنفيّةُ بهذا الحديثِ للاستِدلالِ على
القولِ بنَدبِ التّنشيفِ مِن الوُضوءِ، وضعَّف بعضُهم هذا الحديثَ، وقال الحافظُ
النّوويُّ «شرح صحيح مُسلِم» (3/231): “اختَلَف عُلماءُ أصحابِنا في تَنشِيفِ
الأعضاءِ في الوُضوءِ والغُسلِ على خمسةِ أوجُهٍ أشهَرُها أنَّ المُستحَبَّ تَركُه
ولا يُقال فِعلُه مَكروهٌ”.
([243]) ثوبُ خَزٍّ أو صُوفٍ مُعلَّمٌ، وقيل: كِساءٌ
رَقِيقٌ مِن صُوفٍ مُعلَّمٍ وغيرِ مُعلَّمٍ يُلتحَفُ بِه.
([253])
أي خالَفَ بينَ طرفَيهِ على عاتِقَيهِ بأنْ ألقى ما في اليَمِين على
العاتِق الأيسَرِ وبالعَكسِ.
([259]) ولعلَّ قَيسًا رءاهُ في غيرِ حالِ وُقوفِه حيثُ
تَتثنَّى العُكَن أي طَيُّاتُ البَدَنِ مِن الرّجُلِ المعتَدِل أيضًا، فهو ﷺ كما
اتَّفَق أهلُ السِّيَرِ والمحدِّثونَ معتدِلُ البَدنِ غيرُ سَمِينٍ، وقد مَرَّ
وصفُه ﷺ مِن قبلُ في هذا الكتابِ ما جاء فيه أنّه كان «بادِنًا مُتماسِكًا»
أي ثابتَ البَدِن لا أنّه بدِينٌ بمعنَى السَّمِينِ، فهو ﷺ مُعتدِلُ أخلاطِ
البَدَنِ، متزهِّدٌ في الأكلِ والشُّرب لا يتجاوزُ اللُّقَيماتِ، يَترَّيضُ بما
يَكفِي لحِفِظِ البدَنِ، فمِن أينَ يكونُ فيه سِمَنٌ بعد هذَا؟! وهذا الّذي
يستقيمُ معَ قولِهم: “أجمَلُ خَلْقِ اللهِ”.
([267])
أي الجهلُ بالحقّ وإبطالُه، والسَّفَه ضِدّ الحِلم، وأَصلُه الخِفّة
والسّخافة، والسَّفِيهُ الجاهلُ الخَفِيف العقلِ.
([271]) بحاءٍ مَضمومةٍ فراءٍ ساكنةٍ، وما وقَعَ في بعضِ
نُسَخ «شُعَب الإيمان»: «مُرْقانِيَّةٌ» فهو تصحيفٌ.
([272])
بكسرِ القاف وسُكونِ الطّاءِ، نوعٌ مِن البُرودِ فيه حُمْرةٌ ولها أعلامٌ
فيها بعضُ الخُشونةِ، وقيل: هي حُلَلٌ تُحمَلُ مِن قِبَلِ البَحرَين، قاله في
«سُبل الهُدَى» (5/161).