درس ألقاه المحدث الأصولِيُّ الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى يومَ الأحد فِي الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق للثامن والعشرين من شهر كانون الثاني سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي ضاحية لندن فِي بريطانية. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام عليهم أجمعين.
أمَّا بعدُ: فقد روينا فِي «صحيح البخاريّ» رحمه الله تعالى مرفوعًا عن النبيّ r أنه قال: «إنَّ الدّينَ يُسْرٌ ولن يُشَادَّ الدّينَ أحدٌ إلَّا غَلَبَهُ وعليكم بالقَصْد فَسَدّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَة وَالرَّوْحَة وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة»([1])اهـ.
إن الدّين يسرٌ، معناه: إنَّ هذا الدّين، أي: شرع محمد r يُسْرٌ، أيْ: سهلٌ وهذا يعرفه مَن عرفَ ما كان على الأمم الماضين مِن التشديد.
كُلُّ شرائع الأنبياء نُسِخَتْ بشريعة محمد r، قال الإمام الشافعي رحمه الله كل شريعة كانت تنسخ الشريعة التِي قبلها ونسختْ شريعةُ محمد r سائرَ الشرائع.اهـ.
فإنْ قيل: إنه كان فِي بعض الشرائع صلاتان فقط فِي اليوم والليلة وهذه الشريعةُ المحمديةُ فيها خمس صلوات فما وَجْهُ كَوْن هذه الشريعة يُسْرًا؛ فالجواب: أنه كان فِي شرائع بَنِي إسرائيل أنَّ الإنسان لا يجوز له أن يُصلِّي الصلاة حيثما شاء إلا فِي المكان المخصوص للصلاة، فلو كان فِي مكان بعيد ثم حانَ وقتُ الصلاة ذهب إلى المكان البعيد المخصص للصلاة ليؤديَ الصلاة فيه حتى تصحَّ صلاتُه أما فِي هذه الشريعة المحمدية فيصح أن تُصلَّى الصلاةُ فِي السوق وفي الشارع وإن كانت الصلاة فِي قارعة الطريق مكروهةً لكنها تصحُّ. كذلك يصحُّ للواحد من أمّة محمد r أن يُصَلّيَ الصلاةَ فِي دكانه ويصحُّ أن يُصَلّيَ أيضًا فِي بيته ويصح أن يُصَلّيَ فِي البرية ويصح أن يُصَلّيَ فِي الغابة وهذا يَدُلُّ على اليُسْر الذي فِي شريعة محمد r بالنسبة للصلاة بحيث لا يُقال: إنَّ فرض صلاتين على بعض الأمم السابقة هو أيسرُ من الشريعة المحمدية التي فيها فرضُ خمس صلواتٍ فِي اليوم والليلة.
ثم إنَّ مِنْ يُسْر هذه الشريعة أنَّ الصلاةَ يجوزُ أن يصليَها الإنسانُ لو فقدَ الماءَ أو وجدَ الماءَ لكن كان الماءُ يضرُّه لشدة بردٍ يُخْشَى منه الضَّرَرُ إذا توضأ الشخص منه. وهناك أمثلة أخرى.
الحاصلُ: أنَّ هذه الشريعة نحكم بأنها أيسر من غيرها من الشرائع المتقدمة.
ومِن الأمر الذي هو مِن أَشَقّ الشَّاقّ وكان فِي شرع بَنِي إسرائيل أن الشخص إذا أصاب ثَوْبَهُ بول لا يُصَلّي فِي هذا الثوب إلا أن يَقطع بالمقراض ذلك الموضعَ الذي أصابه البولُ منه. كان فرضًا عليهم أن يُصلِّيَ أحدُهم فِي ثوبٍ غير ذلك الثوب الذي أصابه البول أو يقطعَ موضعَ البول من ذلك الثوب وأما فِي الشرع المحمديّ فيكفِي غسلُهُ بالماء، إن غسله فذهبت أوصافُ البول بمرة واحدة طهُر وإن زالت أوصافه من غسلتين طَهُرَ وإن زالت بثلاثٍ طهر.
ثم إن الشرع سَهَّلَ الأمر على الأخرس مثلًا الأخرسُ إذا أراد أن يدخل فِي الإسلام وكان على دين من الأديان الكفرية يدخل فِي الإسلام بالنية بالتصديق بقلبه بمعنى الشهادتين من غير نطق بها. هذا إذا كان أخرسَ خلْقِيًّا ليس خَرَسُهُ طارئًا بعد أن تعلم الكلام أمَّا إن كان خرسه طارئًا فإنه يحرك شفتيه إن كان يمكنه تحريك الشفتين من دون صوتٍ يُسْمَعُ، يكفيه ذلك ليدخل فِي الإسلام.
ثم الأخرس تصح له العقود البيع والشراء والهبة وغيرُ ذلك بالإشارة حتى النكاح، إذا أراد أن يتزوج بنتًا مثلًا يقول له وَلِيُّ البنت زَوَّجْتُكَ بِنْتِي هذه أو بِنْتي فلانةَ فيقبل الأخرس بالإشارة فتصير حلالًا له، صح نكاحه.
كذلك الطلاق والخُلْعُ يصح من الأخرس فإن أشار الأخرسُ إشارةً مفهومةً بالطلاق طَلَقَتْ امرأته ولا يُمَكَّنُ من العودة إليها إلا إذا كان الطلاق دون الثلاثة فَعمِلَ رَجْعَةً بالإشارة فتصحّ رجعته. وإنما يختلف الأخرس فِي أمرين أولهما الشهادة فإذا كان أراد أن يشهد فِي حقّ من حقوق الناس عند الحاكم لا تُقبلُ شهادته بالإشارة، وكذلك لو أشار وهو فِي الصلاة بما لو كان نُطقًا لأَفْسَدَ الصلاةَ لا تفسدُ صلاتُه بهذه الإشارة. فِي هذين الأمرين تختلف إشارة الأخرس عن النطق. انتَهَى.
والله تعالى أعلم.