درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرريّ رحمه الله تعالى فِي الثالث من شهر جُمادى الأولى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق للثاني والعشرين من شهر نيسان سنة سبع وسبعين وتسعمائة وألف رومية فِي بيروت وهو فِي بيان أن شرط صحة الأعمال وقبولها موافقة الشريعة وذلك إنما يكون بتعلم علم الدين. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أمَّا بعدُ: فإن أحسنَ الـهَدْيِ هَدْيُ محمد وشرَّ الأمور محدثاتُها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وروينا بالإسناد المتصل فِي «صحيح الإمام أبِي عبد الله البخاريّ»، و«صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» رحمهما الله تعالى أنَّ رسول الله قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»([i]).اهـ. أي: أنَّ الله تبارك وتعالى لا يَقْبَلُ عملًا يخالف ما جاء به رسولُ الله ، أي: أنَّ كلَّ عملٍ يعمله العبدُ على خلاف تعاليم رسول الله فهو رَدٌّ، أي: غيرُ مقبولٍ عند الله، أي: ليس فيه ثواب. لذلك قال الإمام الحسن البصرِيُّ عَمَلٌ قليلٌ فِي سُنَّةٍ خيرٌ مِن كثيرٍ فِي بِدْعَةٍ([ii]).اهـ. أي: أنَّ العمل الذِي يوافقُ ما جاءَ به رسولُ الله القليلُ منه خيرٌ لك مِن عملٍ كثيرٍ فِي بدعةٍ، أي: مما يخالف ما جاء به الرسول ، العملُ القليلُ الذِي يوافق ما جاء به الرسولُ، أي: تعاليمَ رسول الله فهو خيرٌ مِن عملٍ كثيرٍ يخالف ما جاء به رسول الله فقد يعمل الإنسان عملًا كثيرًا لكنه مخالف لما جاء به الرسول ، أي: لا يوافق تعاليمَ رسول الله التِي جاء بها فيكونُ ذلك العملُ الكثيرُ صاحبُهُ كأنه لم يعملْ وأما مَن عَمِلَ عملًا يوافق تعاليمَ رسول الله مهما كان قليلًا فهو مقبول. مثال ذلك أن الإنسانَ قد يُصَلّى صلاةً غيرَ مُسْتَوْفِيةِ الشروط وقد يصومُ صيامًا غيرَ مستوفِي الشروط، أي: على خلاف تعاليم الرسول ويكون هذا الإنسانُ يظنُّ أنه عَمِلَ عملًا كبيرًا يظن أنه له أجرٌ كبيرٌ فِي عمله هذا وهو فِي الحقيقة ليس له شيءٌ مِن الثواب فِي هذا العمل الكثير الذِي عمله.
ومثالٌ ءَاخَرُ أن بعض الناس يَحُجُّونَ ثم بعد أن يدخلوا مكة ويقفوا بعرفاتٍ يستعجلون للرجوع إلى بلادهم فيرجعون دون أن يطوفوا طوافَ الفرض، هذا الطوافُ طوافُ الفرض لا يصح الحج بدونه. الذِي لا يعلم أحكامَ الشريعة الذِي لا يعلم ما قالَ رسولُ الله يظنُّ أنه قد حَجَّ حَجًّا صحيحًا؛ لأنّه يظنُّ أن طوافَه الذِي طافَهُ أَولَ ما دخل مكة يكفيه مع الوقوف بعرفة ومع رَمْي الجمار ولا يدرِي أنَّ حجه لا يصح إلا بالطواف الذِي يطوفه الحاجُّ بعد الوقوف بعرفةَ؛ أي: بعد نصف ليلة العيد، مِن جهلِه وعدم معرفتِه بما جاء به الرسول يظن أن حجَّه صَحَّ وهو لم يصحَّ ثم يرجع إلى بلاده ويظن أن حجه تمَّ. أمثالُ هذا ليس لهم حجٌّ بل هؤلاءِ لو رجعوا إلى بلادهم فرضٌ عليهم أن يرجعوا على مكةَ ويطوفوا بالكعبة طوافًا شرعيًّا، وهؤلاء لو ذَبحوا من الذبائح العدد الكثيرَ لا يكفيهم ولا ينزل الإحرامُ عن رقابهم، وإن كانوا متزوجين حرام عليهم أن يجامعوا أزواجهم إلى أن يرجعوا إلى مكةَ ويطوفوا طواف الفرض، حرام على أحدهم أن يجامع زوجته؛ لأن الإحرامَ بعدُ باقٍ على ذِمَّتِه ولا يَخْرُجُ من الإحرام إلا بعد أن يأتِيَ بالطواف فمهما كان بلدُه بعيدًا يجبُ عليه أن يرجعَ إلى مكةَ فيطوفَ طوافَ الفرض.
يوجد رجل ذو ثروة ليس من الفقراء يستطيع أنْ يَحُجَّ عشرَ حجاتٍ، يستطيع أنْ يَحُجَّ كلَّ سنةٍ، ذهبَ مرةً واحدة ثم رجع من غير أن يطوفَ طوافَ الفرض وقد مضى عليه نحو عشر سنوات منذ رجعَ من الحج فنصحَه بعضُ الإخوان قال له عليك أن ترجع فتطوفَ طوافَ الفرض فلم يسمع النصيحة وهو يعيش كما يعيش سائرُ الناس. لا يحِلُّ للحاجّ أن يجامعَ زوجتَه إلا بعدَ أن يطوفَ الفرضَ فهذا الإنسان لم يَتَّق ربَّه فاستعجل بالرجوع إلى بلده أَمَرَتْهُ نَفْسُهُ الأمَّارةُ بالسوء أن يستعجل ويرجع إلى بدله قبل أن يطوف طوافَ الفرض فأطاعَها وهو إنسانٌ متزوجٌ أيضًا. العياذُ بالله هكذا يفعلُ الذِي لا يتعلَّمُ أحكامَ شريعة الله يَتَخَبَّطُ بالحرام والمعاصِي مِن جَهْلِه بأمور الدين، هذا الإنسان كلَّما جامع زوجته يُكْتَبُ عليه ذنبٌ وما دون الجماع مِن التمتُّع فهو عليه حرامٌ ليس الجماعُ فقط بل كلُّ تمتع يتمتّعه بزوجته فإنه حرام عليه، وهذا الصنف كثيرٌ نحن الذين عَرَفْنَاهُ شخصٌ واحدٌ ويكونُ هناك فِي خلق الله تعالى كثيرٌ.
وهكذا كثيرٌ من الناس يُفسدون صلواتهم بعدم تعلمهم أمورَ الدين، بعدم تعلُّمهم كيف تصحُّ الصلاة وكيف يصح الصيامُ وكيف يصح الحجُّ يقعون فِي المحرمات. بعضُ الناس يمرضون فيكون الماءُ يزيدُ مرضَهم فيقولون نَتَيَممُ لنا رخصةٌ بالتيمم ولا يعرفون كيف يصحُّ التيممُ كيف يكون التيممُ الذِي أحلَّ اللهُ الصلاةَ به بَدَلَ الوضوء أو بَدَلَ الغُسل لِمَن كان جُنُبًا لا يدرِي معنى التيمُّم الذِي يُبِيحُ الصلاةَ. يسمع من بعض الجاهلين أن التيممَ يصح بضرب اليد على الكَنَبَايَة أو على هذا السجّاد الذِي لا تَرَ عليه ترابًا فيفعل ويَظُنُّ أنَّ تيممه صحيحٌ فَيُصَلّى وهو بهذه الحال أَشْهُرًا فيكون ضَيَّعَ صلاتَهُ ولم تبرأ ذمتُه عندَ الله ويستحق عذابًا أليمًا يكون كأنه لم يُصَلّ بالمرة؛ لأنَّ التيممَ الذِي أَحَلَّهُ الله تعالى للمريض ولِفَاقِد الماء إنما هو أنْ يضرب الإنسانُ بيده على تراب حَقِيقِيّ طاهِرٍ، وفِي بعض المذاهب يكفِي الحجرُ فلو وضع يده على حجرٍ طاهرٍ ثم مسحَ وجهَه مع نية استباحة الصلاة ثم ضربَ ثم مسح يديه صحَّ تيممه أما هؤلاء فلا تيمموا بالتراب ولا تيمموا بالحجر فصلاتهم فاسدة. إنما يجوز التيمم لو كان على السجادة تراب ظاهرٌ كبعض بلاد الجزيرة العربية، فإن الريح تنقلُ التراب الحقيقيَّ الملموسَ على أثاث المنازل على السجادات والحُصُر وغير ذلك فيكون التراب محسوسًا ظاهِرًا للعِيان مشاهَدًا بالبصر فهناك يجوز التيممُ بالتراب الذِي تَكَوَّمَ على السجادة أو على الكنباية أو على الحُصُر على أيّ شيءٍ إذا كان هذا الترابُ طاهرًا. هذا هو التيمم الذِي رَخَّص الله تعالى الصلاةَ به لو كان جُنُبًا. هذا التيمم هو التيمم الشرعيُّ الصحيح الذِي يبيحُ الصلاةَ وأما هؤلاء الجاهلون فيضربونَ على مثل هذا السجاد الذِي إذا ضَرَبْتَ يدَك عليه ثم رفعتَ يدكَ لا ترى الترابَ على يدك هؤلاء تَيمُّمُهم فاسدٌ وصلاتُهم فاسدة ويستحقون عذاب الله ولا يكونُ جهلُهم بأحكام دين الله عُذْرًا لهم يوم القيامة. الله تبارك وتعالى بعث الأنبياء وجعل ءاخرَهم محمّدًا صلى الله عليهم ثم خَلَفَ العلماءُ النبيَّ فمَن أهمل تعلمَ أمور الدين مَن أهمل تعلم أحكام الصلاة فصلاها على غير وجهها لا عذر له يوم القيامة.
كذلك كثيرٌ مِن الناس يكونون بحالةٍ يستطيعون أن يسجُدوا بوضع جباههم على الأرض لكنهم لمجرد ألمٍ خفيفٍ الواحدُ منهم يجلس على الكرسيّ ويُشيرُ برأسه ولقد رأيتُ رجلًا هنا فِي بيروت شديدًا فِي عمل الدنيا لكنه إذا قام للصلاة يجلسُ على الكرسيّ فينحنِي وهو يستطيع أن يضع جبهته بالأرض. هو هذا الإنسانُ يقوم بعملٍ يدير عمل البناء وهو بنفسه يتجولُ يذهبُ إلى هنا ويذهب إلى هنا ويذهب إلى هنا ويرتب أمور البناء. لأمور دنياه صحيحُ الجسم أما لأمر الصلاة فهو عاجزٌ مريضٌ هذا مِن نتيجة الجهل الوَخِيمَة.
الجهلُ نتائجُهُ وَخِيمَةٌ. وكذلك الذِي يُحَلّلُ ويُحَرّمُ بدون علم كذلك نتيجتُهُ وخيمةٌ الله تبارك وتعالى يسأل الذِي لم يتعلم يسأله يومَ القيامة لِمَ لَمْ يتعلمْ أمورَ الدين ويَسأل الذِي تَعَلَّمَ ثم أَهْمَلَ وَحَرَّفَ وَبَدَّلَ مِن أجل المنافع الدنيوية وَكِلَا الفريقين يستحقُّ عذابَ الله تعالى لذلك دعا رسولُ الله على أُناسٍ كانوا فِي سَفَرٍ، كانَ جماعةٌ فِي سَفَرٍ فِي وقتٍ شديد البَرْد وكان أحدُهم بِرَأْسِه شَجَّةٌ فأصابه احتلامٌ وكانت الليلةُ شديدةَ البرد فسأل هذا الرجلُ أصحابَهُ ولم يكونوا من أهل العلم قالوا له اغتسل فاغتسلَ فماتَ لـمَّا اغتسل وهو مصابٌ بهذه الشجة فِي رأسه وكان الوقتُ وقتَ شِدَّة البرد وبَرْدُ الحِجاز صعبٌ أشدُّ مِن بَرْد هذه البلاد، ماتَ دخلَ الماءُ فِي جُرْحِه فمات فأُخْبِرَ رسولُ الله r بقصته فقال رسول الله r: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ»([iii]).اهـ. دعا عليهم الرسولُ r لأنهم اسْتَحَقُّوا أنْ يَدْعُوَ عليهم لأنهم أَفْتَوْا بغير علم وقال: «إنما كان يكفيه التيمم».اهـ. الصعيدُ الطيبُ وَضوءُ المسلم([iv])، أي: إن الترابَ الطَّهُورَ يقوم مقامَ الوَضوء فهؤلاء الذين أَفْتُوْهُ بالاغتسال وهو فِي هذه الحال هم السببُ فِي هلاك هذا الرجل حيثُ إنهم أَفْتَوْهُ بالاغتسال وقد جَعَلَ اللهُ تعالى له رخصةً بالتيمم، قال الرسول r: «إنما كان يكفيه أنْ يتيمم» كان يكفيه أنْ يَعْصِبَ على شجته شيئًا حالًا ثم يَبُلَّ يده بماء ثم يمسحَ فوق الشجة فوق الحائل الذِي على الشجة ويتيمم أما بالنسبة إلى سائر جسده فإنَّه إنْ سَخَّنَ الماء فغسل جسمه الصحيح الذِي ليس به عِلَّةٌ ما كان يُهْلِكُهُ هذا الاغتسالُ الذِي اغتسلَهُ بالماء الساخن فِي غير محل الشجة كان يكفيه المسحُ على محَلّ الشجة فوق الشجة من دون أنْ يَدْخُلَهُ الماءُ من دون أن يَدْخُلَ الماءُ الشجةَ ويتيممُ ويغسلُ الجسدَ الصحيحَ بالماء الساخن. أما هو الرجل الذِي اغتسل فماتَ لم يَدْعُ عليه رسولُ الله r؛ لأنّه ما كان يظنُّ أنه إن اغتسلَ يكونُ فِي هذا الاغتسال هلاكُهُ ظنَّ أنه لا يَحْصُلُ له هلاكٌ لذلك ما دعا عليه إنما دعا على الذين أَفْتَوْهُ بالاغتسال ولم يقولوا له ضع على محلّ الشجة رِباطًا ثم اغتسِلْ بالماء الساخن فِي غير محل الشجة من محل الصحيح من جسدك ثم بُلَّ يَدَكَ وامسح فوق محل الشجة هكذا وتيمم في وجهك ويديك مع معرفتهم بأن دخولَ الماء في جرحه شديد الضرر له. هو التيمم للجُنب ولغير الجنب إنما يكون في الوجه واليدين أما الوجهُ فكلُّ الوجه مِن عند منابت شعر الرأس إلى هنا([v]) فيمسح هكذا وأما اليدان ففي بعض المذاهب يمسحهما إلى المرفقين وفي بعض المذاهب يمسح الكفين فقط هذا كان يكفيه لكنَّ رفقاءَهُ هؤلاء أهلكوه، أفتَوه بغير علم فأهلكُوه فاستحقُّوا عذابًا لأن الذِي يُفْتِي الإنسانَ فتوى غيرَ شرعيةٍ عليه ذنبٌ. قال عليه الصلاة والسلام فِي بعض روايات هذا الحديث: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ ألا سَأَلُوا إذْ جَهِلُوا وَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيّ السؤالُ»([vi]).اهـ. هلّا سألوا إذ جهلوا المعنى أنَّ هؤلاء كانوا جاهلين فليس لهم حقٌّ أنْ يُفْتُوا للناس مع جهلِهم إنما يُفْتِي مَنْ هو مِن أهل العِلم أما الجُهَّالُ ليس لهم أن يفتُوا. «ألا سألوا إذْ جَهِلُوا»، لماذا لم يسألوا أهلَ العلم حيث إنهم جاهلون، لماذا لم يسألوا أهل العلم، «وإنما شفاءٌ العِيّ السؤالُ» شِفاءُ الجَهْل هو السؤالُ الإنسانُ الذِي يَجْهلُ شفاؤُه ودواؤُه أن يسألَ أهلَ العلم ليس أن يتصرفَ على حسب وهمِه لذلك دعا عليهم الرسول بقولِهِ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ ألا سَأَلُوا إِذْ جَهِلُوا وَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيّ السؤالُ».اهـ. دعا عليهم بأنْ يُهْلِكَهُمُ الله تعالى حيث إنهم أفتَوا بغير علم ولم يَرجِعُوا إلى أهل العلم ولم يقولوا للرجل نسألُ لك أهلَ العلم نحن لا نعلم أن نُفتيَك، ما قالوا له بل أفتَوه بما فيه هلاكُهُ.
كذلك قد يكون الإنسانُ لا يدرِي أحكامَ الشرع لم يتعلَّمْ ما أحلَّ اللهُ وما حَرَّمَ اللهُ مِن المال فَجَمَعَ مِن المال الحرام أو جَمَعَ مِن الحلال والحرام خَلَطَ الحلالَ والحرامَ ثم اتَّخَذَهُ زادًا لِحَجّه فهذا الإنسانُ إن أتمَّ الأركانَ والشروطَ إنْ حجَّ على حسب شروط الحج وأركان الحج ولم يترك شيئًا مِن أعمال الحج الضرورية لكنه أنفق على نفسه من هذا المال الحرام فإنَّ تَعَبَهُ كلَّه ليس فيه ثوابٌ إنما ثوابه المشقةُ التِي أَكَلَها، ليس له ثواب عند الله فِي الآخرة ولا يكون حَجُّهُ هذا حَجًّا يُكَفرُ الذنوبَ؛ أي: يهدِمُ الذنوبَ؛ لأنَّ الحَجَّ الصحيحَ الموافقَ لتعاليم الرسول r الذِي يكون بنيةٍ صحيحةٍ خالصةٍ لوجه الله ويكونُ المالُ الذِي يُنْفِقُهُ على نفسه في سفر حَجّه مِن المال الحلال هذا يَهْدِمُ الذنوب التي قبلَه لكن هذا الذِي حجَّ من هذا المال الحرام لا يهدم له حَجُّهُ معصيةً واحدةً لا يُكَفّرُ له معصيةً واحدةً وفوق ذلك ليس له ذَرَّةٌ مِن الثواب.
وهذا الذِي ذكرناه قليلٌ مِن كثير مِن هذا الصنف مِن الناس. ذَكَرَ لِي رجلٌ فِي مكةَ مِن أهل الشام كنتُ أَعْرفُهُ فِي الشام كان يَتَظاهَرُ بالفقر الشديد وله مِلْكٌ إذا اسْتَغَلَّهُ تَكْفِيه غَلَّتُهُ، يَتظاهَرُ بالفقر وَيَسْكُنُ مكانًا مِن الأوقاف وَقَفَهُ الناسُ المتقدمون من أهل الخير بناءً لِسُكْنَى العَجَزَة والمقطوعينَ، هذا الرجلُ كان يُخْفِي مالَهُ وأَخَذَ رُخْصَةً مِن الأوقاف لِيَسْكُنَ فِي هذا الوَقْف وَظَلَّ يَسْكنُ هناك، لـمَّا رأيتُهُ فِي الحَجِّ ورأيتُهُ فِي المدينة عند الرسول قال ليك أنا كنتُ أَدُورُ على الدكاكين أَسْتَرْحِمُ الناسَ فَجَمَعْتُ مِن هذا المال فَجِئْتُ إلى الحَجّ وَلِي دارٌ أُؤْجِرُهَا، قلتُ له: هذا المالُ الذِي أَعْطَوْكَ هم أَعْطَوْكَ على ظَنّ أنَّك فقيرٌ مُعْدِمُ على ظَنّ أنْ ليس لك مالٌ فهذا الحجُّ الذِي حَجَجْتَهُ بهذا المال ليس لك فيه ثواب ويجب عليك أنْ تَدُورَ على أولئك الذين تصدَّقوا عليك وتَرُدَّ لهم ما أخذتَ منهم. ثمَّ الرجلُ بحسب الظاهر ما أَنْكَرَ أمّا بالنسبة لِمَا فِي قلبه فاللهُ أعلم هل هو كان مُصَمّمًا على أن يتوب أم لا. عِلْمُهُ عند الله. هكذا بعضُ الناس يقعون فِي المعاصِي الكبيرة يأخذونَ المالَ الـمُحَرَّمَ ويُنفِقونه على أنفسهم فِي سفر الحجّ. الذِي يأخذ المال الذِي لا يستحقُّهُ من الناس يتظاهرُ بالفقر فيرحمُهُ الناسُ ويَعْطِفُونَ عليه فَيُعطُونَهُ ثم هو عنده مالٌ يكفيه لكنَّه يُخْفِيه هذا يستحقُّ عذابًا أليمًا فِي الآخرة. كان فِي زمن الرسول r رجلٌ فقيرٌ بِحَسَب الظاهِر وكان يأوِي إلى مكانٍ فِي مسجد الرسول فِي أواخر المسجد ثم تُوُفِّي هذا الرجلُ فَظَهَرَ معَهُ ديناران فأُخْبِرَ رسولُ الله r فقيل له إنه وُجِدَ معه ديناران ذهبًا فقال رسول الله r: «كَيَّتَان بِالنَّارِ»([vii]).اهـ. معناه: أن هذا الرجل أخفَى حقيقةَ حاله وشارك الفقراء الـمُعدِمين فَعَطَفَ الناسُ عليه فَأَعطَوْهُ على ظَنّ أنه فقيرٌ مُعْدِمٌ، ما أَعْطَوْهُ مع العلم بِحَقِيقَة حالِه فهو يستحِقُّ كَيَّتَيْن فِي الآخرة بنار جهنم، أيْ: أن هذين الدينارين اللذين كان يخفِيهما ويتظاهرُ بالفقر ويشاركُ الفقراءَ الـمُعْدِمينَ يستحق بهما أن يُكْوَى بنار جهنم. وهكذا كلُّ مَن يُوهِمُ الناس أنه بصفةٍ من الصفات فيظنونَ الخيرَ فيَعطِفُونَ عليه فَيَجْمَعُ مِن ذلك مالًا على هذا الوجه، فإنَّ ذلك المالَ يكونُ وَبَالًا عليه فِي الآخرة وهذا حالُ كثيرٍ من الفقراء، المالُ الذِي يكفيهم عندهم ويتظاهرُون بمظهر الفقر الشديد فيعطف الناس عليهم فيكون ذلك المالُ الذِي يأخذونه من الناس على وجه الصدقة والإحسان حرامًا عليهم وعذابًا فِي الآخرة.
روينا فِي الحديث الصحيح من «صحيح البخاريّ» رحمه الله أن خَوْلَةَ الأَنصاريةَ وهِيَ امرأةٌ كانت من الصحابيات بين النساء المؤمنات اللّاتِي كُنَّ رَأَيْنَ رسولَ الله r وَسَمِعْنَ حديثَهُ قالت رضي الله عنها قال رسول الله r: «إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُون فِي مال الله بغير حَقّ فَلَهُمُ النارُ يومَ القيامة»([viii]).اهـ. هذا الحديثُ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ للذين يأكلون مال الله بغير حق. وكلُّ ما فِي أيدِي العباد فهو مالُ الله تعالى لأن الله تبارك وتعالى مالِكُ العباد ومالِكُ ما مَلَّكَهُم، نحن وما نَمْلكُهُ مِلْكٌ لله تعالى نحن خَلْقُهُ والأموالُ التِي فِي أيدينا مالُهُ فَلْيَحْذَر الإنسانُ أنْ يَجْمَعَ مالًا مِن حرام ثم يُنْفِقَ منه على نفسه فقد روينا فِي «جامع الترمذِيّ» رحمه الله مِن حديث أنس بن مالك t أنَّ رسولَ الله r قال: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَعَنْ مالِه مِن أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ عِلْمِهِ ماذا عَمِلَ فِيه([ix])» انتَهَى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
[i])) رواه البخاريّ فِي صحيحه بَابُ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْح جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ ورواه مسلم فِي صحيحه، باب: نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور.
([ii]) أخرجه عن الحسن من قوله البيهقيُّ فِي شعب الإيمان ورواه كثيرون عن الحسن مرسلًا مرفوعًا.
([iii]) رواه أبو داود فِي سننه، باب: فِي المجروح يتيمم.
([iv]) رواه البزار وصححه ابن القطان.
([vi]) رواه أبو داود في باب المجروح يتيمم.
([vii]) رواه ابن حبان فِي صحيحه فِي ذكر خبرٍ أوهم من لم يُحكم صناعة الحديث أن النار تجب لمن مات وخلَّف الصفراء.
([viii]) رواه البخاري فِي صحيحه، بَابُ: قَوْل الله تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41].