الإثنين ديسمبر 8, 2025

س16: بين معنى حديث الجارية.

الحديث مضطرب([1])، ومن جرى على تصحيحه فليس معناه عنده أن الله ساكن السماء.

……………………………………………………………………………………………

 

 

 

وقول: «أين الله» سؤال عن المكانة لا عن المكان. معناه: ما اعتقادك من التعظيم في الله؟ وقولها: «في السماء»، أي: رفيع القدر جدا، ولا يجوز اعتقاد أن الرسول ﷺ سألها عن المكان، ولا اعتقاد أنها قصدت أن الله ساكن السماء.

قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].

الحديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره». البخاري. صحيح البخاري، (كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]، 3/789).

قال الإمام علي كرم الله وجهه: «لا يقال: أين الله، لمن أين الأين». الأسفراييني، التبصير في الدين، (ص162).

وقال أبو حنيفة في «الفقه الأبسط»: «كان الله تعالى ولا مكان، قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء».اهـ. أبو حنيفة، الفقه الأبسط([2]).

[1])) المضطرب من الحديث: هو ما اختلف راويه فيه فرواه على وجه، ومرة على وجه ءاخر مخالف له، وبعبارة أخرى: هو ما اضطرب فيه راويان فأكثر، فرواه كل واحد على وجه مخالف للآخر. ثم الاضطراب قد يكون في المتن، وقد يكون في السند، وإنما يسمى مضطربا إذا تساوت الروايتان المختلفتان في الصحة، بحيث لم تترجح إحداهما على الأخرى، أما إذا ترجحت إحداهما بكون راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيح، فإنه لا يطلق على الوجه الراجح وصف الاضطراب ولا له حكمه. والحكم حينئذ للوجه الراجح. والاضطراب موجب لضعف الحديث، لإشعاره بعدم ضبط راويه أو رواته.

* بيان اضطراب حديث الجارية: الحديث في مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1/381) أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فسأله عن جارية له قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها»، فأتاه بها فقال لها: «أين الله؟»، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟»، قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة»، فليس بصحيح لأمرين:

الأمر الأول: للاضطراب: لأنه روي بهذا اللفظ، وبلفظ «من ربك؟»، فقالت: الله، وبلفظ: «أين الله؟»، فأشارت إلى السماء، وبلفظ: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟»، قالت: نعم، قال: «أتشهدين أني رسول الله؟»، قالت: نعم. زين الدين العراقي، شرح التبصرة والتذكرة، 1/290.

الأمر الثاني: أن رواية «أين الله؟» مخالفة للأصول، لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يحكم له بقول: «الله في السماء» بالإسلام، لأن هذا القول مشترك بين اليهود والنصارى وغيرهم، وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث المتواتر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله». البخاري، صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5]، 1/17. مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، 1/53. رواه خمسة عشر صحابيا. المناوي، فيض القدير، 2/238، 239.

ولفظ رواية مالك في الموطأ (كتاب العتق والولاء، باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة، 5/1129): «أتشهدين» موافق للأصول.

* فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم في صحيحه: «أين الله؟»، فقالت: «في السماء» إلى ءاخره، مردودة مع إخراج مسلم لها في كتابه. وكل ما رواه مسلم موسوم بالصحة؟

فالجواب: أن عددا من أحاديث مسلم في صحيحه ردها علماء الحديث، ذكرها المحدثون في كتبهم، كحديث (كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار […]، 1/191) أن الرسول ﷺ قال لرجل: «إن أبي وأباك في النار»، ضعفه الحافظ السيوطي. السيوطي، الحاوي للفتاوي، 2/214، 215. وحديث (كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، 4/2119) فيه أنه يعطى كل مسلم يوم القيامة فداء له من اليهود والنصارى. ضعفه البخاري، ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 20/365. وكذلك (كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، 1/299) حديث أنس: صليت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر 5، فكانوا لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم»، ضعفه الشافعي. البيهقي، السنن الكبرى، 2/75.

* فحديث الجارية على ظاهره باطل، لمعارضته الحديث المتواتر المذكور، وما خالف المتواتر فهو باطل إن لم يقبل التأويل، اتفق على ذلك المحدثون والأصوليون.

لكن بعض العلماء أولوه على هذا الوجه، قالوا: معنى «أين الله؟» سؤال عن تعظيمها لله، وقولها: «في السماء» عالي القدر جد.

وقد روى البخاري في الصحيح (أبواب المساجد، باب حج البزاق باليد من المسجد، 1/159) أن النبي ﷺ قال: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه – أو – إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه». وهذا الحديث أقوى إسنادا من حديث الجارية. وأخرج أحمد في مسنده (32/374) أيضا عن أبي موسى الأشعري t أن رسول الله ﷺ قال: «اربعوا على أنفسكم، فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».

يقال للمعترض: إذا أخذت حديث الجارية على ظاهره، وهذين الحديثين على ظاهرهما، لبطل زعمك أن الله في السماء، وإن أولت هذين الحديثين ولم تؤول حديث الجارية فهذا تحكم – أي: بقول بلا دليل -، ويصدق عليك قول الله في اليهود: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 85].

* وكذلك ماذا تقول في قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]؟ فإن أولته، فلم لا تؤول حديث الجارية؟! وقد جاء في تفسير هذه الآية عن مجاهد تلميذ ابن عباس: «قبلة الله». ففسر الوجه بالقبلة، أي: بصلاة النفل في السفر على الراحلة. الطبري، تفسير الطبري، 2/459.

* قال أبو حامد الغزالي: «وأنه سبحانه ليس مختصا بجهة ولا مستقرا على مكان».اهـ. الغزالي، قواعد العقائد، ص145.

[2])) أبو حنيفة، الفقه الأبسط، ص57.