س 43: ما الدليل على جواز زيارة قبر النبي ﷺ للرجال والنساء؟
تسن زيارة قبر النبي ﷺ بالإجماع، نقل ذلك القاضي عياض([1]).
……………………………………………………………………………………………
قال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللـه واستغفر لهم الرسول([2]) لوجدوا اللـه توابا رحيما} [النساء: 64].
الحديث: «من زار قبري وجبت له شفاعتي». الدارقطني، سنن الدارقطني، (باب المواقيت، 3/334)([3]).
وأما حديث البخاري في الصحيح (أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 1/398): «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث، فمعناه: من أراد السفر لأجل الصلاة في مسجد ينبغي أن يسافر لهذه المساجد الثلاثة، لأن الصلاة فيها تتضاعف([4])، ويحمل هذا على الندب لا على الوجوب. فالحديث مخصوص بالسفر لأجل الصلاة، وليس فيه أنه لا تجوز زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
[1])) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: «وزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها».اهـ. القاضي عياض، الشفا، 2/ 582.
* قال الحافظ يحيى النووي في كتاب متن الإيضاح (ص 156): «إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله ﷺ لزيارة تربته ﷺ فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي».اهـ. ابن حجر الهيتمي، حاشية الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج، ص 488.
* وقد أورد الشيخ تقي الدين الحصني في كتابه «دفع شبه من شبه وتمرد» نقولا كثيرة عن أئمة من المذاهب الأربعة في معنى ما قاله الحافظ النووي. الحصني، دفع شبه من شبه وتمرد، (ص 142) ورد فيه على ابن تيمية.
* قال الحافظ تقي الدين السبكي في شفاء السقام (ص 184): «فيما ورد في السفر إلى زيارته ﷺ صريحا، وبيان أن ذلك لم يزل قديما وحديثا، وممن روى ذلك عنه من الصحابة بلال ابن أبي رباح t مؤذن رسول الله ﷺ، سافر من الشام إلى المدينة المنورة لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، روينا ذلك بإسناد جيد إليه، وهو نص في الباب».اهـ. ثم أفاض السبكي في شفاء السقام (ص202) في نقل استحبابها عن أعيان من العلماء من المذاهب الأربعة، فنقل ذلك عن الشافعية: عن القاضي أبي الطيب الطبري والمحاملي والحليمي والماوردي والروياني والقاضي حسن والشيخ أبي إسحاق الشبرازي. وعن الحنفية: عن أبي منصور الكرماني في مناسكه، وعبد الله بن محمود في شرح المختار، وأبي الليث السمرقندي في فتاويه، والسروجي في الغاية. وعن الحنابلة: عن أبي الخطاب الكواذاني في الهداية، وأبي عبد الله السامري في المستوعب، ونجم الدين بن حمدان في الرعاية الكبرى. وعن المالكية: عن أبي عمران الفاسي، والشيخ ابن أبي زيد. ثم ذكر السبكي (ص 231 ، 232) حديث أبي داود في سننه (كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/169) : «ولا تجعلوا قبري عيدا»، وأجاب عنه بثلاثة أجوبة:
يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره ﷺ، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين.
ويحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، وزيارة قبره ﷺ ليس لها يوم بعينه؛ بل أي يوم كان.
ويحتمل أن يراد أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد؛ بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام والدعاء، ثم ينصرف عنه، والله أعلم بمراد نبيه ﷺ.
* قال الحافظ أبو زرعة العراقي في «طرح التثريب في شرح التقريب» (6/43): «استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة لزيارة قبر النبي ﷺ لزمه ذلك، لأنه من جملة المقاصد التي يؤتى لها ذلك المحل، بل هو أعظمها، وقد صرح بذلك القاضي ابن كج [يوسف بن أحمد] من أصحابنا، فقال: عندي إذا نذر زيارة قبر الني ﷺ لزمه الوفاء وجها واحدا، ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان، وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين. وكان والدي رحمه الله يحكي أنه كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن رجب الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل u، فلما دنا من البلد قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحل لزيارته على طريقة ابن تيمية، قال: فقلت: نويت زيارة قبر الخليل u، ثم قلت له: أما أنت فقد خالفت النبي ﷺ، لأنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، (البخاري، صحيح البخاري، أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 1/ 398) وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبي ﷺ لأنه قال: «زوروا القبور»، أفقال: إلا قبور الأنبياء، قال: فبهت».اهـ.
* ولا يغتر بإنكار ابن تيمية لسن زيارته ﷺ، فإنه عبد أضله الله، كما قال علماء كثيرون وأطالوا في الرد عليه، ووقوعه في حق رسول الله ﷺ ليس بعجب، فإنه وقع في حق الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فنسب إليه العظائم، كقوله: إن لله تعالى جهة، ولقد كفره كثير من العلماء، عامله الله بعدله، وخذل متبعيه الذين نصروا ما افتراه على الشريعة الغراء.
[2])) ينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته ﷺ قربة أي طاعة لله، للأحاديث الواردة في ذلك ولقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} [النساء: 64]، فتعظيمه ﷺ لا ينقطع بموته، ولا يقال: إن استغفار الرسول ﷺ لهم إنما هو في حال حياته، وليست الزيارة كذلك؛ فالجواب أن الآية دلت على تعليق وجدان الله توابا رحيما بثلاثة أمور: المجيء، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول ﷺ لجميع المؤمنين، لأنه ﷺ استغفر للجميع، قال الله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]، فإذا وجد مجيئهم أو استغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته. لأن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه بحياة رسول الله ﷺ.
[3])) ذكر السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» (ص208) أن حديث: «من زار قبري وجبت له شفاعتي»، حسنه الذهبي.
[4])) لم يفهم أحد من السلف ما فهمه ابن تيمية من قوله بتحريم السفر لزيارة قبر النبي ﷺ، من حديث: «لا تشد الرحال» الحديث؛ بل زيارة قبر الرسول ﷺ سنة، سواء كانت بسفر أم بغير سفر كسكان المدينة، والحنابلة قد نصوا كغيرهم على كون زيارة قبر النبي ﷺ سنة، سواء قصدت بالسفر لأجلها أم لم تقصد بالسفر لأجلها، وحديث: «لا تشد الرحال» الحديث معناه الذي فهمه السلف والخلف أنه لا فضيلة زائدة في السفر لأجل الصلاة في مسجد إلا السفر إلى هذه المساجد الثلاثة، لأن الصلاة تتضاعف فيها إلى مائة الف وذلك في المسجد الحرام، وإلى ألف وذلك في مسجد الرسول، وإلى خمسمائة وذلك في المسجد الأقصى، فالحديث المراد به السفر لأجل الصلاة، ويبين ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3/64) من طريق شهر بن حوشب أنه قال: «ذكرت عند أبي سعيد الخدري t الصلاة في الطور، فقال أبو سعيد: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا ينبغي للمطي أن تعمل إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا». وهو مبين لمعنى الحديث السابق، وتفسير الحديث بالحديث خير من تحريف ابن تيمية وتحريمه زيارة قبر النبي ﷺ، وهي من أبشع المسائل المنقولة عنه. قال الحافظ العراقي في ألفيته في مصطلح الحديث (ص161): [الرجز] «وخير ما فسرته بالوارد».اهـ.
وقال رسول الله ﷺ: «ليهبطن عيسى ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا، وليسلكن فجا حاجا أو معتمرا أو بنيتهما وليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه». صححه الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه، (كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، 2/651).