سُورَةُ الْمُرْسَلاتِ
مَكِّيَّةٌ وَهِىَ خَمْسُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
أَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ ﴿وَالْمُرْسَلاتِ﴾ فَتَلَقَّيْنَاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »اقْتُلُوهَا» قَالَ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا قَالَ فَقَالَ »وُقِيتُ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا».
﴿وَالْمُرْسَلاتِ﴾ أَىِ الرِّيَاحِ ﴿عُرْفًا﴾ أَىْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَقِيلَ الْمُرْسَلاتُ أَىِ الْمَلائِكَةُ، وَعُرْفًا أَىِ الَّتِى أُرْسِلَتْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ.
﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ أَىِ الشَّدِيدَاتِ الْهُبُوبِ السَّرِيعَاتِ الْمَمَرِّ وَقِيلَ هِىَ الْمَلائِكَةُ تَعْصِفُ بِرُوحِ الْكَافِرِ.
﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ أَىِ الرِّيَاحِ الَّتِى تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَأْتِى بِالْمَطَرِ وَقِيلَ هِىَ الْمَلائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسَّحَابِ يَنْشُرُونَهَا.
﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾ أَىِ الْمَلائِكَةِ الَّتِى تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَقِيلَ هِىَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ أَىِ الْمَلائِكَةِ تُلْقِى مَا حَمَلَتْ مِنَ الْوَحْىِ إِلَى الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ الإِعْذَارُ هِىَ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَالإِنْذَارُ هُوَ بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ أَىْ مَا تُوعَدُونَ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ بِكُمْ وَنَازِلٌ عَلَيْكُمْ لا مَحَالَةَ.
﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ أَىْ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا وَمُحِىَ نُورُهَا.
﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾ أَىْ فُتِحَتْ وَشُقَّتْ.
﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ أَىْ قُلِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَفُتِّتَتْ وَخُرِقَتْ.
﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ أَىْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُجِّلَتْ لِلِاجْتِمَاعِ لِوَقْتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «وُقِّتَتْ» بِوَاوٍ مَعَ تَشْدِيدِ الْقَافِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
﴿لِأَىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ تَعْظِيمٌ لِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ وَالْمَعْنَى لِأَىِّ يَوْمٍ أُجِّلَتِ الرُّسُلُ وَوُقِّتَتْ أَىْ مَا أَعْظَمَهُ وَأَهْوَلَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَىَّ يَوْمٍ هُوَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ
﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ﴾ أَىْ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلائِقِ فَيُجَازَى الْمُحْسِنُ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِىءُ بِإِسَاءَتِهِ.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ أَتْبَعَ التَّعْظِيمَ تَعْظِيمًا أَىْ وَمَا أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىْ عَذَابٌ وَخِزْىٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَبِيَوْمِ الْفَصْلِ فَهُوَ وَعِيدٌ وَكَرَّرَهُ فِى هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ كُلِّ ءَايَةٍ لِمَنْ كَذَّبَ.
﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ﴾ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ إِهْلاكِ الْكُفَّارِ مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِينَ بِالْعَذَابِ فِى الدُّنْيَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ.
﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ﴾ أَىْ نُلْحِقُ الآخِرِينَ بِالأَوَّلِينَ أَىْ كَمَا أَهْلَكْنَا الأَوَّلِينَ قَبْلَهُمْ نُهْلِكُ الآخِرِينَ وَهُمْ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَمَدْيَنَ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَ الأَوَّلِينَ فِى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَهَذَا وَعِيدٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ أَىِ الْكَافِرِينَ وَالْمَعْنَى مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِمَنْ تَقَدَّمَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِرُسُلِى كَذَلِكَ سُنَّتِى فِى أَمْثَالِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَبِمَنْ أَجْرَمَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَنُهْلِكُهُمْ.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ.
﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾ أَىْ ضَعِيفٍ هُوَ مَنِىُّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ بِإِظْهَارِ الْقَافِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِدْغَامِهَا.
﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾ أَىْ فَجَعَلْنَا الْمَاءَ الْمَهِينَ ﴿فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ أَىْ فِى مَكَانٍ حَرِيزٍ وَهُوَ الرَّحِمُ يُحْفَظُ فِيهِ مِنَ الآفَاتِ الْمُفْسِدَةِ لَهُ.
﴿إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أَىْ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ وَقْتُ الْوِلادَةِ
﴿فَقَدَرْنَا﴾ مِنَ الْقُدْرَةِ أَىْ قَدَرْنَا عَلَى خَلْقِهِ وَتَصْوِيرِهِ كَيْفَ شِئْنَا ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ وَهَيْئَةٍ.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِىُّ »فَقَدَّرْنَا« بِالتَّشْدِيدِ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الإِعَادَةِ.
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ﴾ أَيُّهَا النَّاسُ ﴿الأَرْضَ﴾ لَكُمْ ﴿كِفَاتًا﴾ أَىْ وِعَاءً.
﴿أَحْيَاءً﴾ أَىْ عَلَى ظَهْرِهَا ﴿وَأَمْوَاتًا﴾ أَىْ فِى بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ ضَامَّةً تَضُمُّ وَتَجْمَعُ الأَحْيَاءَ عَلَى ظُهُورِهَا فِى الْمَسَاكِنِ وَالْمَنَازِلِ وَالأَمْوَاتَ فِى بُطُونِهَا فِى الْقُبُورِ فَيُدْفَنُونَ فِيهَا.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾ أَىْ فِى الأَرْضِ ﴿رَوَاسِىَ﴾ أَىْ ثَوَابِتَ ﴿شَامِخَاتٍ﴾ أَىْ مُرْتَفِعَاتٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِى الأَرْضِ جِبَالًا ثَابِتَاتٍ شَامِخَاتٍ مُرْتَفِعَاتٍ ﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَّاءً فُرَاتًا﴾ أَىْ عَذْبًا يُشْرَبُ وَيُسْقَى مِنْهُ الزَّرْعُ وَهَذِهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ذَكَّرَهُمْ بِهَا.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أَىْ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ سِيرُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فِى الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ يَعْنِى النَّارَ وَغَيْرَهَا.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ﴾ أَىْ إِلَى دُخَانٍ وَهُوَ دُخَانُ جَهَنَّمَ إِذَا ارْتَفَعَ ﴿ذِى ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ أَىْ تَشَعَّبَ إِلَى ثَلاثِ شُعَبٍ مِنْ شِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ شَأْنُ الدُّخَانِ الْعَظِيمِ إِذَا ارْتَفَعَ تَشَعَّبَ وَالشُّعَبُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ جِسْمٍ وَاحِدٍ.
ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ الظِّلَّ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَّا ظَلِيلٍ﴾ أَىْ لَيْسَ هُوَ كَالظِّلِّ الَّذِى يَقِى وَيُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ ﴿وَلا يُغْنِى﴾ أَىْ لا يَدْفَعُ عَنْهُمْ هَذَا الدُّخَانُ شَيْئًا ﴿مِنَ اللَّهَبِ﴾ أَىْ لَهَبِ جَهَنَّمَ أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا وَجَعَلَنَا تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.
﴿إِنَّهَا﴾ أَىِ النَّارَ ﴿تَرْمِى بِشَرَرٍ﴾ وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ فِى كُلِّ جِهَةٍ ﴿كَالْقَصْرِ﴾ أَىْ كَالْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ فِى الْعِظَمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصْرٍ ثَلاثَةَ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ بِسُكُونِ الصَّادِ وَبِفَتْحِهَا وَقِيلَ هُوَ الْغَلِيظُ مِنَ الْخَشَبِ كَأُصُولِ النَّخْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ »كَالْقَصْرِ« بِإِسْكَانِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ الْقُصُورِ الْمَبْنِيَّةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رُزَيْنٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ »كَالْقَصَرِ« بِفَتْحِ الصَّادِ.
وَقَرَأَ سَعْدُ بنُ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مُجْلِزٍ وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَابْنُ يَعْمُر كَالْقَصِرِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِىُّ كَالْقُصُرِ بِضَمِّ الْقَافِ وَالصَّادِ جَمِيعًا.
﴿كَأَنَّهُ﴾ أَىْ كَأَنَ الشَّرَرَ الَّذِى تَرْمِى بِهِ جَهَنَّمُ كَالْقَصْرِ ﴿جِمَالَتٌ﴾ جَمْعُ جِمَالٍ وَهِىَ الإِبِلُ ﴿صُفْرٌ﴾ أَىْ سُودٌ، شُبِّهَتْ هَذِهِ الشَّرَرُ بِالإِبِلِ السُّودِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّى السُّودَ مِنَ الإِبِلِ صُفْرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْجِمَالاتُ الصُّفْرُ هِىَ قُلُوسُ السَّفِينَةِ أَىْ حِبَالُهَا الْعِظَامُ إِذَا اجْتَمَعَتْ مُسْتَدِيرَةً بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ جَاءَ مِنْهَا أَجْرَامٌ عِظَامٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ »جِمَالاتٌ« بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالأَلِفِ وَالتَّاءِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِىُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ »جِمَالَةٌ« وَقَرَأَ رُوَيْسُ عَنْ يَعْقُوبَ »جُمَالاتٌ« بِضَمِّ الْجِيمِ وَقَرَأَ أَبُو رُزَيْنٍ وَحُمَيْدٍ »جُمَالَةٌ« بِرَفْعِ الْجِيمِ.
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ الَّذِى تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ.
﴿هَذَا يَوْمُ﴾ أَىْ فِى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿لا يَنْطِقُونَ﴾ أَىْ لا يَتَكَلَّمُونَ أَىْ فِى بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ وَمَوَاقِفِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ فِى بَعْضِهَا يَتَكَلَّمُونَ وَفِى بَعْضِهَا يَخْتَصِمُونَ وَفِى بَعْضِهَا يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلا يَنْطِقُونَ.
﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ أَىْ مِمَّا اقْتَرَفُوا فِى الدُّنْيَا مِنَ الذُّنُوبِ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الإِعْذَارُ وَالإِنْذَارُ فِى الدُّنْيَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِى الآخِرَةِ.
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ يَعْنِى لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لا عُذْرَ لَهُمْ وَلا حُجَّةَ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَلا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لا جَرَمَ قَالَ فِى حَقِّهِمْ ﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾.
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ أَىْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلائِقِ فَيَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَالسَّعِيدُ مِنَ الشَّقِىِّ ﴿جَمَعْنَاكُمْ﴾ أَىْ جَمَعَ اللَّهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَالأَوَّلِينَ﴾ أَىْ وَالْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِ.
﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ﴾ أَىْ فِى هَذَا الْيَوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ ﴿كَيْدٌ﴾ أَىْ حِيلَةٌ فِى الْخَلاصِ مِنَ الْهَلاكِ كَمَا كَانَ لَكُمْ مَا تَكِيدُونَ بِهِ دِينَ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ ﴿فَكِيدُونِ﴾ أَىْ فَاحْتَالُوا الْيَوْمَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحِيَلَ يَوْمَئِذٍ مُنْقَطِعَةٌ وَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ فَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ لِهَؤُلاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أَىِ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَدَوِا الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبُوا الْمُحَرَّماتِ ﴿فِى ظِلالٍ﴾ جَمْعُ ظِلٍّ وَهُوَ ظِلُّ الأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ ﴿وَعُيُونٍ﴾ أَىْ أَنْهَارٍ تَجْرِى خِلالَ أَشْجَارِ جَنَّاتِهِمْ مِنْ مَاءٍ وَعَسَلٍ وَلَبَنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
﴿وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أَىْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا كُلَّمَا اشْتَهَوْا فَاكِهَةً وَجَدُوهَا حَاضِرَةً فَلَيْسَتْ فَاكِهَةُ الْجَنَّةِ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَا فِى أَنْوَاعِ فَاكِهَةِ الدُّنْيَا وَفَاكِهَةُ الْجَنَّةِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا مَوْجُودَةٌ دَائِمًا وَأَبَدًا وَأَمَّا فَاكِهَةُ الدُّنْيَا تُوجَدُ فِى بَعْضِ الأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ.
﴿كُلُوا﴾ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاكِهِ ﴿وَاشْرَبُوا﴾ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ كُلَّمَا اشْتَهَيْتُمْ ﴿هَنِيئًا﴾ أَىْ لا تَكْدِيرَ عَلَيْكُمْ وَلا تَنْغِيصَ فِيمَا تَأْكُلُونَهُ وَتَشْرَبُونَ مِنْهُ ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَىْ هَذَا جَزَاءٌ بِمَا كُنْتُمْ فِى الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ.
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى﴾ أَىْ نُثِيبُ ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ أَىْ أَهْلَ الإِحْسَانِ فِى طَاعَتِهِمْ إِيَّانَا وَعِبَادَتِهِمْ لَنَا فِى الدُّنْيَا فَلا نُضِيعُ فِى الآخِرَةِ أَجْرَهُمْ.
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىْ وَيْلٌ لِلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ خَبَرَ اللَّهِ عَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ تَكْرِيمِهِ هَؤُلاءِ الْمُتَّقِينَ بِمَا أَكْرَمَهُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا﴾ هَذَا الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ فِى الدُّنْيَا ﴿قَلِيلًا﴾ أَىْ زَمَانًا قَلِيلًا إِذْ قُصَارَى أَكْلِكُمْ وَتَمَتُّعِكُمْ الْمَوْتُ وَهُوَ خِطَابُ تَهْدِيدٍ ﴿إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ﴾ أَىْ كَافِرُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعِقَابِ.
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ لِهَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ ﴿ارْكَعُوا﴾ أَىْ صَلُّوا ﴿لا يَرْكَعُونَ﴾ أَىْ لا يُصَلُّونَ أَىْ لا يُؤْمِنُونَ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ.
وَقِيلَ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ فِى الآخِرَةِ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ.
وَقِيلَ هَذِهِ الآيَةُ يُخْبِرُ اللَّهُ فِيهَا عَنِ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ لا يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ وَلا يَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِى قَوْلِهِ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ »نَزَلَتْ فِى ثَقِيفٍ«.
﴿وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَىِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مَا بَلَّغُوا مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَنَهْيَهُ لَهُمْ.
﴿فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أَىْ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِالْقُرْءَانِ الَّذِى هُوَ الْمُعْجِزُ وَالدِّلالَةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلامُ فَبِأَىِّ شَىْءٍ يُصَدِّقُونَ.
تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُرْسَلاتِ وَبِذَلِكَ تَمَّ تَفْسِيرُ جُزْءِ تَبَارَكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.