سُورَةُ الْقِيَامَةِ
مَكِّيَّةٌ وَهِىَ أَرْبَعُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُّحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَّنِىٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى (40)
﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أَىْ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِى فِيهِ الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الآخِرَةِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ »لأُقْسِمُ« بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ.
﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ أَىْ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ هِىَ الَّتِى تَلُومُ صَاحِبَهَا فِى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَنَحْوِهَا فَهِىَ عَلَى هَذَا مَمْدُوحَةٌ وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِىَ الَّتِى تَلُومُ نَفْسَهَا عَلَى مَا فَاتَ وَتَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَتْهُ وَعَلَى الْخَيْرِ لِمَ لَمْ تَسْتَكْثِرْ مِنْهُ.
﴿أَيَحْسَبُ﴾ أَىْ أَيَظُنُّ ﴿الإِنْسَانُ﴾ أَىِ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ وَالْمُنْكِرُ لِلْبَعْثِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَبَا جَهْلٍ ﴿أَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ أَىْ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَرُجُوعِهَا رَمِيمًا وَرُفَاتًا مُخْتَلِطَةً بِالتُّرَابِ وَبَعْدَ مَا نَسَفَتْهَا الرِّيحُ فَطَيَّرَتْهَا فِى أَبَاعِدِ الأَرْضِ.
﴿بَلَى﴾ أَىْ بَلَى نَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهَا وَذَكَرَ الْعِظَامَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى إِعَادَةَ الإِنْسَانِ وَجَمْعَ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِأَنَّ الْعِظَامَ هِىَ قَالَبُ الْخَلْقِ لا يَسْتَوِي إِلَّا بِاسْتِوَائِهَا ﴿قَادِرِينَ﴾ عَلَى جَمْعِهَا وَعَلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ ﴿عَلَى أَنْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ﴾ وَهِىَ أَصَابِعُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَنَجْعَلُهَا شَيْئًا وَاحِدًا كَخُفِّ الْبَعِيرِ أَوْ حَافِرِ الْحِمَارِ فَكَانَ لا يَأْخُذُ مَا يَأْكُلُهُ إِلَّا بِفِيهِ أَىْ فَمَهِ كَسَائِرِ الْبَهَائِمِ وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ يَأْخُذُ بِهَا وَيَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ إِذَا شَاءَ وَيَبْسُطُ وَقِيلَ فِى الآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِلافِ بَصَمَاتِ أَصَابِعِ النَّاسِ مَعَ تَشَابُهِ الأَصَابِعِ.
﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ شَهَوَاتِهِ وَمَعَاصِيَهُ وَيَدُومُ عَلَى فُجُورِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمَانِ لا يَثْنِيهِ عَنْهَا شَىْءٌ وَلا يَتُوبُ مِنْهَا أَبَدًا وَيُسَوِّفُ التَّوْبَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ »سَوْفَ أَتُوبُ سَوْفَ أَعْمَلُ« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. وَالأَمَامُ ظَرْفُ مَكَانٍ اسْتُعِيرَ هُنَا لِلزَّمَانِ وَقِيلَ يُكَذِّبُ الْكَافِرُ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ.
﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ أَىْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَسُؤَالُهُ هَذَا اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ وَتَعَنُّتٌ.
﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ أَىْ شَخَصَ بَصَرُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلا يَطْرِفُ لِمَا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِى كَانَ يُكَذِّبُ بِهَا فِى الدُّنْيَا.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ »بَرَقَ« بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا.
﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ أَىْ أَظْلَمَ وَذَهَبَ ضَوْؤُهُ.
﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ أَىْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِى ذَهَابِ الضَّوْءِ وَقِيلَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِى الطُّلُوعِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَيَطْلُعَانِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ وَقِيلَ يُجْمَعَانِ فَيُلْقَيَانِ فِى النَّارِ.
﴿يَقُولُ الإِنْسَانُ﴾ أَىِ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ بِالآخِرَةِ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا يُعَايِنُ أَهْوَالَهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ ﴿أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ أَىْ أَيْنَ الْفِرَارُ.
﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْفِرَارِ ﴿لا وَزَرَ﴾ أَىْ لا شَىْءَ يَلْجَأَ إِلَيْهِ مِنْ جَبَلٍ أَوْ حِصْنٍ أَوْ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِهِ.
﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ أَىْ إِلَى حُكْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ ﴿يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ أَىْ مُسْتَقَرُّهُمْ أَىْ مَوْضِعُ قَرَارِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ.
﴿يُنَبَّؤُا﴾ أَىْ يُخْبَرُ ﴿الإِنْسَانُ﴾ أَىْ ابْنُ ءَادَمَ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ﴿يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ أَىْ بِمَا أَسْلَفَ مِنْ عَمَلٍ سَىّءٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ أَخَّرَ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ أَوْ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَهُ.
﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ أَىْ شَاهِدٌ وَهُوَ شُهُودُ جَوَارِحِهِ عَلَيْهِ يَدَاهُ بِمَا بَطَشَ بِهِمَا وَرِجْلاهُ بِمَا مَشَى عَلَيْهِمَا وَعَيْنَاهُ بِمَا أَبْصَرَ بِهِمَا وَقِيلَ فِى تَفْسِيرِ الآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ.
﴿وَلَوْ أَلْقَى﴾ الإِلْقَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ ﴿مَعَاذِيرَهُ﴾ أَىْ أَعْذَارَهُ وَالْمَعْنَى لَوِ اعْتَذَرَ بِالْقَوْلِ وَجَاءَ بِكُلِّ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الشَّاهِدُ عَلَيْهَا وَالْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا.
﴿لا تُحَرِّكْ﴾ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَىْ لا تُحَرِّكْ يَا مُحَمَّدُ ﴿بِهِ لِسَانَكَ﴾ أَىْ بِالْقُرْءَانِ
﴿لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ أَيْ بِالْقُرْءَانِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾.
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ فِى صَدْرِكَ، ﴿وَقُرْءَانَهُ﴾ أَىْ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ وَالْمَعْنَى حَتَّى تَقْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ جَمَعْنَاهُ فِى صَدْرِكَ.
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أَىْ فَإِذَا قَرَأَهُ الْمَلَكُ الْمُبَلِّغُ عَنَّا ﴿فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ﴾ أَىْ فَاسْتَمِعْ قِرَاءَتَهُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ ثُمَّ يَقْرَأُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ »قَرَأْنَاهُ بَيَّنَّاهُ، فَاتَّبِعْ اعْمَلْ بِهِ« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْءَانَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَقْرَأُ الأُسْتَاذُ عَلَى التِّلْمِيذِ فَهَذَا لا يَجُوزُ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَلِ الْمَعْنَى فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْكَ بِأَمْرِنَا فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ أَيِ اسْتَمِعْ لِقِرَائَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَنَحْنُ ضَمِنَّا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ لا يَنْفَلِتَ مِنْكَ الْقُرْءَانُ.
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أَىْ بَيَانَ مَا فِيهِ مِنْ حَلالَهِ وَحَرَامِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ »عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ«.
وَبَعْدَ خِطَابِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إِلَى حَالِ الإِنْسَانِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ وَأَنَّ هَمَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِى تَحْصِيلِ حُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِى لا فِى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الآخِرَةِ إِذْ هُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى
﴿كَلَّا﴾ أَىْ هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَقْوَالِهِمْ أَىْ لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ ﴿بَلْ تُّحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ أَىْ أَنْتُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ عَلَيْكُمْ مَحَبَّةُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا.
﴿وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ أَىْ تَدَعُونَ وَتَتْرُكُونَ الآخِرَةَ وَالْعَمَلَ لَهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ »بَلْ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ الآخِرَةَ« بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
﴿وُجُوهٌ﴾ هِىَ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿نَّاضِرَةٌ﴾ أَىْ حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ مَسْرُورَةٌ.
﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أَىْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى فِى الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا ثُبُوتِ مَسَافَةٍ.
وَرُؤْيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ لا شَكَّ فِيهَا وَالأَحَادِيثُ فِيهَا صِحَاحٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى بِلا جِهَةٍ وَلا مُقَابَلَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا وَلا يَتَغَيَّر.
﴿وَوُجُوهٌ﴾ هِىَ وُجُوهُ الْكُفَّارِ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿بَاسِرَةٌ﴾ أَىْ كَالِحَةٌ كَاسِفَةٌ عَابِسَةٌ مُتَغِيِّرَةُ الأَلْوَانِ مُسْوَدَّةٌ.
﴿تَظُنُّ﴾ أَىْ تُوقِنُ، وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ ﴿أَنْ يُفْعَلَ بِهَا﴾ فِعْلٌ هُوَ فِى شِدَّتِهِ ﴿فَاقِرَةٌ﴾ أَىْ دَاهِيَةٌ تَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْرِ وَتَقْصِمُهُ.
﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِى تَنْقَطِعُ الْعَاجِلَةُ عِنْدَهُ وَيَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى الآجِلَةِ الَّتِى يَبْقَوْنَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ ﴿إِذَا بَلَغَتِ﴾ أَىْ نَفْسُ الْمُحْتَضَرِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ ﴿التَّرَاقِىَ﴾ جَمْعُ تَرْقَوَةٍ وَهِىَ عَظْمٌ يَصِلُ بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ وَالْعَاتِقُ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنَ الْمَنْكِبِ.
﴿وَقِيلَ﴾ أَىْ قَالَ مَنْ حَوْلَهُ ﴿مَنْ رَاقٍ﴾ أَىْ مَنْ يَرْقِيهِ فَيَشْفِيَهِ بِرُقْيَتِهِ وَقِيلَ هَلْ مِنْ طَبِيبٍ يَشْفِيهِ وَقِيلَ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ أَمَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ.
﴿وَظَنَّ﴾ أَىْ أَيْقَنَ الْمُحْتَضَرُ ﴿أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ أَىْ فِرَاقُ الدُّنْيَا وَالأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ الْمَلائِكَةَ.
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ أَىِ اتَّصَلَتِ الشِدَّةُ بِالشِّدَّةِ أَىْ شِدَّةُ الدُّنْيَا بِشِدَّةِ الآخِرَةِ وَذَلِكَ شِدَّةُ كَرْبِ الْمَوْتِ بِشِدَّةِ هَوْلِ الْمَطْلَعِ وَإِقْبَالِ الآخِرَةِ.
﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ﴾ أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الْمَسَاقُ﴾ أَىِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ.
﴿فَلا صَدَّقَ﴾ أَىْ لَمْ يُصَدِّقْ بِالْقُرْءَانِ ﴿وَلا صَلَّى﴾ أَىْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُصَلِّى لِلَّهِ.
﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ﴾ بِالْقُرْءَانِ ﴿وَتَوَلَّى﴾ أَىْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ.
﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أَىْ إِلَى قَوْمِهِ ﴿يَتَمَطَّى﴾ أَىْ يَتَبَخْتَرُ فِى مِشْيَتِهِ إِعْجَابًا.
﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ تَهْدِيدٌ بَعْدَ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكَافِرِ وَتَكْرَارُهُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
﴿أَيَحْسَبُ﴾ أَىْ أَيَظُنُّ ﴿الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ أَىْ أَنْ يُخَلَّى مُهْمَلًا لا يُؤْمَرُ وَلا يُنْهَى وَلا يُكَلَّفُ فِى الدُّنْيَا وَلا يُحَاسَبُ فِى الآخِرَةِ.
﴿أَلَمْ يَكُ﴾ أَىْ أَلَمْ يَكُ هَذَا الْمُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ وَإِيجَادِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ ﴿نُطْفَةً﴾ أَىْ مَاءً قَلِيلًا فِى صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ ﴿مِّنْ مَّنِىٍّ يُمْنَى﴾ أَىْ يُصَبُّ فِى رَحِمِ الْمَرْأَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ »تُمْنَى« بِالتَّاءِ.
﴿ثُمَّ كَانَ﴾ أَىْ صَارَ الْمَنِىُّ ﴿عَلَقَةً﴾ أَىْ قِطْعَةَ دَمٍ جَامِدَةً ﴿فَخَلَقَ﴾ أَىْ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ بَشَرًا مُرَكَّبًا مِنْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ ﴿فَسَوَّى﴾ أَىْ سَوَّاهُ شَخْصًا مُسْتَقِلًّا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا.
﴿فَجَعَلَ مِنْهُ﴾ أَىْ فَخَلَقَ مِنَ الإِنْسَانِ ﴿الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى﴾ أَىِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ.
﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ أَىْ أَلَيْسَ الَّذِى فَعَلَ ذَلِكَ فَخَلَقَ هَذَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مُضْغَةٍ حَتَّى صَيَّرَهُ إِنْسَانًا سَوِيًّا لَهُ أَوْلادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى﴾ أَىْ مِنْ مَمَاتِهِمْ فَيُوجِدَهُمْ كَمَا كَانُوا قَبْلَ مَمَاتِهِمْ أَىْ إِنَّ اللَّهَ لا يُعْجِزُهُ إِحْيَاءُ مَيِّتٍ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُصَلِّى فَوْقَ بَيْتِهِ وَكَانَ إِذَا قَرَأَ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى﴾ قَالَ سُبْحَانَكَ فَبَلَى فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.