سُورَةُ الْفِيلِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «قَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَم». وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَلَمْ تُخْبَر».
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّتِهِمْ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَبْرَهَةَ بنَ الصَّبَّاحِ الأَشْرَم مَلِكَ الْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ لَمَّا سَارَ بِجُنُودِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ لِيَهْدِمَهَا خَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ فَأَصَابُوا إِبِلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُهُ شَيْبِةُ الْحَمْدِ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ بَعْضَ جُنُودِهِ قَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ شَرِيفِ مَكَّةَ وَأَخْبِرْهُ إِنِّي لَمْ ءَاتِ لِقِتَالٍ وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فَلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بنَ هَاشِمٍ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي لِأُخْبِرَكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوهُ وَإِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ثَمَّ يَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ وَمَا لَنَا بِهِ يَدٌ، إِنَّا سَنُخْلِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ مَا لَنَا بِهِ قُوَّة، قَالَ: فَانْطَلَقَ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى أَبْرَهَةَ أَعْظَمَهُ وَكَرَّمَهُ ثُمَّ قَالَ لِتُرْجِمَانِهِ قُلْ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا، فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجِمَانِهِ قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ وَلَقَدْ زَهِدْتُ الآنَ فِيكَ، جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ لِأَهْدِمَهُ فَلَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ وَكَلَّمْتَنِي فِي إِبِلٍ أَصَبْتُهَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ هَذِهِ الإِبِلِ – أَيْ مَالِكُهَا – وَلِهَذَا الْبَيْتِ رَبٌّ سَيَمْنَعُهُ، فَأَمَرَ بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ خَوْفًا مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلَ فَفَعَلُوا، فَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا رَبِّ لا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا *** يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا *** إِمْنَعُهُمُ أَنْ يُخْرِبُوا قُرَاكَا
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ أَصْبَحَ مُتَهَيِّئًا لِلدُّخُولِ فَبَرَكَ الْفِيلُ وَقَعَدَ فَبَعَثُوهُ فَأَبَى فَضَرَبُوهُ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْيَمَنِ رَاجِعًا فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَبَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَ مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلاثَةَ أَحْجَارٍ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَكَانَ كُلُّ حَجَرٍ فَوْقَ حَبَّةِ الْعَدَسِ وَدُونَ حَبَّةِ الْحِمَّصِ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَرْمِيِّهِ يَنْزِلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَخْرِقُهُ وَيَقَعُ فِي دِمَاغِهِ، فَهَلَكُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَكَانَ أَصْحَابُ الْفِيلِ سِتِّينَ أَلْفًا». وَمِرِضَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ فَتَقَطَّعَ أَنْمُلَةً أَنْمُلَةَ وَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ. وَانْفَلَتَ أَبُو يَكْسُومَ الْكِنْدِيُّ وَزِيرُ أَبْرَهَةَ وَطَائِرٌ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى لِلْقَوْمِ فَرَمَاهُ الطَّائِرُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَأَرَاهُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ هَلاكُ أَصْحَابِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ تَوْكِيدًا لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمْهِيدًا لِشَأْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ التَّحَدِّي، وَقَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَامَ الْفِيلِ عَلَى الأَصَحِّ لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَقِيلَ: لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْهُ، وَقِيلَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهَ الْقِصَّةِ أَرْبَعُونَ عَامًا فَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ.
﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ فَكَيْدُهُمْ هُوَ مَا أَرَادُوا مِنْ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَهَدْمِهَا، وَ﴿فِي تَضْلِيلٍ﴾ أَيْ فِي إِبْطَالٍ وَتَضِييعٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَيْدَهُمْ ضَلَّ عَمَّا قَصَدُوا لَهُ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مُرَادِهِمْ.
﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «أَبَابِيل مُتَتَابِعَة مُجْتَمِعَة» وَقِيلَ الْكَثِيرَة وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لا وَاحِدَ لَهَا» وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّنْ سِجِّيلٍ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سِجِّيلٍ هِيَ سَنْكِ وَكِلْ» أَيْ طِينٍ وَحِجَارَةٍ، وسِجِّيلٍ مُعَرَّب، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: «قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مِّنْ سِجِّيلٍ﴾ أَيْ مِنْ سِجِّلٍ، أَيْ مِمَّا كُتِبَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ وَالسِّجِّيلُ بِمَعْنَى السِّجِّينِ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ مَا مَرَّ فِيهَا عِنْدِي وَأَثْبَتُهَا» اهـ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمٰنِ السُّلَمِيُّ يَرْمِيهِمْ بِالْيَاءِ.
﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ أَيْ كَوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فَرَمَتْ بِهِ مِنْ أَسْفَل، شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ.