سُورَةُ الْبُرُوجِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِجْمَاعًا وَهِيَ ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22).
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ هَذَا قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَقَالَ الإِمَامُ يَحْيَى بنُ سَلامٍ الْبِصْرِيُّ: ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ أَيْ ذَاتِ الْمَنَازِلِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَهِيَ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا يَوْمَيْنِ وَثُلُثَ يَوْمٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرِونَ يَوْمًا ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ، وَتَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا شَهْرًا وَهِيَ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْبُرُوجُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْقُصُورُ، قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/ 78]. وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا وَهِيَ: الشَّرَطَانُ، وَالبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسَّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالْزُّبَانَى، وَالإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالْشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ، وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ أَيِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَهُوَ قَسَمٌ ءَاخَرُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةُ إِجْمَاعًا.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ شَاهِدًا لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، وَسُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَشْهُودًا لِأَنَّ النَّاسَ يَشْهَدُونَ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ وَتَشْهَدُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْقَسَمِ.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ أَيْ لُعِنُوا، وَالأُخْدُودُ شَقٌّ يُشَقُّ فِي الأَرْضِ وَالْجَمْعُ أَخَادِيد، وَهَؤُلاءِ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ خَدُّوا أُخْدُودًا فِي الأَرْضِ وَسَجَّرُوهُ نَارًا وَعَرَضُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ تَرَكُوهُ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الإِيْمَانِ أَحْرَقُوهُ، وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمُ الْمُحْرِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ مَلِكٌ خَدَّ لِقَوْمٍ أَخَادِيدَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ جَمَعَ فِيهَا الْحَطَبَ وَأَلْهَبَ فِيهَا النِّيرَانَ فَأَحْرَقَ بِهَا قَوْمَهُ، وَقَعَدَ الَّذِينَ حَفَرُوهَا حَوْلَهَا فَرَفَعَ اللَّهُ النَّارَ إِلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ حَفَرُوهَا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَنَجَا مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ فِي الآخِرَةِ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَحْرَقَتْ مَنْ فِيهَا وَنَجَا الَّذِينَ فَوْقَهَا، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الأُخْدُودِ أَقْوَالًا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ: »رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ: كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَعِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ ءَادَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلادَهُ بَنَاتَهُ فَأَطَاعُوهُ وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ«. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: »رَوَى عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ أَبْزَى: »لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِس قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعَ عَلَيْهِمْ، وَلا مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ فَنُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ« فَذَكَرَ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ«، وَقَالَ فِي ءَاخِرِهِ: »فَوَضَعَ الأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ«.
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا بَدَلٌ مِنَ الأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ أَصْحَابُ النَّارِ، قَالَ الرَّاغِبُ: »الْوَقُودُ يُقَالُ لِلْحَطَبِ الْمَجْعُولِ لِلْوُقُودِ وَلِمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهَبِ«.
﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ أَيْ عِنْدَ النَّارِ وَكَانَ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ جُلُوسًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ عِنْدَ الأُخْدُودِ يَعْرِضُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ أَبَى أَلْقَوْهُ.
﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ أَيْ حُضُورٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الآيَاتِ بِقِصَّةِ قَوْمٍ بَلَغَ مِنْ إيِمَانِهِمْ وَيَقِينِهِمْ أَنْ صَبَرُوا عَلَى التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ.
﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أَيْ مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا لإِيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ، ﴿الْعَزِيزِ﴾ الْغَالِب و ﴿الْحَمِيدِ﴾ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ واَلأَرْضَ وَهُوَ الْمَالِكُ لَهُمَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا صَنَعُوا، فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى مَا فَعَلُوا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أَيْ أَحْرَقُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾، ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ مِنْ شِرْكِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلا الْعَذَابَيْنِ فِي جَهَنَّمَ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ، وَقَالَ الْبَعْضُ: عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ خَرَجَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِالْفَوْزِ الْكَبِيرِ الْجَنَّةُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَازُوا مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَعَذَابِ الآخِرَةِ فَأَكْبِرْ بِهِ فَوْزًا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ النَّارَ لَمْ تُحْرِقْهُمْ إِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ حَضَرُوا، أَيْ الْمَلِكَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ.
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ وَالْجَبَابِرَةَ لِشَدِيدٌ.
﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ أَيْ هُوَ خَلَقَهُمْ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُمْ تُرَابًا.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ وَلَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ بَطْشِهِ ذَكَرَ كَوْنَهُ غَفُورًا سَاتِرًا لِذُنُوبِ عِبَادِهِ وَدُودًا لَطِيفًا بِهِمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ.
﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ﴿الْمَجِيدِ﴾ بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الْعَرْشِ، وَغَيْرُهُمْ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَظِيمٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ الْعَرْشَ بِأَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ وَاللَّهُ مَالِكُهُ وَقَاهِرُهُ وَحَافِظُهُ وَهُوَ تَعَالَى قَاهِرٌ لِمَا دُونَ الْعَرْشِ بِالأَوْلَى كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/ 129] وَلا يَجُوزُ أَنَّ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/ 5] بَلْ إِنَّ اعْتِقَادَ السَّلَفِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَخْذًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ 11].
وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ الْحَافِظُ الشَّهِيرُ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِقَادِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: »يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِاسْتِوَاءِ اعْتِدَالٍ عَنِ اعْوِجَاجٍ وَلا اسْتِقْرَارٍ فِي مَكَانٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِلا كَيْفٍ بِلا أَيْنٍ، بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ إِتْيَانَهُ لَيْسَ بِإِتْيَانٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَنَّ مَجِيئَهُ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ، وَأَنَّ نُزُولَهُ لَيْسَ بِنُقْلَةٍ، وَأَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَأَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِصُورَةٍ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ، وَأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَتْ بِحَدَقَةٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَوْصَافٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ فَقُلْنَا بِهَا وَنَفَيْنَا عَنْهَا التَّكْيِيفَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/ 11]، وَقَالَ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/ 4]، وَقَالَ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/ 65] «اهـ.
ثُمَّ رَوَى رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ وَمَالِكًا وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ سُئِلُوا عَنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ النُّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقَالُوا: »أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ«، وَقَالَ: »إِنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِالْكَيْفِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فِي أَوْصَافِ الْحَدَثِ«. انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ نَفِيسٌ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلاءِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ أَيْ قَدْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ الْجُمُوعِ الطَّاغِيَةِ فِي الأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْجُنُودِ، وَهُمُ الْجُمُوعُ الَّذِينَ أَعَدُّوا لِقِتَالِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ هُمْ فَقَالَ ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ فَهَذَا بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ.
﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ أَيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَلِلْقُرْءَانِ فَهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ﴾ أَيْ كَريِمٌ لِأَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ وَلا كَهَانَةٍ وَلا سِحْرٍ.
﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مِنْهُ نُسِخَ الْقُرْءَانُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: »مَحْفُوظٌ« رَفْعًا عَلَى نَعْتِ ﴿قُرْءَان﴾، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَيِ الْقُرْءَانَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَوْحٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم.