الخميس نوفمبر 21, 2024

سُورَةُ الضُّحَى

مَكِّيَّةٌ إِجْمَاعًا وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ ءَايَةً

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

 

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

 

   اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ مُدَّةً، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَيْ مَرِضَ- فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنَّ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ اهـ. وَالْقَائِلَةُ هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي.

   ﴿وَالضُّحَى﴾ وَهُوَ قَسَمٌ بِالضُّحَى وَهُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ.

   ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ وَهُوَ قَسَمٌ بَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُجَاهِدٌ ﴿إِذَا سَجَى﴾: اسْتَوَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَجَى: أَظْلَمَ وَسَكَنَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: «قاَلَ الْفَرَّاءُ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾: إِذَا أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ».

   ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ وَمَا كَرِهَكَ، قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: عُبِّرَ عَنِ التَّرْكِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ كَقَوْلِكَ: وَدَّعْتُ فُلانًا، نَحْوُ خَلَّيْتُهُ، وَالْقِلَى: شِدَّةُ الْبُغْضِ.

   ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى﴾ أَيْ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الَّذِي أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا.

   ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ أَيْ سَيُعْطِيكَ اللَّهُ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرَاتِ عَطَاءً جَزِيلًا فَتَرْضَى بِمَا تُعْطَاهُ، قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَرْضَى.

   ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ أَيْ أَلَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ حَالِكَ أَنَّكَ صِرْتَ يَتِيمًا بِفَقْدِ أَبِيكَ قَبْلَ أُمِّكَ فآوَاكَ بِأَنْ جَعَلَ لَكَ مَأْوًى إِذْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ فَكَفَاكَ الْمَؤُنَةَ.

   ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أَيْ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي الْقُرْءَانَ وَتَفَاصِيلَ الشَّرَائِعِ فَهَدَاكَ اللَّهُ أَيْ أَرْشَدَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْءَانِ وَشَرَائِعِ الإِسْلامِ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيْمَانُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/52] مَعْنَاهُ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ الْقُرْءَانَ وَلا تَفَاصِيلَ الإِيْمَانِ، فَالرَّسُولُ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَانَ مُؤْمِنًا بِرَبِّهِ مُعْتَقِدًا تَوْحِيدَهُ تَعَالَى بِمَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ إِنَّهُ ضَلَّ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فِي شِعَابِ مَكَّةَ فَرَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

   ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ أَيْ ذَا فَقْرٍ فَأَرْضَاكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ، وَمَعْنَى فَأَغْنَى صَارَ عِنْدَكَ الْكِفَايَةُ.

   ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ أَيْ فَلا تَحْتَقِرْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى اللُّطْفِ بِالْيَتِيمِ وَبِرِّهِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٍ».

   ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ أَيْ لا تَزْجُرِ الْمُسْتَعْطِي لَكِنْ أَعْطِهِ أَوْ رُدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: السَّائِلُ هُنَا السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لا سَائِلُ الْمَالِ.

   ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ انْشُرْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، فَإِنَّ التَّحَدُّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافَ بَهَا شُكْرٌ، وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الأُسْتَاذَ أَبَا سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الْمُرْتَعِشَ يَقُولُ سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيَّ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْرِ فَقَالَ لِي: يَا غُلامُ مَا الشُّكْرُ؟ فَقُلْتُ: أَنْ لا تَعْصِيَ اللَّهَ بِنِعْمَةٍ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ عَنْ ثَمَرَةِ الشُّكْرِ فَقَالَ: الْحُبُّ لِلَّهِ وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي سَعْدَانَ الْبَغْدَادِيُّ: الشُّكْرُ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى الْبَلاءِ شُكْرَهُ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ النُّبُوَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَدُّثِ بِهَا تَبْلِيغُهَا.