درسٌ ألقاهُ المحدّثُ الشيخُ عبدُ الله بنُ محمدٍ الهرريُّ رحمهُ الله تعالى يومَ الجمعة فِي الخامس من شهر صفر سنة أربع وأربعين وألف من الهجرة الموافق للحادِي عشر من شهر تشرين الثانِي سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي مسجد البسطة الفوقا وهو فِي بيان أنَّ سيدنا ءادم هو أبو البشر. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناء الحسن وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وصلاة الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين.
أمَّا بعدُ: فإنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [سورة النساء: 1] اللهُ تعالى يُخْبِرُنا فِي هذه الآية أنَّ البشرَ كُلَّهم مِن نَفْسٍ واحدةٍ وأنَّ هذه النفسَ هو ءادمُ ، أخبرنا فيها بأنه خَلَقَ مِن ءادمَ زوجَهُ وهِيَ حَوّاءُ ثم أخبرنا بأنَّ البشرَ تناسلوا منهما، أي: مِن هذه النفس الواحدة وحواءَ التي هِيَ زوجُ هذه النفس الواحدة فليس هناك ءادمُ الذِي هو أصلُ البشر سوى ءادمَ الذِي أسجد الله له الملائكة وكان خَلْقُهُ فِي الجنة، وأما الشيء الذِي خُلِقَ منه ءادمُ فهو ترابٌ وهذا الترابُ جاء فِي الحديث الثابت عن رسول الله أنه ترابُ هذه الأرض ثم أخبرنا بأنه فِي بُرهة من الزمن كان طِينًا، أما الماء الذِي عُجِنَ به هذا الترابُ حتى صار طينًا فهو ماءُ الجنة؛ لأن مَلَكًا أُمِرَ بأنْ يَقْبِضَ مِن جميع أجزاء الأرض أبيضِها وأسودِها وما بين ذلك وسَهْلِهَا وحَزْنِهَا وما بين ذلك وصَعِدَ بهذه التربة إلى الجنّة ثم عُجِنَ من مائها. أما كيفية خلق زوجه منه، أي: مِن ءادم فلم يتحدث عنه رسول الله تصريحًا إنّما عبدُ الله بنُ عباس رَضِيَ الله عنهما قال: إنَّ الله تعالى خلق حواءَ مِن ضِلَعِ ءادمَ الأيسر.اهـ. واتفق على ذلك المؤرّخون وعلماء الدين والمحدثون هذا هو القولُ الصحيح وأما مَن حاد عن هذا وقال حواءُ خُلِقَتْ على انفرادٍ بحالها مِن غير أن تكون جزءًا من ءادم فقوله مردود ومع ذلك لا يكفّر؛ لأنّه يتأول قوله تعالى جلَّ وعزَّ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بأن المعنى أنها خُلِقَتْ مِن جنس ءادم، أي: على صورة البشر، قال أولئك وهم شِرْذِمَةٌ قليلٌة مِن المفسرّين قالوا معنى أنها خُلقت من ءادم، أي: من جنس النفس الواحدة التِي هِيَ ءادم، أي: من حيث الصورةُ، أي: لم يَخلق له زوجةً على صورةِ غير البشر؛ بل خلق له زوجًا على صورته، هكذا يقول هؤلاء وهم طائفةٌ قليلة من المفسرين. القول الصحيح هو الأول، أي: أن حواء خُلقت من ءادم من جسمه بأنْ خَلَقَها الله تعالى مِنْ ضِلَع من أضلاع ءادم اليسرى وإلى هذا يُرْشِدُ الحديثُ أن الرسول قال: «استوصُوا بالنساء خيرًا فإنهن خُلقْنَ مِن ضِلَعٍ أعوجَ»([1]).اهـ. وهو وإن لم يكن صريحًا بحيث لا يَقْبَلُ تأويلًا كما قالتْ هذه الطائفة القليلة لكن لا حاجة ولا داعِيَ إلى التأويل لذلك نحن نأخذ بإطلاق ظاهر الحديث فنقول كما قال ابن عباس: إنها خُلقت من ضلع من أضلاع ءادم وهو الضلع الأيسر.اهـ.
ثم بَقِيَ بيانُ كيفية تناسل البشر والطريق فِي ذلك أنَّ حواءَ كانت تَحْمِلُ فِي كلّ بطنٍ ذكرًا وأنثَى، حملت أربعين بطنًا كلّ بطنٍ خرجَ منه ذكر وأنثى فكان الذكر من هذا البطن يتزوج أنثى من البطن الآخر حتى كَثُروا.
وأما ما يُروى عن جعفر الصادق أن أولاد ءادم كانوا يُزَوَّجُونَ مِن الحُور العِين فجاءتهم هذه الذرية فهذا كذب ملفَّقٌ لا يصح عن جعفرٍ ولا عن غيره، هو قولٌ لا أصلَ له لا يجوز اعتقاده وجعفر الصادق بَرِيءٌ منه. جعفر الصادق ليس له مُؤلَّفٌ مُعَيَّنٌ أَلَّفَهُ هو بنفسه أو بطريقة الإملاء، ما لَهُ، كذلك سيدنا عليٌّ كذلك الحسنُ والحسينُ كذلك زينُ العابدين وابنُهُ محمدٌ الباقِرُ رضي الله عنهم كلُّهم ما أَلَّفُوا كتابًا واحدًا لا بكتابةٍ بأيديهم ولا بطريق الإملاء إنما عِلْمُهُم منتشرٌ بين أهل السُّنَّة مُودَعٌ بطونَ الكُتُب، فِي هذا الكتاب تجد من أقوال سيدنا عليّ شيئًا وفِي كتاب ءَاخَرَ شيئًا من كلامه وفِي كتاب ءاخر وهكذا عِلْمُهُ مُفَّرَّقٌ فِي بطون الكتب وكذلك عِلْمُ الحسن والحسين مفرق فِي بطون الكتب لم يُجْمَعْ فِي كتاب معيَّن إلا أنَّ فضائلَ عليّ جمعَ أغلبَها أحدُ المحدثين وهو النسائيُّ رحمه الله هذا جمع كتابًا سماه: خصائصَ علَيّ ما تَرَكَ مِن فضائل عليّ شيئًا إلا ما نَدَرَ.
وهناك كُتُبٌ أَلَّفَها المحدّثون من أهل السُّنَّة والجماعة يُكثرون فيها مِن نَقْل فتاوَى عليّ وفتاوى جعفر وفتاوى زين العابدين وغيرِهم من أئمة أهل البيت ككتاب «مُصَنَّف عبد الرزاق الصنعانيّ» الذِي كان فِي عصرِ مالك بن أنس القرنِ الثاني الهجري أَلَّفَ كتابًا كبيرًا يُكثِرُ فيه من إيراد فتاوَى عليّ والحسن والحسين وجعفر وزين العابدين عليّ بن الحسين مع ما إلى ذلك مِن أحاديث النبيّ التِي يرويها بإسناده إلى النبيّ .
فهذه المقالةُ الشاذَّةُ لا وجود لها فِي هذا الكتاب ولا فِي أمثاله من الكتب التِي أُلّفَتْ لجمع الكثير من أقوال أئمة أهل البيت وليس بعيدًا على كثير من أفراد البشر أن يكذِبوا على أئمة أهل البيت؛ لأنهم كذّبوا على الرسول فكيف بمن بَعْدَهُ.
الذِي يجب اعتقادُهُ أن الله تعالى أخرج من ءادمَ وحواءَ البشرَ كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [سورة الحجرات: 13] الشعوبُ جمع شعب والشعب يَجْمَعُ قبائلَ كبيرةً والقبيلة دون الشعب.
هذا هو الشيء الصحيحُ الثابت. وما يُذكر فِي كثير من الكتب من الضعيف الفاسد أنَّ بِلْقيس كانت أُمُّهَا جِنّيَّةً وأبوها كان مِن أبناء الملوك فهذا غيرُ صحيح أيضًا. لم يثبت أنه يحصل تناسل بين الإنس والجن ولو كان كثيرٌ من الناس يتحدثون أنه تزوجَ فلانٌ جنيةً فَوُلِدَ منها أولادٌ وأنَّ فلانةَ مِن الإنس تزوجَها جِنّيٌّ فوُلِدَ منها أولادٌ هذه حكاياتٌ لا تَثْبُتُ، ليس لها ثبوتٌ.
أما ما يقال: إنه كان قبل ءادم الذِي هو نبيٌّ من أنبياء الله أوادِمُ كثيرٌ حتى قال بعضُ الـمُحَرّفِينَ إنه كان قبل ءادمَ مائةُ ألف ءادمَ فهذا مِن أَصْرَح الكذب وأَبْعَدِه عن الحقيقة، هذا بعيدٌ مِن الحقيقة بُعْدًا كبيرًا، بعضُ الكتب تَذْكُرُ هذا لكن هذه الكتب لا اعتماد عليها بعيدة عن الصواب بالـمَرَّة يذكرون هذا الكلام ويذكرون ما يشبهه.
الحذرَ الحذرَ مِن الاعتماد على ما يقعُ فِي أيدِي الواحد مِنَّا مِن مؤلَّفات هذا العصر أو مؤلفات ما قبل هذا العصر مما فيه التحريف؛ فإن كثيرًا مِن المؤلَّفات مشحونةٌ بالأكاذِيب، فالسلامةُ والخيرُ فِي الاشتغال بمؤلفات العلماء الـمُعْتمَدِينَ والاقتصار عليها ثم بَعْدَ التمكُّن بها وقوة التمييز إذا طالع الشخصُ فِي مؤلف من المؤلفات الشهيرة أو غير الشهيرة فلا بأس عليه لأنه صار فِي نفس معرفةٌ تَجْعَلُهُ يُمَيّزُ بها بينَ ما يَصِحُّ وما لا يَصِحُّ.
فإذا قيل إنَّ هذه الآيةَ ما صرَّحت بأن هذه النفسَ هِيَ ءادمُ فكيف فُسّرتْ بآدم وذلك بإجماع المفسرين قيل بيانُ ذلك من رسول الله فإنه ذكر ما يُبَيّنُ ذلك كما فِي حديث الشفاعة المشهور، فِي هذا الحديث المشهور وهو صحيحٌ ثابتٌ أنَّ البشرَ، أي: المؤمنين منهم يأتُونَ يومَ القيامة إلى ءادمَ فيقولون له يا ءادمُ أنت أبو البشر.اهـ. هو الرسولُ أَخْبَرَ أنهم يأتون يوم القيامة إلى ءادم فيقولون له يا ءادم أنت أبو البشر خلقك بيده وأسجدَ لك الملائكةَ فاشفع لنا إلى ربك([2]).اهـ. سيدُنا محمدٌ أخبرنا بأنَّ البشرَ يأتون يومَ القيامة إلى ءادمَ فيقولون يا ءادمُ أنت أبو البشر مِن هذا الحديث وأمثالِه عَرَفْنَا تفسيرَ قولِه تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} عرفنا أنَّ هذه النفسَ الواحدة هِيَ ءادمُ ومرادهم بهذه الشفاعةِ هِيَ الشفاعةُ للخلاص مِن طُول الوقوف من دون أنْ يُقْضى بين العباد، ثم ءادمُ يَعْتَذِرُ لهم ويُحِيلُهُم إلى نوحٍ ثم نوحٌ أيضًا يعتذِرُ ويُحيلهم إلى موسى ثم موسى يعتذر ويُحِلُهُم إلى عيسى ثم عيسى أيضًا يعتذِرُ ويُحيلُهم على محمدٍ صلوات الله عليهم جميعًا فيشفعُ لهم سيدُنا محمدٌ . فِي «صحيح البخارِيّ» أنَّ النبيّ قال: «إنَّ الشمسَ تَدْنُو يومَ القيامَةَ فَبَيْنَمَا هم كذلك إذِ اسْتَغَاثُوا بآدم»([3]).اهـ. إلى ءَاخِر الحديث، فاستغاثتُهم في هذه الحالة هِيَ استشفاعُهم بآدم هِيَ طلبُهم الشفاعة من ءادم إلى الله تعالى لِيُغَيّرَ حالتَهم التِي تَحَصَّلَ منها مِن الشّدَّة ما تَحَصَّلَ وهِيَ شِدَّةُ حَرّ الشمس؛ لأنّها تدنو مِن رؤوس الناس يومَ القيامة ليست مُسْتَقِرَّةً فِي فَلَكِهَا الذِي تسير فيه اليومَ وهذا الفَلَكُ مدارٌ جعله اللهُ تعالى للشمس تدور فيه، ذلك اليومَ تخالِفُ فيه ذلك الفلكَ ذلك المدارَ تَقْتَرِبُ مِن رؤوسِ الناس فيشتدُّ حَرُّ الشمس على الناس يتضايقون. فَطَلَبُهُمْ هذا يُسَمَّى استغاثةً يُسَمَّى تَشَفُّعًا اسْتِشْفَاعًا فالاستغاثة بالمخلوق جائزةٌ بنصّ هذا الحديث.
وهؤلاء الذين يتأذَّون يوم القيامة مِن حرّ الشمس هم غيرُ المؤمنين الذين خَصَّهُمُ الله تعالى بأنْ أَظَلَّهُم فِي ظِلّه، أي: ظِلّ العرش أولئك أُناسٌ مَخْصُوصُونَ من المؤمنين، أولئك لا يصيبُهم شيءٌ مِن الأذى مِن حرّ الشمس يومَ القيامة، أولئك ءامنون مِن الفَزَع الأكبر مِن جميع أهوال يوم القيامة، مِن أولئك الناس الـمُتحابُّونَ فِي الله تبارك وتعالى الذين لم يَكُنْ تَحابُّهُم مِن أجل المال ولا مِن أجل القرابة ولا من أجل الصداقة؛ بل كان تحابُّهم لله تعالى، جَعَلَنا اللهُ منهم.
وسبحانَ الله والحمدُ لله ربّ العالمين. انتَهَى.
والله أعلم.
[1])) رَوَاهُ البُخَارِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ إِسْحَاقَ بْن نَصْرٍ عَنْ حُسَيْنٍ الجُعْفِي، وَرَوَاهُ مُسْلمٌ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُسَيْنٍ.
[2])) رواه البخاري فِي صحيحه باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}.
[3])) رواه البخاري فِي صحيحه بَابُ مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا.