سورة المعارج
سورةُ سألَ سائِلٌ ويُقالُ لها سورةُ المعارجِ ويُقالُ لها سورةُ الواقِع
وهي مكيةٌ كلها بإجماعهم وءاياتُها أربعٌ وأربعونَ
بسم الله الرحمن الرحيم
أحدُهُما: أنها السمواتُ قالهُ ابنُ عباس، وقال مجاهدٌ هي معارجُ الملائكةِ.
والثاني: أن المعارجَ الفواضلُ والنعمُ قالهُ قتادة.
أحدهما جبريلُ. قاله الأكثرون.
والثاني روحُ الميتِ حين تقبضُ.
_____________________
قال الإمام أبو حنيفة في “الفقه الأكبر”: “والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له {قُلْ هُوَ اللهُ أحدٌ* اللهُ الصمدُ* لمْ يَلِدْ ولمْ يُولَد* ولمْ يكُنْ لهُ كُفُوًا أحدٌ} [سورة الإخلاص/1-2-3-4] لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شئٌ من خلقه”، ثم قال: “وهو شئٌ لا كالأشياء. ومعنى الشئ إثباته بلا جسم ولا عَرَض ولا حد له ولا ضد له ولا نِد له ولا مِثل له”، وقال أيضًا: “لم يزل ولا يزال بأسمائه، لم يحدث له اسم ولا صفة” أي أن التغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين. “فمن قال إنها مخلوقة أو محدَثة أو توقفَ فيها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى”.
وقال في “الفقه الأكبر”: “وصفاته كلُّها في الأزل بخلاف صفات المخلوقين”. وقال أيضًا في “الفقه الأكبر”: “ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته”، “ولكنَّ يده صفته بلا كيف” أي من غير أن تكون جارحة.
وقال في “الفقه الأبسط”: “ليست كأيدي خلقه ليست بجارحةٍ وهو خالق الأيدي ووجهه ليس كوجوه خلقه وهو خالق كل الوجوه”.
وقال في “الوصية”: “وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا لما قَدرَ على إيجادِ العالم وتدبيره وحفظه كالمخلوقين، ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله”.
وقال في “الفقه الأبسط”: “كان الله ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أينٌ ولا خلقٌ ولا شئ وهو خالق كل شئ” “فمن قال لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر. كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض”. وإنما كفَّر الإمام قائل هاتين العبارتين لأنه جعل الله تعالى مختصًا بجهة وحَيّز، وكل ما هو مختصٌّ بالجهةِ والحيز فإنه محتاجٌ مُحدَث بالضرورةِ أي بلا شك. وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أنّ السماء والعرش مكان لله تعالى بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة عن الله وهو قوله: “ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله”. وأشار رضي الله عنه إلى إكفار من أطلق التشبيه والتحيز على الله كما قاله البياضي واختار الإمام الأشعري ذلك فقال في كتاب “النوادر”: “من اعتقد أن الله جسمٌ فهو غير عارف بربه وإنه كافر به”.
وكيف يُنسب إلى الإمام أبي حنيفة القول بإثبات المكان لله وقد قال في كتابه “الوصية”: “ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة”. وقال في الفقه الأكبر: “يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة”.
وقال في “الفقه الأكبر”: “وليس قرب الله تعالى ولا بُعده من طريق المسافة وقصرها ولكن على معنى الكرامة والهوان. والمطيعُ قريب منه بلا كيف، والعاصي بعيد عنه بلا كيف، والقربُ والبعدُ والإقبال يقع على المناجي. وكذلك جواره تعالى في الجنة والوقوف بين يديه بلا كيف” اهـ. فبعد هذا البيان وضح أنّ دعوى إثبات المكان لله تعالى أخذًا من كلام أبي حنيفة افتراءٌ عليه وتقويلٌ له ما لم يقل. قال البيهقي في كتابه “الأسماء والصفات” نقلاً عن الحافظ المحدث الفقيه أبي سليمان الخطابي: والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله تبارك وتعالى مُتعال عنهما {ليسَ كمثله شئٌ} [سورة الشورى/11]”.
وقال نقلاً عن الأشعري: “إن الله تعالى لا مكان له” وذكر أن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، وقال نقلاً عن الأشعري في قوله تعالى {فأتَى اللهُ بُنْيانَهُم منَ القواعِدِ} [سورة النحل/26]: “لم يُرد به إتيانًا من حيث النُّقة”. ونقل عنه أنه قال في حديث النزول: “إنه ليس حركة ولا نُقلة”. وقال نقلاً عن أبي سليمان الخطابي رحمه الله: “لا يتوجه على صفاته –يعني الله- كيفية ولا على أفعاله”.
________________________
وقال البيهقي في ءاية {وجاءَ ربُّكَ والمَلَكُ صفًّا صفًا} [سورة الفجر/22]: “والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان لله تعالى بلا تشبيه” اهـ. ونقل البيهقي بإسناده عن الأوزاعي ومالك وسفيان والليث بن سعد أنهم سُئلوا عن هذه الأحاديث فقالوا: “أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفية” ذكره في كتابه في المعتقد.
فتبين أن مرادهم بقولهم بلا كيفية نفي الجلوس والاستقرار والحركة والأعضاء ونحو ذلك مما هو من صفات الأجسام أو الأعضاء. ولا يقصدون أنّ استواءه على العرش وإتيانه له كيفية لا نعلمها نحن الله يعلمها بل المراد نفي الكيفية عنه ألبتة.
وليعلم العاقل أن الجلوس كيفما كان افتراشًا أو تربعًا أو غيرهما فهو كيفية لأنه لا يخرج عن كونه من صفات الأجسام. وهكذا التحيز في المكان كيفية من كيفيات الأجسام، واللون والمماسة لجسم من الأجسام كيفية فهي منفيةٌ عن الله.
وقال الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله: “ثم القول بالكون على العرش –وهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة- لا يَعدو من إحاطة ذلك به أو الاستواء به أو مجاوزته عنه وإحاطته به. فإن كان الأولَ فهو إذًا محدودٌ محاطٌ منقوصٌ عن الخلق إذ هو دونه” اهـ.
قلنا: لو كان الله جالسًا على العرش إن كان مساويًا للعرش لا بد أن يكون مربعًا إن كان العرش مربعًا أو مثلثًا إن كان العرش مثلثًا أو مستديرًا إن كان العرش مستديرًا، وهذه صفات الحادث المخلوق كالشمس فإن شكلها الاستدارة فلا تستحق أن تكون إلهًا بل تحتاج إلى من خلقها على هذا الشكل. ثم قال الإمام أبو منصور: “ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به من الأمكنة لجاز بما يحيط به من الأوقات فيصير متناهيًا بذاته مُقصّرًا عن خلقه. وإن كان على الوجه الثاني فلو زيدَ على الخلق لا ينقص أيضًا وفيه ما في الأول. وإن كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مع مع يُذم ذا من فعل الملوك أن لا يفضل عنهم من المعامد شئ. وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض وبعضه يفضل عن ذلك. وذلك كله وصف الخلائق والله يتعالى عن ذلك.
وبعد فإنهُ ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال إنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر فلا يجوزُ صرف تأويل الآية إليها مع ما فيها من ذكر العظمة والجلال إذ ذكر في قوله تعالى {إنَّ ربَّكُمُ اللهُ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ} [سورة يونس/3] فدلَّك على تعظيم العرش أيَّ شئ كان من نورٍ أو جوهرٍ لا يبلغه علم الخلق” اهـ.
فائدة مهمة في تنزيه الله تعالى عن المكان والحد
قال بدر الدين ابن جماعة ما نصه: “عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر” الحديث ورواه أبو سعيد “إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من تائب يتوب”. اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه:
الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة أجسام منتقِل ومنتَقَل عنه ومنتَقَل إليه، وذلك على الله تعالى محال.
الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجدَّدت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله وتنقلات كثيرة لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا، فيلزم انتقاله في السماء الدميا ليلاً ونهارًا من قوم إلى قوم وعوده إلى العرش في كلّ لحظة على قولهم ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لُبّ وتحصيل.
____________________________
الثالث: أن القائل بأنه فوق العرش وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة فيلزم عليه أحد أمرين إما اتساع السماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه أو تضاؤل الذات المقدس حتى تسعه ونحن نقطع بانتفاء الأمرين.
الرابع: إن كان المراد بالنزول استماع الخلق إليه فذلك لم يحصل باتفاق وإن كان المراد به النداء من غير إسماع فلا فائدة فيه ويتعالى الله عن ذلك.
إذا ثبت ذلك فقد ذهب جماعة من السلف إلى السكوت عن المراد بذلك النزول مع قطعهم بأن ما لا يليق بجلاله تعالى غير مراد وتنزيهه عن الحركة والانتقال.
قال الأوزاعي وقد سئل عن ذلك فقال: “يفعل الله ما يشاء” اهـ. وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا، ويقوّيه حديث النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا ينادي يقول: هل من داع يستجاب له” الحديث. وصححه عبد الحق.
وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري شارح كتاب الإرشاد لإمام الحرمين بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيز في الجهة عن الله تعالى ما نصه: “ثم نقول سبيل التوصل إلى دَركِ المعلومات الأدلة دون الأوهام، ورُب أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرِك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مثل العرش في القدر أو دونه أو أكبر منه، وهذا حكمُ كلّ مختص بجهة. ثم نقول الجوهر الفرد لا يتصور في الوهم وهو معقول بالدليل، وكذلك الوقت الواحد والأزل والأبد، وكذلك الروح عند من يقول إنه جسم، ومن أراد تصوير الأرض والسماء مثلاً في نفسه فلا يتصور له إلا بعضها، وكذلك تصوير ما لا نهاية له من معلومات الله تعالى ومقدوراته، فإذا زالت الأوهام عن كثير من الموجودات فكيف يُطلَبُ بها القديم سبحانه الذي لا تشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يُتصور في الوهم فإنه لا يُتصور إلا صورةٌ ولا يُتَقَدَّرُ إلا مُقَدَّرٌ قال الله تعالى {ليسَ كمثلهِ شئٌ} ومن لا مثل له لا يتمثل في الوهم، فمن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته، وقد قيل في قوله تعالى {وأنَّ إلى ربِّكَ المُنتَهى} إليه انتهى فكر من تفكَّر هذا قول أبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن أنعُم، وروى أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم “لا فكرة في الرب” وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ذكر الله تعالى فانتهوا”، وقال: “تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق”.
فإن قيل: كيف يعقل موجود قائم بالنفس ليس بداخل العالم ولا خارج منه؟
قلنا: عرفتم استحالة ذلك ضرورة أم دلالة، وقد أوضحنا معنى مباينته بالنفس وهكذا الجواب عن قولهم خلق الله العالم في نفسه أم مباينًا عنه. قلنا –أي على زعمكم- خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر أو فوق نفسه أو تحته.
ثم نقول: حروف الظروف إنما تستعمل في الأجرام المحدودة وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة وقد أجبنا عن المباينة.
فإن قالوا: كيف يُرى بالأبصار من لا يتحيز ولا يقوم بالمتحيز. قلنا: الرؤية عندنا لا تقتضي جهة ولا مقابلة وإنما تقتضي تعيين المرئي وبهذا عن العلم فإن العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على الجملة تقديرًا، وكذلك لا تقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في معناه.
فإن قيل: ألستم تقولون الإدراك يقتضي نفس المدرَك.
قلنا: لا يقتضي تعينه ولا تحديده.
فإن قالوا: كيف يُدرك وجود الإله سبحانه.
______________________________
قلنا: لا كيفية للأزلي ولا حيث لهُ وكذلك لا كيفية لصفاته، ولا سبيل لنا اليوم إلى الإخبار عن كيفية إدراكه ولا إلى العلم بكيفية إدراكه، وكما أن الأكمه الذي لا يُبصر الألوان إذا سئل عن الميْز بين السواد والبياض والإخبار عن كيفيتهما فلا جواب له، كذلك نعلم أن من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة. فإن قالوا: من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين رؤيته ما يراه، فإذا رأيتم الإله سبحانه كيف تميزون بين المرئيين، قلنا: من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة ومن لا مثل له لا إيضاح له بالمثال، ومن لا أشكالَ لهُ فلا إشكالَ فيه.
ثم نقول لهم: أنتم إذا رأيتم الإله كيف تميزون بينه وبين العرش وهو دونه سبحانه بالرؤية، أتميّزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة، ومن أصلكم أن المرئي شرطُه أن يكون في مقابلة الرائي، وكيف يرى القديم سبحانه نفسَه، وكيف يَرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فلا يَرى على هذا الأصل بطون الأشياء، وهذا خلاف ما عليه المسلمون، وإذا كان العرش دونه فلا يَحجبه عنّا حالةَ الرؤية، قال الأستاذ أبو إسحاق: من رأى الله تعالى فلا يرى معه غيرَه –أي في حال رؤيته للحق- فاندفع السؤال على هذا الجواب” اهـ.
نفي الحد والنهاية عن الله تعالى
اعلم أن القديم سبحانه لا يتناهى في ذاته على معنى نفي الجهة والحد عنه، ولا يتناهى في وجوده على معنى نفي الأولية عنه فإنه أزلي أبدي صمدي، وكذلك صفات ذاته لا تتناهى في ذاتها ووجودها ومتعلقاتها إن كان لها تعلقٌ، ومعنى قولنا: لا تتناهى في الذات قيامها بذات لا نهاية له ولا حدَّ ولا منقطعَ ولا حيث، وقولنا لا تتناهى في الوجود إشارة إلى أزليتها ووجوب بقائها وأنها متعلقة بما لا يتناهى كالمعلومات والمقدوراتِ والمُخبَراتِ” اهـ.
ثم قال: “وأما الجوهر فهو متناه في الوجود والذات لأنه لا يشغل إلا حيزًا له حكم النهاية وهو حادث له مفتتح ويجوز عدمُه. والعرض متناه في الذات من حيث الحكم على معنى أنه لا ينبسط على محلين، ومتناهٍ في الوجودِ على معنى أنه لا يبقى زمانين، ويتناهى في تعلّقه فإنه لا يتعلق بأكثر من واحد.
أما المجسمة فإنهم أثبتوا للقديم سبحانه الحد والنهاية، فمنهم من أثبت له النهاياتِ من ست جهات، ومنهم من أثبتها من جهة واحدة وهي جهة تحت، ومنهم من لا يطلق عليه النهاية. واختلفوا في لفظ المحدود فمنهم من أثبته ومنهم من منعه وأثبت الحد، وقد بيّنّا أن إثبات النهاية من جهة واحدة توجب إثباتها من جميع الجهات ولأن النهاية والانقطاع من الجهة الواحدة تقدح في العظمة بدليل أنه لو لم يتناه لكان أعظم مما كان، فلما تناهى فقد صَغُرَ، ويجب نفي الصغر عنه كما وجب إثبات العظمة له يوضح ما قلناه أنهم قالوا إنما منعنا كونه وسط العالم لأنه يوجب اتصافه بالصغر، فإثبات النهاية من جانب يفضي إلى النهاية من جميع الجوانب، فقد تحقق إذًا نفي النهاية والحد عنه استحالة الاتصال والانفصال والمحاذاة عليه لاستحالة الحجمية والجثة عليه، بل هو عظيم الذات لانتفاء النهايات والصغر عنه لا لجسامةٍ ولا لصورة وشبحٍ.
معنى العظمة والعلى والكبرياء والفوقية
أجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين وتنزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافُهُ بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات والإرادة النافذة في المراداتِ والعلمِ المحيط بجميع المعلومات والجودِ البسيط والرحمةِ الواسعة والنعمة السابغة والسمع والبصر والقول القديم والطّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد” اهـ.
تنبيه: ليحذر من كلمة في أبياتٍ منسوبة للغزالي وليست له وهي هذا الشطر: “وهو في كلّ النواحي لا يزول” فإنها مرادفة لقول المعتزلة “الله بكل مكانٍ”.
قال علي الخواص: “لا يجوز القول إنه تعالى بكل مكان” اهـ فلا يجوز قوله سواء أريد به أنه حال بذاته في
أحدُهما أنه يومُ القيامةِ قاله ابن عباس والحسنُ. وهذا هو مقدارُ يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يُفصَلَ بينَ الخلق وفي الحديث: “إنه ليخفّفُ على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من الصلاةِ المكتوبةِ” رواهُ أحمد.
والثاني: أن مقدارَ صعودِ الملائكةِ من أسفل الأرض إلى العرش، لو صعِدَهُ غيرهم قطعهُ في خمسين ألف سنة وهذا معنى قول مجاهد. وقيل: بل لو وُليَ حسابَ الخلقِ سوى الله لم يفرغْ منه في خمسين ألف سنة والحقُّ –أي الله- يفرغُ منه في ساعة من نهار. وقال عطاءٌ: “يفرغُ الله من حساب الخلقِ في مقادار نصفِ يومٍ من أيام الدنيا”.
____________________
الأماكن كلها أو أريد به عموم علمه وهذه المقالة من كلام المعتزلة كما ذكر الإمام أبو منصور التميمي البغدادي.
ولا عبرة بقول بعض جهلة المتصوفة الذين يكثرون من قولها مستحسنين لها. وكذلك قولهم “الله موجود في كلّ الوجود” وهذه الكلمة نشأت من أهل الحلول الذين يقولون إن الله حالّ في الأشياء. ومنهم من يقول إنه يحلّ في الصور الحسان ولذلك يقولون إذا رأوا إنسانًا جميلاً إن الله جميل ولا يدرون أنّ الجميل إذا أطلق على الله معناه المُجمِلُ أي المُحسِنُ وأنه يستحيل عليه جمال الشكل.
فائدة: قال الإمام أبو منصور البغدادي رحمه الله في كتابه “تفسير الأسماء والصفات”: “وأما أصحابنا فإن شيخنا أبا الحسن الأشعري وأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرًا أو أدته إلى كفر كقول من يزعم أن معبوده صورة أو له حد أو نهاية أو يجوز عليه الحركة أو السكون أو أنه روح ينتقل في الأجساد وأنه يجوز عليه الفناء أو على بعضه أو قال إنه ذو أبعاض وأجزاء كقول المعتزلة بنفي علم الله عز وجل وقدرته وحياته وسمعه وبصره ورؤيته وقولهم بحدوث إرادته وكلامه وإثباتهم خالقين كثيرين غير الله عز وجل لأن نفي علمه وقدرته يوجب إحالة كونه قادرًا عالمًا ولا ينفعهم قولهم إنه عالم إنه قادر لأن نفيهم العلم يسبب نفي العالمية وقولهم نحن لا نقول لله قدرة بل نقول قادر يؤدي إلى نفي كونه قادرًا فهو لازم بيّن. فاللازم البيّن لا محيص عنه. واللازم بيّن مذهب لقائله. وإحالة الرؤية عليه يوجب إبطال وجوده والقول بحدوث كلامه يوجب أن يكون كلامه من جنس كلام الناس وأن يكون الناس قادرين على معارضة القرءان بمثله وذلك يبطل إعجاز القرءان وكونه دليلاً على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم وأن من أثبت خالقًا للخير والشر غير الله عز وجل فهو القدري الذي أخبر الرسول عليه اللام بأنهم مجوس هذه الأمة ونهى عن مناكحته والصلاة عليه وذلك أن قول القدري يضاهي قول المجوس بل يزيد عليه كفرًا لأن المجوس إنما قالت بخالقَين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر وقالت القدرية بخالقِين كثيرين وزعموا أن العباد يقدرون على ما لا يقدر الله عليه وأن الله يريد كون الشئ فلا يكون ويكره كون الشئ فيكون وهذه صفة المقهور العاجز” انتهى بحروفه.
_____________________
وفي الهَلوعِ أقوالٌ منها:
الحريصُ على ما لا يَحِلُّ لهُ.
وقيل: البخيلُ.
وقيل: الضّجور.
وقيل: شديدُ الجزع.
_____________________
بيان أن نكاح المتعة محرم إلى يوم القيامة
قال الله تعالى: {والذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِم حافِظونَ* إلا على أزواجِهِم أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فإنَّهُم غيرُ مَلُومينَ* فمنِ ابتَغَى وراءَ ذلكَ فأولئكَ هُمُ العادُون} [سورة المؤمنون/5-6-7]. فهذه الآية تفيد أن التمتع بها ليست واحدة من المذكورة، وأما أنها ليست بمملوكة فظاهر، وأما أنها ليست بزوجة فلأن الزواج له أحكام كالإرث وغيره وهي منعدمة فيها باتفاق من أهل السنة وغيرهم، فلا ميراث فيها ولا نسب ولا طلاق، والفراق فيها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق، وبهذه الوتيرة أثبت القاضي يحيى بن أكثم كون المتعة بعد تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها زنا. وأما قوله تعالى {وءاتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ} [سورة النساء/25] فمعناه مهورهن أي مهور النساء في الزواج الشرعي الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: “لا نكاح إلا بولي“، فالأجور هنا هي المهور كما ذكر ذلك أهل التفسير. وقال العلامة اللغوي ابن منظور في لسان العرب ما نصه: “وأجر المرأة: مهرها” اهـ. فلا يجوز نكاح المتعة وهو أن يقول: زوَّجتك ابنتي يومًا أو شهرًا لما روى مسلم والبيهقي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي ابن عباس رضي الله عنهما وبلغه أنه يرخص في متعة النساء فقال له علي: “إنك رجل تائه” أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحُمُر الأهلية”. أيضًا لأنه عقد يجوز مطلقًا فلم يصح مؤقتًا كالبيع، ولأنه نكاح لا يتعلق به الطلاق والظهار والإرث وعدة الوفاة فكان باطلاً كسائر الأنكحة الباطلة. قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: {إلا على أزواجِهِم أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فإنَّهُمْ غيرُ مَلُومينَ* فمَنِ ابتغَى ورادَ ذلكَ فأولئكَ هُمُ العادُونَ} [سورة المؤمنون/6-7] ما نصه: “فيه دليل تحريم المتعة” اهـ، وكذا ذكر الرازي في تفسيره. قال النووي الشافعي في روضة الطالبين ما نصه: “النكاح المؤقت باطل سواء قيَّده بمدة مجهولة أو معلومة، وهو نكاح باطل” اهـ. وفي المدونة للإمام مالك أنه سئل: “أرأيت إن قال: أتزوجك شهرًا يبطل النكاح أم يجعل النكاح صحيحًا ويبطل الشرط؟ قال مالك: النكاح باطل يُفسخ، وهذه المتعة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمها” اهـ وقال السرخسي الحنفي في المبسوط ما نصه: “المتعة أن يقول الرجل لامرأته: أتمتع بك كذا من المدة بكذا من البدل، وهذا باطل عندنا” اهـ. وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ما نصه: “معنى نكاح المتعة أن يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهرًا أو سنة أو إلى انقضاء الموسم أو قدوم الحج وشبهه، سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، فهذا نكاح باطل نص عليه أحمد فقال: نكاح المتعة حرام” اهـ فبعد هذه النقول من المذاهب الأربعة ونقل الإجماع على تحريم نكاح المتعة يتبين أن هذا النكاح باطل فاسد. وأما ما يسميه البعض “زواج المتعة” فالجواب: أنه أخرج الإمام مسلم في كتابه الجامع الصحيح “صحيح مسلم” حديثًا صحيح الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يا أيها الناس إني كنتُ قد أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليُخلّ سبيلهنّ، ولا تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئًا“، وكتاب صحيح مسلم مشهور بين العلماء وهو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي بعد كتاب صحيح البخاري فهذان كتابان معتمدان عند المسلمين. فإن ادعى البعض أنه حديث موضوع مختلق ومكذوب فليثبتوا ذلك عبر دراسة سند الحديث إن هم استطاعوا، أم أنه خفي عليهم أن في علم الحديث النبوي إسنادٌ من جرّاء دراسته ينكشف الحديث المكذوب من غيره، فالإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. والدراسة هذه تؤخذ من كتب الجرح والتعديل التي تتكلم عن رجال السند في الحديث، وبمعرفة أحوال الرواة أي رواة الحديث يُعلم صحة الحديث أو عدم صحته، فهل بعد كل هذا يستطيع أحد أن يثبت لنا عن طريق دراسة السند وأحوال الرواة أن حديث تحريم المتعة مكذوب؟ من استطاع فليفعل ولن يستطيع. أما دليل تحريم نكاح المتعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما رواه مسلم في صحيحه كما مر من حديث الربيع بن سَبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ يا أيها الناس إني كنتُ قد أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليُخلّ سبيلهنّ، ولا تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئًا“. وما رواه مسلم أيضًا في
___________________
صحيحه من حديث عمرو الناقد وابن نمير قالا: حدثنا سفيان بن عيينه، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة. وعن الربيع بن سبرة عن أبيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى يوم الفتح عن متعة النساء. قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إن أناسًا أعمى الله قلوبَهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة يُعَرّضُ برجل فناداه فقال: إنك لَجِلْفٌ جافٍ فلَعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله أنه بينما هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي عَمرة الأنصاري: مهلاً، قال: ما هي؟ لقد فُعِلت في عهد إمام المتقين، فقال ابن أبي عمرة: إنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطُر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير ثم أحكم الله الدين ونهى عنها. وروى البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحُمُرِ الأهلية. وروى مسلم أيضًا أن عمر بن عبد العزيز قال: حدثنا الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: “ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئًا فلا يأخذهُ“. وروى ابن ماجه في سننه وغيرُه عن ابن عمر أنه قال: “لما ولي عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثًا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدًا يتمتع وهو مُحصَنٌ إلا رجمتهُ بالحجارة إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلها بعد إذ حرمها”، فلا حجة بعد هذا لمن يقول إن أبا بكر وعمر هما حرما المتعة من تلقاء أنفسهما بل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها إلى يوم القيامة. ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه البيهقي في السنن الكبرى عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال عن نكاح المتعة: “ذلك الزنا”. وأما كون نكاح المتعة قد أُحل فترة قبل فتح مكة فلأن النساء المؤمنات المسلمات كان عددهن قليلاً وكان الجندي المسلم إذا خرج للغزو مسافة بعيدة تشق عليه العزوبة لكن بعد فتح مكة وقد دخل الناس في دين الله أفواجًا فدخل كثير من نساء العرب في دين الله، ثم نزلت بعد ذلك أحكام الإرث والطلاق في القرءان الكريم فلم تدع الحاجة للمتعة فلذا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة إلى يوم القيامة. وزيادة تفصيل ذلك أن متعة النساء اقتضت الحكمة إباحتها في زمن كان أصل إباحة متعة النساء للحرب والضرورة، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يكونون في السفر في بعض أسفارهم للغزوات أي للجهاد في سبيل الله تطول عليهم العزوبة، فأحل الله لهم أن يستمتعوا من النساء تسهيلاً عليهم ورحمة بهم، ثم نزل الوحي السماوي بتحريمها ثم نزل الوحي بإباحتها وذلك في غزوة الفتح ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بعد ثلاثة أيام من دخولها مكة إلى يوم القيامة فكان الوحي الذي حرمها عام الفتح هو ءاخر ما نزل في متعة النساء. ويدل عليه ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حرَّمها “إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة”. وكان من السبب المقتضي لإباحة المتعة قبل ذلك أن كان في النساء المسلمات قلة وإنما كثرت النساء المسلمات بعد فتح مكة وذلك لأن العرب دخلوا في دين الله بعد الفتح أفواجًا فعمَّ الإسلام جزيرة العرب فلم تكن بعد ذلك ضرورة تدعو إلى متعة النساء. فكان السبب الذي أبيح من أجله متعة النساء أمران: أحدهما المشقة التي كانوا يقاسونها في الحرب، وقلة النساء المسلمات، فلما زال السببان لم تقتض المصلحة إباحتها. ثم إن هناك سببًا ءاخر وهو أن الميراث والعدة وأحكام الطلاق لم تكن ترتبت قبل ذلك فلما ترتبت هذه الأحكام بالوحب الذي نزلت به لم يبق داعٍ لضرورة إباحة المتعة. ثم إن سيدنا عليًّا رضي الله عنه ما عمل المتعة قط ولا مرة لا قبل زواجه بفاطمة رضي الله عنها ولا بعد زواجه بها إلى أن توفاه الله تعالى، وكذا الحسن والحسين وعلي زين العابدين رضي الله عنهم ولا يستطيع أحد أن يثبت ذلك على علي أو على أبنائه أنهم عملوا المتعة بعد أن حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك اعتبار الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه المتعة هي الزنا بعينه كما قدمنا. تنبيه: ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس هو من حرمها من قِبَلِ نفسه فلو كان هو فعل ذلك لكان قام عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا يخاف في الله لومة لائم لأن عليًّا لم يكن من الذين يتركون النطق بالحق خوفًا من الناس بل كان جريئًا لقول الحق، كان ردَّ عليه عليٌّ وغيره من الصحابة لكن بما أن عليًّا نفسه يعتقد أن المتعة حرام بعد تحريم الله تعالى ما أنكر على عمر، فعمر رضي الله عنه ما حرم المتعة من تلقاء نفسه إنما أشاع الحرمة التي حرمها رسول الله في حياته عام الفتح، أشاع هذا لأنه
_______________________
الخليفة فقد صادف أن بعض الناس ظلوا يفعلون المتعة في أيام عمر رضي الله عنه فأراد أن يُعلن هذا الأمر الذي خفي على بعض الناس الذين ما سمعوا أن المتعة حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أحلها. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “نعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن” معناه أنا أتمنى أن يكون أبو الحسن وهو علي حاضرًا عندي عند كل مسألة معضلة، فعمر كان يشتهي إذا وقع في الغلط أن ينبهه علي، فلو كان إظهار عمر لحرمة المتعة باطلاً فما الذي ألجم علي بن أبي طالب عن الكلام! وما كان علي زوَّج ابنته لرجل يخالف دين الله تعالى ويحرم ما أحل الله، سبحانك هذا بهتان عظيم.
يومٍ من السنة ومغربه.
____________________
بيان مشروعية التبرك بآثار الصالحين من نصوص العلماء ونُقُولهم
لم يقتصر عمل المسلمين على التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وءاثاره بعد موته، بل كان ديدنهم هو التبرك بقبور الأنبياء والصحابة والتابعين وصلحاء الأمة وءاثارهم، والاستشفاء والاستسقاء بها أيضًا، ومن ذلك:
ما قاله الحافظ ولي الدين العراقي في طرح التثريب (3/303) في حديث أبي هريرة أن موسى عليه السلام قال: “رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر“، فلما جاء أجله قرّبه الله إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، وجعل وفاته بمكان قريب من الأرض المقدسة، والأرض المقدسة تبدأ من الجبال التي بعد أريحا إلى بيت المقدس، وقبر موسى عليه السلام قبل جبل القدس، يوجد هناك بأريحا مقام كبير له أربعة أبواب، باب شرقي وباب غربي وباب شمالي جنوبي بناه المسلمون يأوي إليه الزوار. وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر” وهذا فيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها.
_______________________
وقال الحافظ الضياء: “حدثني سالم التل، قال: ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر” اهـ.
وروى الحاكم في المستدرك (1/377): عن علي بن الحسين عن أبيه أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وءاله وسلم، كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة، فتصلي وتبكي عنده. هذا الحديث رواته عن ءاخرهم ثقات.
وقال الإمام المفسر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (10/47): “وخامسها أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة، وهذا دليلٌ على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وإن تقادمت الأعصار وخفيت ءاثارهم”.
وقال العلامة ابن جزي الكلبي المالكي في القوانين الفقهية (1/96): “ومن المواضع التي ينبغي قصدها تبركًا: قبر إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر، وهما في الحجر، وقبر ءادم عليه السلام في أبي قبيس، والغار المذكور في القرءان وهو في جبل ثور، والغار الذي في جبل حراء حيث ابتداء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيارة قبور من بمكة والمدينة من الصحابة والتابعين والأئمة”.
قال الحافظ النووي: “ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عمر استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنّا كنّا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسل بعم نبينا فاسقنا، فيسقون.
ويستسقى بأهل الصلاح، لما رُوي (في المجموع شرح المهذب للإمام النووي: (5/68) كتاب الصلاة، باب صلاة الاستسقاء، وقال ابن حجر: أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند صحيح، ورواه أبو القاسم اللالكائي في السنة في كرامات الأولياء) أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال: “اللهم إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود. يا يزيد، ارفع يديك إلى الله تعالى”، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابة من المغرب كأنها ترس، وهبّ لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم”.
ولقد استدل الحافظ ابن حجر العسقلاني بحادثة استسقاء عمر بالعباس، (فتح الباري: (2/399) وكذلك ابن حبان فهم هذا فقال (4/228): ذكر ما يستحب للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يستسقي الله بالصالحين رجاء استجابة الدعاء لذلك، وكذلك البغوي في شرح السنة (2/654)) على جواز التبرك والاستشفاع ببعض الأخيار فقال: “ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة”.
وقال الحافظ في موضع ءاخر من الفتح: “وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي أو وطئها، ويستفاد منه أنّ من دعا من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمِنَ الفتنة”.
وفي لفظ ابن الأثير: ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: “هنيئًا لك ساقي الحرمين”، وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه.
قال السمهودي في وفاء الوفا (1/69): “حكى البرهان بن فرحون، عن الإمام العالم أبي محمد عبد السلام بن إبراهيم بن مصال الحاحاني قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهرمزي قال: قال صالح بن عبد الحليم: سمعت عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت ابن بكون عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك، هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، وما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان”.
قال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10/130)، والنووي في روضة الطالبين (1/247) ما نصه: “وكان صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله، وقيل الحارث القرشي الزهري الفقيه العابد، وأبوه سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال أحمد: هو يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره، وقال مرة: هو ثقة من خيار عباد الله الصالحين”.
ونقل ذلك أيضًا السيوطي في طبقات الحفاظ (ص61) فقال: “وذكر –أي صفوان بن سليم- عند أحمد فقال: هذا رجل يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره”.
______________________________
وروى (العلل ومعرفة الرجال، 1/81) عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أحمد بن حنبل قال: “قال ابن عيينة: رجلان صالحان يستسقى بهما ابن عجلان ويزيد بن يزيد بن جابر”.
قال الإمام شمس الدين محمد بن محمد الجزري في عدة الحصن الحصين (ص20)، عند ذكره أماكن إجابة الدعاء: “وعند الحجرات الثلاث، وعند قبور الأنبياء، وجُرِّبت استجابة الدعاء عند قبور الصالحين”.
وروي عن المحب الطبري في عمدة القاري (9/141): “ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان، جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى، فإنه إن لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة، قال: وقد رأيت في بعض تعاليق جدي محمد بن أبي بكر عن الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الصيف، أن بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبّلها، وإذا رأى أجزاء الحديث قبّلها، وإذا رأى قبور الصالحين قبّلها. قال: ولا يبعد هذا، والله أعلم، في كل ما فيه تعظيم الله تعالى”.
قال النووي في الأذكار (ص236): “ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك”.
وقال ابن الأثير في شرح عدة الحصن الحصين (تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للصنعاني ممزوجًا، ص45) عند ذكر أماكن الإجابة: “وورد مجربًا في داخل البيت وعند قبور الأنبياء عليهم السلام، ولا يصح قبر نبي بعينه سوى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم بالإجماع فقط، وقبر إبراهيم عليه السلام داخل السور من غير تعيين، وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين بشروط معروفة”.
وفي الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/515-516) لابن الملقن ما نصه: “أما الدعاء عند قبره فلم يزل السلف والخلف يفعلونه، ويتوسلون إلى الله بالدعاء هناك وبه صلى الله عليه وسلم عند قبره وغيره من البقاع من غير منع” اهـ.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/77): “قلت والدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والأولياء وفي سائر البقاع، لكن سبب الإجابة حضور الداعي وخشوعه وابتهاله، وبلا ريب في البقعة المباركة، وفي المسجد، وفي السحر، ونحو ذلك يتحصل ذلك للداعي كثيرًا، وكل مضطر فدعاؤه مجاب”.
ذكر العيني في عمدة القاري (9/241) عن شيخه زين الدين العراقي شيخ الحفاظ ومقدمهم في عصره أنه قال: “وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك وكذلك تقبيل أيدي الصالحين…، فهو حسنٌ محمودٌ باعتبار القصد والنية”. وذكره الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي في دليل الطالب لنيل المطالب (ص241).
قال الغزالي في إحياء علوم الدين (4/521): “زيارة القبور مستحبةٌ على الجملة للتذكر والاعتبار”.
ذكر الزهاوي في كتابه الفجر الصادق: قال الغزالي: “من يُستمد منه في حياته يُستمد منه بعد مماته”.
وفي كتاب المعيار المعرب (مرقاة المفاتيح، 2/81) والجامع المغرب عن فتاوي علماء إفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الوانشريسي المالكي ما نصه: “وسئل عمن نذر زيارة قبر رجل صالح أو حي فأجاب: يلزمه ما نذر وإن أعمل فيه المطي. وقال ابن عبد البر: كل عبادة أو زيارة أو رباط أو غير ذلك من الطاعة غير الصلاة فيلزمه الإتيان إليه، وحديث: “لا تُعمل المطي” مخصوصٌ بالصلاة، وأما زيارة الأحياء من الإخوان والمشيخة، ونذر ذلك، والرباط ونحوه فلا خلاف في ذلك، والسنة تهدي إليه من زيارة الأخ في الله، والرباط في الأماكن التي يرابط بها، وتوقف بعض الناس في زيارة القبور وءاثار الصالحين، ولا يتوقف في ذلك لأنه من العبادات غير الصلاة، ولأنه من باب الزيارة والتذكير لقوله صلى الله عليه وسلم: “زوروا القبور فإنها تذكركم الموت”، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي حراء وهو بمكة ويأتي قباء وهو بالمدينة، والخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم واقتفاء ءاثاره قولاً وفعلاً لا سيما في ما ظهرت الطاعة فيه”.
وفي المدخل (1/255) لابن الحاج المالكي: “وما زال الناس من العلماء والأكابر كابرًا عن كابر مشرقًا ومغربًا يتبركون بزيارة قبورهم –أي الصالحين- ويجدون بركة ذلك حِسًّا ومعنى”.
_____________________
وفي فتح العلام بشرح مرشد الأنام (2/903-904) للجرداني: “وبالجملة فزيارة الوالدين ينبغي شد الرحال إليها، وكذا زيارة الأنبياء والشهداء والأولياء، فتبين الرحلة لذلك، ثم قال: قال صاحب المشارق: ولا مرية حنيئذ أن تقبيل القبر الشريف لم يكن إلا للتبرك فهو أولى من جواز ذلك لقبور الأولياء عند قصد التبرك، لا سيما وأن قبره الشريف روضة من رياض الجنة” اهـ.
وقال السيوطي في الديباج (1/166) بشرح مسلم بن الحجاج عند حديث “إن الإيمان ليأرز إلى المدينة”: قال القاضي معناه أن الإيمان أولاً وءاخرًا بهذه الصفة لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه في المدينة أتى مهاجرًا متوطنًا وإما متشوقًا إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتعلمًا منه ومتقربًا ثم بعد هذا في زمن الخلفاء كذلك ولأخذ سيرة العدل منهم والاقتداء بجمهور الصحابة ثم من بعدهم من العلماء الذين كانوا سرج الوقت وأئمة المدى لأخذ السنن المنتشرة بها عنهم وكان كل منهم ثابت الإيمان منشرح الصدر به، يرحل إليها ثم بعد ذلك في كل وقت وإلى زماننا لزيارة قبره الشريف، والتبرك بآثاره، ومشاهده، وءاثار الصحابة” اهـ.
قال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي في غاية المنتهى (1/259-260) ما نصه: “ولا بأس بلمس قبر بيد لا سيما من تُرجى بركته”.
وقال أبو العباس الناصري في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (3/122-123): “قلت مسألة زيارة قبور الأنبياء والأولياء مشهورة في كتب الأئمة، وهي من القرب المرغوب فيها عند الجمهور، وشدد تقي الدين بن تيمية على منعها والعياذ بالله تعالى محتجًا بزعمه بقوله عليه الصلاة والسلام: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى“، وهو عند الجمهور مؤول بأن المعنى لا تشد الرحال لصلاة في مسجد إلا في ثلاثة مساجد، وقد بسط القول في هذا صاحب المواهب اللدنية، والقول الفصل أن التبرك بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم، من الأمر المعروف عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم المجمع عليه خلفًا وسلفًا لا يسع إنكاره، غير أن للزيارة ءادابًا تجب المحافظة عليها وشروطًا لا بد من مراعاتها والوقوف لديها”.
وفي كتاب التبرك بالصالحين وءاثارهم (ص60): “التبرك بالماء: النوع الآخر من أنواع التبرك وهو التوسل بما يتساقط من ماء وضوء الصالحين، أو بما يغسلون به بعض أطرافهم، أو بما يرقون ويكتبون عليه من رسائل، أو بما ينفثون عليه من مشروب أو ممسوح تأسيًا منهم في ذلك بما كان يفعله الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي كتاب حسن التوسل في ءاداب زيارة أفضل الرسل للشيخ عبد القادر الفاكهي: “وينبغي أيضًا زيارة الشهداء والصالحين بوادي بدر وغيره مع الدعاء لهم والتوسل بهم لتعود بركاتهم عليه في سفره، فيأمن وعثاءه، وينال بغية وطره”.
وقال الحافظ ولي الدين العراقي في فتاويه (ق/105) مخطوط: “مسألة: سئلت عمن يزور الصالحين من الموتى فيقول عند قبر الواحد منهم: يا سيدي فلان أنا مستجير أو متوسل بك أن يحصل لي كذا وكذا (…)، أو يقول: يا رب أسألك بمنزلة هذا الرجل أو بسره أو بعمله أن يفعل لي كذا وكذا، هل هذه العبارات حسنة أو غير حسنة أو بعضها قبيح؟ وما كانت السلف تقول عند زيارة قبور الصالحين؟ وهل إذا قال الشخص عند قبر الصالح: يا سيدي متى حصل لي كذا وكذا أجئ إليك بكذا وكذا، هل يلزم الوفاءء به أو لا؟
_____________________
فأجبت: زيارة الرجال للقبور مندوب إليها، فقبور الصالحين ءاكد في الاستحباب وينبغي الدعاء عندها لأن لتلك البقع فضلاً وشرفًا بوجود ذلك الصالح فيها، والدعاء في البقاع الشريفة أقرب إلى الإجابة، وقد اشتهر عند أهل بغداد إجابة الدعاء عند قبر معروف الكرخي وأنه الترياق المجرب، واشتهر ذلك في قبور كثير من الصالحين، وأيضًا فإن الداعي عقب عبادة وهو زيارته ذلك القبر، وعقب قراءة إن كان قد قرأ شيئًا من القرءان كما هو الغالب وذلك أقرب إلى الإجابة، ولا امتناع في التوسل بالصحالين، فإنه ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولصلحاء أمته حظ مما لم يعد من خصائصه (سقط من المخطوطة) أمته لمن شاء منهم، وهي بركة نمت عليهم، وقد توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، ولا يمنع من ذلك موت ذلك الصالح لأن الموت إنما طرأ على الجسد وأما الروح فحية، وقد ورد ما يدل على اتصالها به في بعض الأحيان كيف يشاؤه الله.
إلى أن قال: وقوله: متى حصل لي كذا أجئ إليك بكذا إن لم يقترن به لفظ التزام ولا نذر لم يلزم به شئ، وإن اقترن بذلك فإن أراد التصدق على الفقراء المجاورين من (سقط من المخطوطة) أو عمارة مشهد حيث احتيج لذلك لزم الوفاء به، وإن أراد تمليكه لنفس الميت فهو لاغ لا يجب له شئ والله أعلم” اهـ.
وفي فتاوى شمس الدين الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/382): “سئل عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يرجع ذلك؟
فأجاب: الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم، لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون كما وردت به الأخبار، وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم.
فيُعلم مما مرّ أن مصيبة هؤلاء المكفرين للمتوسلين والمستغيثين بالأنبياء والأولياء، بعد موتهم وفي حياتهم وفي غير حضورهم، سوء فهمهم للآيات والأحاديث التي يستدلون بها على ذلك، ظنوا أن معنى العبادة هو النداء والاستعانة والخوف والرجاء والاستغاثة، فهذه في ظنهم هي العبادة التي من صرفها لغير الله يكون مشركًا، وكذلك ظنوا أن من طلب من غير الله ما لم تجر به العادة صار مشركًا.
كيف ساغ لهم ذلك وقد ثبت أن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال: “أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد” الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (3/482) وحسنه الحافظ ابن حجر، والدليل فيه أن الرسول لم يقل للحارث أشركت لقولك “ورسوله” حيث استعذت بي، وقد جمع الحارث الاستعاذة بالرسول مع الاستعاذة بالله وذلك لأن الله هو المستعاذ الحقيقي وأما الرسول فمستعاذ به على معنى أنه سبب.
وثبت أيضًا (في كشف الأستار (4/34)، شعب الإيمان (1/445)، مجمع الزوائد (10/132)) أن ابن عباس روى عن النبي أنه قال: “إنّ لله ملائكة سوى الحفظة سياحين يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلينادِ: أعينوا عباد الله“، حسنه الحافظ ابن حجر في الأمالي مرفوعًا، وقال الحافظ الهيثمي: ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في الشعب موقوفًا.
وروى البيهقي أيضًا في الشعب (6/128) أن الإمام أحمد قال: “حججت خمس حجج اثنتين راكبًا وثلاثًا ماشيًا، أو ثلاثًا راكبًا واثنتين ماشيًا، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيًا فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، قال: فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق، فهل يقول منصف ذو لُبّ أن فعل الإمام أحمد هذا ظاهرة شركية لأنه طلب من غير الله تعالى!.
________________________
فلما ساء فهمهم جعلوا هذه الأشياء عبادة لغير الله لمجرد ألفاظها، فكفّروا المسلمين من أجل أمرٍ اتفق السلف والخلف على جوازه، وذلك دليلٌ على أنهم لم يفهموا معنى العبادة الواردة في القرءان على حسب مفهوم اللغة العربية، وقد بيّنها علماء اللغة بيانًا لا يبقى معه لَبس، وقد مرّ تعريفهم للعبادة بأنها غاية التذلل، وكيف حكموا بأن ما لم تجر به العادة شرك، وجعلوا ذلك قاعدة، وقد طلب بعض الصحابة وهو ربيعة بن كعب الأسلمي من رسول الله أن يكون رفيقه في الجنة، فلم ينكر عليه بل قال له من باب التواضع: “أو غير ذلك“، فقال الصحابي: هو ذاك، فقال له: “فأعنّي عن نفسك بكثرة السجود“، رواه مسلم (في صحيحه: كتاب الصلاة: باب فضل السجود والحث عليه).
وقد صحح ابن حبان والحاكم والحافظ الهيثمي (أخرجه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان (2/53)، والحاكم في المستدرك (2/571-572)، وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (10/170-171) وقال: “رواه الطبراني، ورواه أبو يعلى ورجال أبي يعلى رجال الصحيح”) أن امرأة من بني اسرائيل سألت موسى أن يعطيها حكمها فقال: ما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها.
قال بعضهم: ومن الآيات القرءانية الدالة على الطلب من المخلوق ما لم تجر به العادة إذا كان في مقام الكرامة للأولياء، قوله تعالى عن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام: {قالَ يا أيُّها المَلؤاْ أيُّكُمْ يأتيني بِعَرْشِها قبلَ أن يأتُوني مُسلِمينَ} [سورة النمل/38] فطلب من الملأ وهم الجن والإنس وفيهم مردة الشياطين، فأتى به الذي عنده علم من الكتاب ولم يتخلخل، وقد أجمع أهل العلم أن هذا نوع من الكرامة، والله تعالى ذكره في كتابه العزيز في مقام أظهر فيه فضل ذلك الرجل الصالح، ولم يعتب على سليمان ولم يقل له لِمَ دعوت غيري وأنا أقرب إليك من حبل الوريد (أي أن الله عالم بحال نبي الله سليمان عليه السلام)، وذلك لأن النبي سليمان عليه الصلاة والسلام يعلم أن ذلك من التماس الأسباب، وهو من المشروع الذي أمر الله تعالى به، وكذلك الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من شهداء وصلحاء أمته إنما هو نوع من الكرامة والمسبب والفاعل الحقيقي في ذلك هو الله تعالى، وكرامات الأولياء داخلةٌ في معجزات الأنبياء وذلك بسبب متابعتهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وإنما يكون شركًا طلب ما انفرد به الله تعالى، كطلب خلق شئ أي إحداثه من العدم، وطلب مغفرة الذنوب، قال تعالى: {هلْ مِنْ خالقٍ غيرُ الله} [سورة فاطر/3]، وقال {ومَنْ يغفرُ الذنوبَ إلا اللهُ} [سورة ءال عمران/135]. وقد قال جبريل لمريم: {لِأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكيًّا} [سورة مريم/19] فواهب الغلام الذي هو عيسى لمريم في الحقيقة هو الله، ولكن الله جعل جبريل سببًا، فأضاف جبريل هذه الهبة إلى نفسه. وقصة جبريل هذه يعلم منها عظم شطط هؤلاء في تكفير المتوسلين والمستغيثين لمجرد قول أحدهم: يا رسول الله ضاقت حيلتي أغثني يا رسول الله، وما شابه ذلك من العبارات التي يطلقونها ولا يعنون بها أن رسول الله يخلق أو أنه يستحق العبادة التي هي غاية التذلل، بل يعنون أنه سبب لنيل المقصود والبركة من الله، ولا يفهمون من الواسطة إلا معنى السببية، وإن أطلق بعضهم في ذلك لفظ الواسطة فهذا ما يعنونه. وقد أجرى الله العادة بربط المسبَّبات بالأسباب، فالله تبارك وتعالى كان قادرًا على أن يعطي مريم ذلك الغلام الزكي من دون أن يكون لجبريل سببية في ذلك.
فكيف يسوغ تكفير المسلم لمجرد أنه قال: إن النبي والولي واسطة بمعنى السبب، إنما الشرك هو إثبات الواسطة بمعنى أن شيئًا يعين الله أو أن الله سبحانه لا يستطيع أن يحصّل ذاك الشئ استقلالاً إلا بواسطة النبي أو الولي، فهذا هو الشرك لو كانوا يفهمون.
ومن التبرك بالصالحين الدفن في المواضع الفاضلة.
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني (2/193) والكافي (1/268): “ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم وكذلك في البقاع الشريفة، وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهم أن موسى عليه
________________________
السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر قال النبي صلى الله عليه وسلم “فلو كنت ثَم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر“.
ذكر الأخبار في تبرك الأمةِ سلفًا وخلفًا بآثار الصالحين
أولاً: من قبور الصحابة رضوان الله عليهم:
وفي نفس الصحيفة ينقل عن استيعاب الحافظ ابن عبد البر، في ترجمة الصحابي الشهير بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه عن ولده عبد الله قال: “مات والدي بمرو وقبره بالحصين، وهو قائد أهل المشرق ونورهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيما رجل مات من أصحابي ببلده فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة“.
_________________________
بن الصامت، قيل: مات بدمشق، وقيل بالرملة. النمر بن السعدي، عويمر أبو الدرداء، فضالة بن عبيد.
فيستحب لمن زار مقبرة دمشق أن يقصد زيارة هؤلاء ويسلم عليهم”.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/121) في ترجمة عمر بن عبد العزيز: “قبره بدير سمعان يزار”.
ولو رحت أتتبع قبور الصحابة من مظانها لاجتمع لدينا الكثير الكثير لكن فيما ذكرنا كفاية لذوي الألباب.
ثانيًا: في التبرك بقبور أهل الصلاح منَ السلف ومن بعدهم:
________________________
قال المؤرخ القاضي ابن خلكان في “وفيات الأعيان” (5/424): “وهو مجرب”.
_______________________
الخلال يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب”.
ومثله ذكر ابن الجوزي في كتاب المنتظم بإسناده عن الحسن بن الحسين الاستراباذي عن أحمد القطيعي.
_________________________
وتوفي بقسطنطينية، ودفن عند مسجده، وقبره يزار يتبرك به”.
_____________________________
ثم ساق بسنده إلى أبي طاهر بن أبي بكر قال: حكى لي والدي عن رجل كان يختلف إلى أبي بكر بن مالك أنه قيل له: أي تحب أن تدفن إذا مت؟ فقال: بالقطيعة، وأن عبد الله بن أحمد بن حنبل مدفون بالقطيعة، وقيل له يعني لعبد الله في ذلك، قال: وأظنه كان أوصى بأن يدفن هناك، وقال: قد صح عندي أن بالقطيعة نبيًا مدفونًا، ولأن أكون في جوار نبي أحب إلي من أكون في جوار أبي، ومقبرة باب حرب خارج المدينة وراء الخندق مما يلي طريق قطربل، معروفةٌ بأهل الصلاح والخير، وفيها قبر أحمد بن محمد بن حنبل وبشر بن الحارث”.
ثم ساق بسنده إلى أبي يوسف بن بختان وكان من خيار المسلمين قال: لما مات أحمد بن حنبل رأى رجل في منامه كأنَّ على كل قبر قنديلاً، فقال: ما هذا؟ فقيل له: أما علمت أنه نور لأهل القبور –نورت- قبورهم بنزول هذا الرجل بين أظهرهم؟! قد كان فيهم من يعذب فرحم”.
وبسنده إلى أحمد بن الدورقي يقول: مات جار لي، فرأيته في الليل وعليه حلتين، قد كسي، فقلت إيش قصتك؟ ما هذا؟ قال: دفن في مقبرتنا بشر بن الحارث، فكسي أهل المقبرة حلتين حلتين”.
ثم ذكر قبور عدد من كبار السلف وأهل الصلاح –إلى أن قال: – “ومقبرة باب البردان فيها أيضًا جماعة من أهل الفضل وعند المصلى المرسوم بصلاة العيد، كان قبره يعرف بقبر النذور، ويقال إن المدفون فيه رجل من ورد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يتبرك الناس بزيارته ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته. حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني أبي قال: كنت جالسًا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام، نريد الخروج معه إلى همذان في أول يوم نزل المعسكر فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور، فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل قبر لعلمي بطيرته من دون هذا، واستحسن اللفظة وقال: قد علمت أنه قبر النذور، وإنما أردت شرح أمره، فقلت: هذا يقال إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويقال إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وأن بعض الخلفاء أراد قتله خفيًا، فجعلت له هناك زبية وستر عليها، وهو لا يعلم فوقع فيها وهيل عليه التراب حيًّا، وإنما شهر بقبر النذور، لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح وبلغ الناذر ما يريد ولزمه الوفاء بالنذور، وأنا أحد من نذر له مرارًا لا أحصيها كثرة نذورًا على أمور متعذرة، فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به، فلم يتقبل هذا القول، وتكلم بما دل أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقًا، فيتسوق العوام بأضعافه ويسيرون الأحاديث الباطلة فيه، فأمسكت، فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غدوة يوم، وقال: اركب معي إلى مشهد النذور، فركبت وركب في نفر من حاشيته، إلى أن جئت به إلى الموضع، فدخله وزار القبر وصلى عنده ركعتين، سجد بعدهما سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمته، وأقمنا أيامًا، ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان، فبلغناها وأقمنا فيها معه شهورًا، فلما كان بعد ذلك استدعاني، وقال لي: ألست تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى، فقال: إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادًا لإحسان عشرتك، والذي كان في نفسي في الحقيقة أن جميع ما يقال فيه كذب، فلما كان بعد ذلك بمديدة طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم، وأعملت فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهبًا، فذكرت ما أخبرتني به في النذر لمقبرة النذور، فقلت: لم لا أجرب ذلك، فنذرت إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة ءالاف ردهم صِحاحًا، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف يعني كاتبه أن يكتب إلى أبي الريان، وكان خليفته ببغداد، يحملها إلى المشهد، ثم التفت إلى عبد العزيز –وكان حاضرًا- فقال له عبد العزيز: قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب”.
__________________________
وعن العارف تقي الدين أبي المكارم عبد السلام بن سلطان: “وقبره يزار بقليب ويتبرك به”، (وذكر أنه أخذ الطريق عن الشيخ أحمد بن أبي الحسن الرفاعي).
وتجد ذلك كثيرًا في كتب التاريخ والسير والتراجم ومنها:
______________________________
وغيرها الكثير الكثير مما لو أردنا حصره وعده لتجاوز عدد حروف هذا الكتاب، ولا أبالغ!!! ومن ذا الذي يحصى نجوم السماء؟!!
وإنما ذكرنا من ذكرنا شواهدَ فيها الخبر اليقين على صدق ما بيَّنا، وكذب من يدعي خلاف ما عليه الأمة، ومع ذلك فإن تلك القبور والمشاهد والمقامات والمزارات لا تعبد من دون الله، وإنما تزار طلبًا للبركة، أي لحصول الخير وإجابة الدعاء عندها، وكم فُرّجت بسببها كربات، وحصلت بسرها خيرات وكرامات والحمد لله.
وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحريًا للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنةٌ مسنونةٌ.