الأحد ديسمبر 7, 2025

سورة المجادلة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{قدْ (1) سمِعَ اللهُ}[المجادلة/١] أي سمع الله بسمع أزلي أبدي لا كسمعنا ليس بأذن ولا صماخ {قولَ} أي كلام المرأة وهي خولة بنت ثعلبة التي {تُجادلُكَ}[المجادلة/١] أي تحاورك وتراجعك {في زوجها}[المجادلة/١] أي في شأن زوجها وهو أوس بن الصامت المظاهر منها وكان قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها: “حَرُمْتِ عليه” قالت: والله ما ذكر طلاقًا {وتشْتكي إلى الله}[المجادلة/١] أي تتضرع إليه وكانت تشكو إلى رسول الله وحدَتَها –فليس لها أهل سواه أي زوجها- وفاقَتَها وصبيةً صغارًا إن ضمتهم إليه ضاعوا أي من عدم المتعهد بالخدمة وإن ضمتهم إليها جاعوا أي من عدم النفقة لفقرها وقف حمزة بالتحقيق مع السكت وعدمه وبالنقل وبالإدغام {واللهُ يسمعُ تحاوُرَكُما}[المجادلة/١] أي تراجعكما والمحاورة المراجعة في الكلام إنَّ اللهَ سميع أي لما يتحاورانه وغير ذلك من كلام خلقه بصيرٌ بما يعملون وبعمل جميع عباده.

 

___________

  • أدغم الدال في السين أبو عمرو البصري وهشام عن ابن عامر الشامي وحمزة والكسائي وخَلف العاشر.

 

 

وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه ابن ماجه في سننه وغيره (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: “تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليَّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرتُ له بطني حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك. فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات قدْ سمِعَ اللهُ قولَ التي تُجادِلُكَ في زوجِها وتشتَكي إلى اللهِ”.

وأخرج أحمد في مسنده (2) عن خولة بنت ثعلبة قالت: والله فيَّ وفي أوس ابن صامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي قالت: فقلت كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم الله ورسولُه فينا بحكمه قالت: فواثبني وامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عن قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها ثم جئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه

_________

  • أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب في الظهار وابن ماجه في سننه: المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية وكتاب الطلاق: باب الظهار والنسائي في سننه: كتاب الطلاق: باب الظهار وأحمد في مسنده (6/46) والحاكم في المستدرك (2/481).
  • مسند أحمد (6/410-411).

 

 

فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلُقه قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه” قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرءان فتغشَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي: “يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك” ثم قرأ عليَّ {قَدْ سمِعَ اللهُ قولَ التي تُجادِلُكَ في زوجِها وتَشْتَكي إلى اللهِ واللهُ يسمَعُ تَحَاوُرَكُما إنَّ اللهَ سميع بصير} إلى قوله {وللكافِرينَ عذابٌ مُّهينٌ}[المجادلة/٥] فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مُريه فليعتق رقبة” قالت: فقلت والله يا رسول الله ما عنده ما يعتق قال: “فليصم شهرين متتابعين” قالت: فقلت والله يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: “ليطعم ستين مسكينًا وسْقًا من تمر” قالت: قلت والله يا رسول الله ما ذاك عنده قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإنَّا سنعينه بعَرَق (1) من تمر” قالت: فقلت وأنا يا رسول الله سأعينه بعَرَق ءاخر قال: “قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي عنه ثم استوصي بابن عمك خيرًا” قالت: ففعلت”.

واستدلَّ المفسر القرطبي (2) من هذا الحديث على أن الغضب لا يسقط حكمًا فقال في تفسيره: “من غضب وظاهر من امرأته أو طلَّق لم يُسقط عنه غضبُه حكمَه” اهـ.

___________

  • العرَق هو المكتل وهو شبه السلة المطبقة يوضع فيها الطعام أو الخبز يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا والصاع أربعة أمداد. قال في القاموس: المكتل كمنبر هو شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا. (من كتاب الفتح الرباني للساعاتي 17/22).
  • الجامع لأحكام القرءان (17/277).

 

 

 

{الذينَ يُظاهِرُونَ (1)}[المجادلة/٣] يعني به الظهار وهو قول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي والظهار في الجاهلية كان يعتبر طلاق الرجل لامرأته مِنكُم توبيخ وتهجين لعادة العرب في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم {مِنكُم مِّن نِّسائِهِم}[المجادلة/٢] أي يحرمون نساءهم على أنفسهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم فيقولون لهنَّ: أنتنَّ علينا كظهور أمهاتنا {مَّا هُنَّ(١) أمَّهاتهم}[المجادلة/٢] ثم أكَّد ذلك بقوله {إنْ أمَّهاتُهُم}[المجادلة/٢] أي ما أمهاتهم {إلا}[المجادلة/٢]

 

__________

  • قرأ نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري من السبعة ووافقهم يعقوب (يَظَّهَّرون) في هذه الآية والتي تليها بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين من غير ألف بعد الظاء. وقرأ عاصم (يُظَاهِرُون) بضم الياء وتخفيف الظاء ممدودة وكسر الهاء مخففة. وقرأ الباقون بفتح الياء وتشديد الظاء ممدودة وفتح الهاء مخففة (يَظَّاهَرُونَ).
  • ووقف حمزة بالتحقيق وبالتسهيل بين بين. لهمزة أمهاتهم ووقف يعقوب على {هُنَّ} بهاء السكت بخلف عنه.

 

 

 

 

 

 

 

أي الوالدات {الائي (1) وَلَدْنَهُمْ}[المجادلة/٢] فلا تُشَبَّهُ غيرُهن بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وإنَّهُمْ يعني المظاهرين {لَيَقُولُونَ مُنكرًا مِّنَ القولِ}[المجادلة/٢] أي قالوا قولاً فظيعًا لا يعرف في الشرع وذلك لأنهم شبَّهوا الزوجات بالأمهات والأمهاتُ محرمات على التأبيد بخلاف الزوجات {وَزُورًا}[المجادلة/٢] أي كذبًا محرَّفًا عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم {وإنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ}[المجادلة/٢] أي لذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها وأنابوا {غَفورٌ}[المجادلة/٢] أي يغفر لهم ولا يعاقبهم عليها بعد التوبة وقد جعل الله الكفارة عليهم مخلِّصة لهم من هذا القول المنكر.

ولما بيَّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أن قول الظهار الذي كان يصدر منهم هو قول منكر وزور بيَّن في الآية الثانية التي تليها حكم الظهار فقال عزَّ وجلَّ:

{والذينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسائِهِم}[المجادلة/٣] أي الذين يقولون لنسائهم أنتنَّ علينا كظهور أمهاتنا وتفصيل القراءة في يظاهرون كما مر في الآية السابقة

 

_________

  • حذف الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو جعفر والباقون بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة. وقد اختلف الحاذفون في الهمزة فقالون وقنبل ويعقوب يحققونها أما ورش فيسهلها بين بين كذلك أبو جعفر. وأما أبو عمرو والبزي فبالتسهيل والإبدال ياء ساكنة مع المد المشبع.

 

 

 

{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا}[المجادلة/٣] اختلف أهل العلم في بيان معنى “العود” في هذه الآية فقال الشافعي إن معنى العود لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلقها فإذا وجد هذا الإمساك استقرت عليه الكفارة وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد تحريمها عليه فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذلك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة.

وقال أبو حنيفة في تفسير “العود”: إنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة ذلك كان مناقضًا لقوله: أنت عليَّ كظهر أمي.

وقال مالك: إن العود عبارة عن العزم على وطئها وهو قريب من قول أبي حنيفة فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة.

وقال الثوري وغيره: العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتجب الكفارة به والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام على خلاف حكمه عندهم فمعنى{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا} أي في الإسلام فيقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولون في الجاهلية فكفارته كذا وكذا.

{فتحريرُ رَقَبَةٍ (1)}[المجادلة/٣] أي فعليهم أو فكفارتهم عتق رقبة مؤمنة سليمة عند مالك والشافعي كالرقبة في كفارة القتل وتجزئ الكافرة عند أبي حنيفة.

_________

  • قرأ أبو عمرو بالإدغام الكبير فتحرير رقبة.

 

 

 

{مِن قَبلِ أن يَتَماسَّا}[المجادلة/٣] أي يجامعها وهو أحد قولي الشافعي فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير والقول الثاني للشافعي إنه يحرم جميع جهات الاستمتاع {ذلِكَم تُوعَظُونَ بهِ}[المجادلة/٣] يعني أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه فإن الغرامات مزاجرُ عن تعاطي الجنايات والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب {واللهُ بِما تعمَلُونَ خَبيرٌ}[المجادلة/٣] أي والله بأعمالكم التي تعملونها أيها الناس عالم لا يخفى عليه شيء وهو مجازيكُم عليها فانتهوا عن قول المنكر والزور.

{فمَن لَّمْ يَجِدْ}[المجادلة/٤] يعني منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يعتقها {فصيامُ}[المجادلة/٤] أي فعليه صيام {شهْرَينِ مُتَتابِعَينِ مِن قَبلِ أن يَتَماسَّا}[المجادلة/٤] والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطارٍ في نهار شيء منهما وقال أبو حيان (1): “الشهران بالأهلة وإن جاء أحدهما ناقصًا أو بالعدد لا بالأهلة فيصوم إلى الهلال ثم شهرًا بالهلال ثم يتم الأول بالعدد والظاهر وجوب التتابع فإن أفطر بغير عذر استأنف أو بعذر من سفر ونحوه فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه يبني” اهـ وقال ءاخرون يستأنف ولو أفطر بعذر {فَمَن لَّمْ يسْتَطِع}[المجادلة/٤] يعني الصيام لهرم أو

_________

  • تفسير البحر المحيط (8/235).

 

 

 

 

 

مرض مزمن {فإطعامُ سِتينَ مسكينًا}[المجادلة/٤] أي لكل واحد منهم مدًّا واحدًا وهو مذهب الشافعي وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يعطي مدَّين لكل مسكين بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ذلكَ أي ذلك الذي وصف الله من التغليظ في الكفارة {لِتُؤمِنُوا باللهِ ورسولِهِ}[المجادلة/٤] أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله تعالى {وتِلكَ حُدُودُ اللهِ}[المجادلة/٤] يعني ما وصف من الكفارة في الظهار وغيرها من الأحكام هي الحدود التي حدّها الله لكم فلا تتعدّوها {وللكافرينَ}[المجادلة/٤] أي الجاحدين المكذبين لهذه الحدود وغيرها من فرائض الله أن تكون من عند الله {عذابٌ أليمٌ}[المجادلة/٤] أي مؤلم في جهنم يوم القيامة.

{إنَّ الذينَ يُحادُّونَ}[المجادلة/٥] أي يعادون ويشاقون ويخالفون {اللهَ ورسولَهُ كُبِتُوا}[المجادلة/٥] أي أخزوا وذلوا وهلكوا ولعنوا {كما كُبِتَ الذينَ مِن قبلِهِم}[المجادلة/٥] أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك {وقدْ أنْزَلْنا ءايات بيِّناتٍ}[المجادلة/٥] تدل على صدق الرسول وما جاء به {وللكافرينَ}[المجادلة/٥] يعني الذين يحادون الله ورسوله {عذابٌ مُّهينٌ}[المجادلة/٥] أي يهينهم ويذلهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

{يومَ يبْعثُهُمُ اللهُ جميعًا}[المجادلة/٦] أي كلهم يخرجهم من قبورهم لا يستثني منهم أحدًا {فَيُنَبِّئُهُم (1)}[المجادلة/٦] أي يخبرهم {بِما عَمِلُوا}[المجادلة/٦] يعني في الدنيا ويكون ذلك على رءوس الأشهاد تشهيرًا لحالهم وتوبيخًا لهم {أحصاهُ (2) اللهُ}[المجادلة/٦] عليهم في صحائف أعمالهم بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه {وَنَسُوهُ}[المجاداة/٦] أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا ولكن الله يذكرهم بها في صحائفهم ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم {واللهُ على كلِّ شيءٍ (3) شهيدٌ}[المجادلة/٦] أي مطلع وعالم لا يخفى عليه شيء.

 

{ألمْ ترَ}[المجادلة/٧] أي ألم تعلم يا محمّد {أنَّ اللهَ يعلمُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ}[المجادلة/٧] لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم. ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه يعلم ما يكتمونه الناس من أحاديثهم فيتحدثونه سرًّا بينهم فقال عز وجلَّ {ما يكُونُ (4) مِن نَّجْوى ثلاثَةٍ}[المجادلة/٧] والنجوى السرار قاله ابن قتيبة. وقال ابن عيسى إن كل سرار نجوى.

__________

  • ووقف حمزة بالتسهيل للهمزة وبإبدالها ياء خالصة.
  • أمال (أحصاه) حمزة والكسائي وخلف وقلله الأزرق بخلفه.
  • ووقف حمزة وهشام بخلْف عنه بالنقل (شيْ) وبالإدغام بعد قلب همزة شيء ياءً (شيٍّ).
  • وقرأ أبو جعفر “ما تكون” بالتاء بدل الياء.

 

 

 

 

وحكى سراقة أن السرار ما كان بين اثنين والنجوى ما كان بين ثلاثة والمعنى ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئًا ويتناجون به {إلا هُوَ رابِعُهُم}[المجادلة/٧] أي بالعلم يسمع سرَّهم ونجواهم لا يخفى عليه شيء من أسرارهم {ولا خَمسَةٍ}[المجدلة/٧] أي لا يكون من نجوى خمسة {إلا هُوَ سادِسُهُمْ}[المجادلة/٧] والمعنى أن سمع الله محيط بكل كلام {ولا أدْنَى من ذلكَ أي ولا أقل}[المجادلة/٧] من ثلاثة {ولا أكثرَ (1)}[المجادلة/٧] أي من خمسة {إلا هُوَ مَعَهُمْ}[المجادلة/٧] المراد هنا بعلمه {أينَ ما كانُوا}[المجادلة/٧] يعني في أي موضع ومكان كانوا هو عالم بهم من غير زوال ولا انتقال {ثمَّ يُنَبِّئُهُم}[المجادلة/٧] أي يخبرهم {بِما عمِلُوا}[المجادلة/٧] أي في الدنيا من حسن وسيّء{يومَ القيامة إنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ}[المجادلة/٧].

{ألَمْ ترَ إلى الذينَ نُهُوا عنِ النَّجْوَى}[المجادلة/٨] هذه الآية نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوؤهم فيحزن المؤمنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم فلما طال

___________

  • وقرأ يعقوب فقط “أكثرُ” بضم الراء في أكثر.

 

 

 

 

 

على المؤمنين ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فأنزل الله {ألَمْ ترَ إلى الذينَ نُهُوا عَنِ النَّجوَى}[المجادلة/٨] أي المناجاة فيما بينهم {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عنهُ}[المجادلة/٨] أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها {ويَتَناجَونَ (1) بالإثمِ والعُدْوانِ}[المجادلة/٨] يعني ذلك السر الذي كان بينهم لأنه إمّا مكر أو كيد بالمسلمين أي شيء يسوؤهم ولكلاهما إثم وعدوان {وَمَعْصِيَتِ (2) الرسولِ}[المجادلة/٨] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها وقال ءاخرون معناه يوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول {وإذا جاءُوكَ}[المجادلة/٨] يعني اليهود إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم {حَيَّوْكَ}[المجادلة/٨] أي خاطبوك وسلموا عليك {بِما لَمْ يُحيِّكَ بهِ اللهُ}[المجادلة/٨] أي بغير التحية التي جعلها الله لك تحية والمعنى أن اليهود كانوا يأتون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليك يريدون السلام ظاهرًا وهم يعنون الموت باطنًا لأن السام هو الموت على زعمهم يوهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنم يسلمون عليه فكان الرسول يرد عليه فيقول: “وعليكم”.

أخرج البخاري في صحيحه (3) عن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك ففهمتُها فقلتُ: وعليكم السام واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مهلا يا

___________

  • وقرأ حمزة ورويس دون غيرهما ويَنْتَجُونَ ووافقهما الأعمش.
  • في الموضعين من السورة رسمتا بالتاء لكن يقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بالهاء “معصيه” وأمالهما الكسائي وقفًا.
  • أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الاستئذان: باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام.

 

عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله” فقلتُ: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فقد قلتُ: وعليكم”.

وأخرج الإمام أحمد (1) والبزار (2) عن عبد الله بن عمرو أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية {وإذا جاءُوكَ حيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بهِ اللهُ} إلى آخر الآية.

{ويقُولونَ في أنفسهم}[المجادلة/٨] أي يقول بعضهم لبعض إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقول الواحد منهم في نفسه {لولا يُعذِّبُنا اللهُ بِما نقولُ}[المجادلة/٨] أي قالوا: لو كان محمّد نبيًّا لعذبنا الله بما نقول فهلَّا يعذبنا الله {حسْبُهُمْ جهنَّمُ}[المجادلة/٨] أي كافيهم جهنم عقابًا يوم القيامة {يَصْلَونَها}[المجادلة/٨] أي يدخلونها {فبِئسَ(3) المصيرُ}[المجادلة/٨] أي المرجع وهو جهنم.

 

 

 

 

________

  • مسند أحمد (2/170) وانظر صحيح مسلم: كتاب السلام: باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد.
  • رواه البزار في مسنده انظر “كشف الأستار” للحافظ الهيثمي (3/75) وقال الحافظ الهيثمي في “مجمع الزوائد” (7/122): “إسناده جيد” اهـ.
  • فَبِيسَ قرأه ورش من طريقيه وأبو عمرو بخلفه وكذلك أبو جعفر ووقفًا لحمزة. والباقون فبِئْسَ.

 

ولمّا ذمّ اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نَّهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال عز وجل {يا أيُّها الذينَ ءامنُوا إذا تناجَيتُمْ}[المجادلة/٩] أي تساررتم فيما بينكم {فلا تَتَناجَوا (1) بالإثمِ}[المجادلة/٩] أي بما يوقع في الذنب والمعصية {والعُدْوانِ}[المجتدلة/٩] أي بما فيه ظلم واعتداء {وَمَعْصِيتِ الرسولِ}[المجتدلة/٩] أي بما فيه عصيانُ أوامر الرسول {وتَنَاجَوا بالبِرّ}[المجادلة/٩]ِ أي بالطاعة {والتَّقوى}[المجادلة/٩] أي بترك المعصية {واتَّقُوا اللهَ}[المجادلة/٩] بأداءِ ما فرض واجتناب ما نهى عنه {الذي إليهِ تُحْشَرونَ}[المجادلة/٩] أي تجمعون في الآخرة للحساب على أعمالكم التي عملتموها في الدنيا من خير أو شر.

{إنَّما النَّجْوَى}[المجادلة/١٠] وهي المسارة بالإثم والعدوان {مِنَ الشيطانِ}[المجادلة/١٠] أي من تزيين الشيطان لأنه هو الذي يزينها لهم ويحملهم عليها فكأنها منه {لِيَحْزُنَ (2)}[اامجادلة/١٠] أي ليسوء {الذينَ ءامنُوا}[المجادلة/١٠] والمعنى كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا ونحو ذلك مما يُحزن المسلمين {ولَيْسَ}[المجادلة/١٠] أي الشيطان أو التناجي {بِضَارِّهِمْ}[المجادلة/١٠] أي بضار المؤمنين {بِضَارِّهِمْ} أي بمشيئته وقضائه وقدره وفي ذلك رد على المعتزلة

__________

  • وقرأ رويس “فلا تَنْتَجُوا”.
  • وقرأ نافع “ليُحْزِنَ” ووافقه ابن محيصن.

 

 

 

 

 

وهم القدرية الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: “القدرية مجوس هذه الأمة” وذلك لأن المعتزلة قالوا إن ما يحصل من العباد من شر ليس بمشيئة الله {شيئًا (1) إلا بإذنِ اللهِ وعلى اللهِ فلْيَتَوكَّلِ المُؤمنُونَ}[المجادلة/١٠] هذا أمر من الله للمؤمنين بأن يكِلوا أمرهم ويفوّضوا جميع شؤونهم إليه ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر فهو الذي سلّط الشيطان بالوساوس ابتلاءً للعبد وامتحانًا ولو شاء لصرفه عنه.

أخرج البخاري في صحيحه (2) عن عبد الله أب ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه” أي من أجل أن المناجاة دونه تزعجه وتسوؤه.

 

 

___________

  • ويقف حمزة بالنقل “شَيَا” وبالإدغام فيقرأ “شيّا”.
  • أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الاستئذان: باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة.

 

 

 

 

 

 

 

ولما نهى الله تعالى المؤمنين عما هوسبب للتباغض والتنافر أمرهم بما هو سبب للتوادّ والتقارب فقال عز وجل {يا أيها الذينَ ءامنُوا إذا قيلَ لكُم تفسَّحُوا (1)}[المجادلة/١١] أي توسعوا في المجالسِ {فافْسَحُوا أي فوسعوا يَفسَحِ اللهُ لكُمْ}[المجادلة/١١] أي يوسع الله منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في رحمته أو في الدنيا والآخرة واختلف في تفسير المجالس فقال المفسر أو حيان (2): “قال مجاهد وقتادة والضحاك كانوا يتنافسون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض وقال ابن عباس: المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه. والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات وإن كان السبب مجلس الرسول. وقيل الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام وكذا مجالس العلم ويؤيده قراءة من قرأ “في المجالس” ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلسًا في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم” اهـ.

__________

  • وقرأ الجمهور “في المجلس” وعاصم “في المجالس”.
  • البحر المحيط (8/236).

 

 

 

 

 

 

 

وقال القرطبي في تفسيره (1): “الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة” اهـ {وإذا قِيلَ (2) انشُزُوا فانشُزُوا}[المجادلة/١١] أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا، وقال ءاخرون: إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى كل خير فانهضوا إليه ولا تقصروا عنه {يَرْفَعِ اللهُ الذينَ امَنُوا مِنكُم}[المجادلة/١١] أي مع إيمانهم عملوا بطاعة الله ورسوله وامتثلوا أوامره {والذينَ أُوتُوا العلمَ}[المجادلة/١١] أي ويرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم أي علم أهل الحق مع العمل به دَرَجاتٍ في الثواب والمنزلة في الجنة واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خبيرٌ لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي وهو مجاز جميعكم بعمله المحسن بإحسانه والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.

{يا أيُّها الذينَ ءامَنُوا إذا ناجَيتُمُ الرسولَ}[المجادلة/١٢] أي إذا ساررتم الرسول وتحدثتم

___________

  • الجامع لأحكام القرءان (17/297).
  • وقرأ قيل بإشمام كسرة القاف الضم هشامُ والكسائي ورويس ووافقهم الحسن وذلك في الموضعين من الآية. وقرأ انشزوا فانشزوا بكسر الشين أبو عمرو وحمزة والكسائي وفي وجه لشعبة عن عاصم مع كسر الهمزة ابتداء والباقون بضم الشين والهمزة ابتداءً وهو الوجه الآخر لشعبة عن عاصم.

 

 

 

 

 

معه {فقَدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ}[المجادلة/١٢] أي قبل المناجاة {صَدَقةً} تتصدقون بها على أهل المسكنة والحاجة قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ وقال قتادة: عمل به ساعة من نهار ذلكَ يعني تقديم الصدقة على المناجاة خَيرٌ لَّكُمْ لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأطْهَرُ أي لقلوبكم من المعاصي {فإن لَّمْ تَجِدُوا} أي ما تتصدقون به أمام مناجاتكم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَّحيمٌ} أي في ترخيص المناجاة من غير صدقة إذ عفا الله عمن لم يجد ثم نسخ ذلك بآية {فإذْ لَمْ تفْعَلُوا وتابَ اللهُ عليكُمْ} [سورة المجادلة/١٣] وجاء في سبب نزولها أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ذلك كف كثير من الناس ثم وسَّع الله عليهم بالآية التي بعدها قاله ابن عباس وقال الحسن: نزلت بسبب أن قومًا من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.

أخرج الترمذي في سننه (1) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “لما نزلت يا أيُّها الذينَ ءامَنُوا إذا ناجَيتُمُ الرسولَ فقدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صدقةً

_________

  • أخرجه الترمذي في سننه: كتاب تفسير القرءان: باب تفسير سورة المجادلة.

 

 

 

 

 

قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “ما ترى دينارًا؟” قال: لا يُطيقونه، قال: “فنصف دينار؟” قلت: لا يطيقونه قال: “فكم؟” قلت: شعيرة قال: “إنك لزهيد” –أي قليل المال- قال: فنزلت {ءَأَشْفَقْتُمْ أن تُقَدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}[المجادلة/١٣]الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة”. قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب” ومعنى قوله شعيرة: يعني وزن شعيرة من ذهب” اهـ.

{ءَأَشْفَقْتُمْ (1) أن تُقَدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}[المجادلة/١٣] أي أخِفْتُم وخشيتم وشق عليكم أيها المؤمنون بتقديم الصدقة الفاقة والفقر إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم والإشفاق: الخوف من المكروه فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من تقديم الصدقة بين يدي نجواكم وتابَ اللهُ عليكُمْ أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة وهذه الآية هي التي نسخت الحكم السابق {فأقِيمُوا الصلاةَ وءاتُوا الزَّكاةَ}[المجادلة/١٣] أي أدّوا فرائض الله التي أوجبها عليكم ولم يضعها عنكم من الصلاة والزكاة وأطيعُوا اللهَ ورسولَهُ أي فيما أمرنا به ونهينا عنه واللهُ خبير بِما تعمَلُونَ يعني محيط بأعمالكم ونياتكم وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها.

ثم إنه تعالى لما وبخ اليهود والمنافقين وهددهم بقوله {ألَمْ ترَ إلى الذينَ نُهُوا عنِ النَّجْوَى} إلى قوله {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَونَها فبِئسَ المصيرُ}[المجادلة/٨]

_________

  • وقرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر ءآشْفقتم بتسهيل الهمزة الثانية مع إدخال ألف بينهما ومن غير ألف الأصبهاني وابن كثير ورويس وبالتسهيل من غير إدخال وإبدالها ألفًا مع المد المشبع الأزرق. ولهشام ثلاثة أوجه تسهيل الثانية مع الإدخال والتحقيق مع الإدخال وعدمه. ووقف حمزة بتحقيق الثانية وتسهيلها.

 

 

ثم ساق الكلام إلى هنا عاد إلى ذم المنافقين بموالاتهم اليهود فقال:

{ألَمْ ترَ} أي تنظر {إلى الذينَ تَوَلَّوا}[المجادلة/١٤] هم المنافقون الذين والوا {قَومًا} وهم اليهود الذين {غَضِبَ اللهُ عليهِم (1)}[المجادلة/١٤] والمنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر {مَّا هُم} يعني المنافقين {مِّنكُمْ} أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم أيها المسلمون {وَلا مِنْهُمْ} يعني ولا من اليهود بل هم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال عليه الصلاة والسلام: “مَثَلُ المنافق كمَثَلِ الشاة العائرة (2) بين الغنمَين تَعير (3) إلى هذه مرة وإلى هذه مرة” رواه مسلم (4). {ويَحْلِفُونَ على الكذِبِ}[المجادلة/١٤] أي يحلف هؤلاء المنافقون على الكذب وهو ادعاؤهم الإسلام وقولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله وهم كاذبون غير مصدقين به ولا مؤمنين به كما قال جلّ ثناؤه {واللهُ يشهَدُ إنَّ المُنافِقينَ لكاذبُونَ} [سورة المنافقون/١] {وَهُمْ يَعلَمُونَ} بأنهم كذبة إّ حلفوا على خلاف ما أبطنوا.

___________

  • وقرأ أبو جعفر بإخفاء تنوين قومًا غضب. وضم حمزة ويعقوب هاء عليهم ووافقه الأعمش والباقون بكسرها.
  • العائرة: المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع.
  • تعير: أي تتردد وتذهب.
  • أخرجه مسلم في صحيحه: أول باب من كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

 

 

 

 

{أعدَّ اللهُ لهُمْ}[المجادلة/١٥] أي لهؤلاء المنافقين في الآخرة {عذابًا شديدًا}[المجادلة/١٥] في جهنم إنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يعمَلُونَ أي بئس الأعمال أعمالهم.

{اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ}[المجادلة/١٦] قال المفسر أبو حيان (1): “قرأ الجمهور أيمانهم جمع يمين لم أره في القراءات العشر والحسن: إيمانهم بكسر الهمزة أي ما يظهرون من الإيمان” اهـ {جُنَّةً}[المجادلة/١٦] أي ما يتسترون به ليدفعوا عن أنفسهم القتل {فصَدُّوا عن سبيل اللهِ}[المجادلة/١٦] أي منعوا الناس عن الإسلام إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان وقتلهم هو سبيل الله فيهم لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم {فلهُمْ عذابٌ مُّهِينٌ}[المجادلة/١٦] أي مذل في الآخرة.

{لَّن تُغْنِي عنهُم أمْوالُهُمْ ولا أولادُهُم مِّنَ اللهِ شيئًا}[المجادلة/١٧] أي إن أموال المنافقين

_________

  • البحر المحيط (8/338).

 

 

 

 

 

 

 

 

وأولادهم لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئًا {أولئِكَ أصحابُ النَّارِ}[المجادلة/١٧] يعني أهلها الذين {هُمْ فيها خالِدُونَ}[المجادلة/١٧] أي ماكثون في النار إلى ما لا نهاية هذا مذهب أهل الحق خلافًا لابن تيمية الذي قال بفناء النار وانتهاء عذاب الكفار فيها والعياذ بالله من الكفر.

{يَومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جميعًا}[المجادلة/١٨] وذلك اليوم يوم القيامة عندما يخرجون من قبورهم جميعًا لا يستثنى منهم أحدًا {فَيَحْلِفُونَ لهُ}[المجادلة/١٨] أي لله تعالى أنهم مؤمنون وهم كاذبون في حلفهم {كما يحلِفُونَ لكُمْ}[المجادلة/١٨] أي كما كانوا يحلفون للمؤمنين في الدنيا {ويَحْسَبُونَ (1) أنَّهُمْ على شيءٍ}[المجادلة/١٨] أي يظنون أنهُ في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين شيءٌ نافع لهم يخلصهم من عذاب الله العالم بما يسرّون وما يبطنون فكيف بما يُعلنون ويظهرون {ألا إنَّهُم هُمُ الكاذِبُونَ}[المجادلة/١٨] أي فيما يحلفون عليه.

أخرج أحمد والحاكم والطبراني (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد يقلص عنهم الظل قال: فقال: “إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه” قال: فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه قال: “علام تشتمني أنت وفلان وفلان”

___________

  • وقرأ يحسَبون بفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ووافقهم الحسن والمطبوعي والباقون يحسِبون بكسر السين. وأما شيء فقد مر فيها اختلاف القراءة.
  • مسند أحمد (1/267) مستدرك الحاكم (2/482) المعجم الكبير للطبراني (12/6-7).

 

 

نفر دعاهم بأسمائهم قال: فذهب الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه قال: فأنزل الله عز وجل {فيحلِفُونَ لهُ كما يحلِفُونَ لكَمْ ويحسَبُونَ} الآية”.

{اسْتَحْوَذَ عليهِمُ (1) الشيطانُ}[المجادلة/١٩] أي أحاط بهم من كل جهة وغلب على نفوسهم واستولى عليها بوسوسته في الدنيا عليهُمُ الشيطان {فأنسَاهُمْ (2) ذِكْرَ اللهِ}[المجادلة/١٩] أي أوامره في العمل بطاعته والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة ويكون بمعنى الترك والوجهان محتملان هنا {أولئِكَ حِزْبُ الشَّيطانِ}[المجادلة/١٩] أي جنده وأتباعه ألَا إنَّ حِزْبَ الشَّيطانِ هُمُ الخَاسِرونَ أي هم الهالكون في بيعهم لأنهم باعوا الجنة ونعيمها المؤبد بجهنم وباعوا الهدى بالضلالة وعرَّضوا أنفسهم للعذاب الأبدي السرمدي المخلّد.

 

 

_________

  • بضم الهاء والميم وصلاً حمزة والكسائي ويعقوب وبكسر الهاء والميم عليهم الشيطان وصلاً أبو عمرو ووافقه اليزيدي والحسن. والباقون عليهِمُ بكسر الهاء وضم الميم أما عند الوقف فكلهم على كسر الهاء وإسكان الميم عدا حمزة ويعقوب فبضم الهاء وإسكان الميم.
  • أمال فأنساهم حمزة والكسائي وخلف وقلله الأزرقي بخلفه.

 

 

 

 

 

{إنَّ الذينَ يُحادُّونَ اللهَ ورسُولَهُ أي يعادونهما أولئكَ في الأَذَلِّينَ (1)}[المجادلة/٢٠] يعني من جملة الأذلاء لا أذل منهم لأن الغلبة لله ورسوله {كَتَبَ اللهُ}[المجادلة/ ٢١] أي أمر القلم فكتب في اللوح المحفوظ أو قضى الله ذلك {لَأَغْلِبَنَّ}المجادلة/٢٠] أي بالحجة والقوة {أناْ ورُسُلي} كل من عادى الله ورسوله {إنَّ اللهَ قويٌّ} أي قادر على نصر رسله وأوليائه {عزيزٌ}[المجادلة/٢٠] أي غالب غير مغلوب فلا يُغلب عليه في مراده.

{لَّا تَجِدُ قومًا يُؤمِنُونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ}[المجادلة/٢٢] أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله والمراد أنه لا ينبغي أن يوادّهم وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن لا يصير منافقًا خارجًا عن الإيمان

__________

  • وقف يعقوب بهاء السكت الأذَلّينه بخلف عنه وحمزة يقف بالتحقيق للهمزة مع السكت على الساكن قبلها وبالنقل في الأذلين كذلك قرأ ورش بالنقل من طريقيه.
  • وقرأ بفتح ياء رسلي وصلاً نافع وابن عامر وأبو جعفر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بأن حصل في قلبه وداد أعداء الله تعالى لكنه يكون عاصيًا صاحب كبيرة وفي هذه الآية نهي وزجر عن موالاتهم بأبلغ الوجوه والأمر بمجانبتهم والمباعدة عنهم ثم زاده توكيدًا بقوله {وَلَوْ كانُوا أي المحادون ءاباءَهُمْ أو أبناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة/٢٢] يعني أن الميل إلى هؤلاء الذين هم أقرب الناس إليهم من أعظم الميل ومع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء الذين حادُّوا الله ورسوله والمودة لهم بسبب مخالفة الدين قال المفسّر أبو حيان (1): “بدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم فنهاهم عن موادتهم وقال تعالى {وإِن جَاهَدَاكَ على أن تُشْرِكَ بِي ما ليسَ بهِ عِلْمٌ فلا تُطْعْهُما وصاحِبْهُما في الدُّنيا معروفًا} [سورة لقمان/١٥] ثم ثنّى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ثم أتى ثالثًا بالإخوان لأنهم بهم التعاضد كما قيل:

أخاك أخاك إن من لا أخًا له   ***   كساع إلى الهيجا بغير سلاح

ثم رابعًا بالعشيرة لأن بها التناصر وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه كما قال:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم   ***   في النائبات على ما قال برهانا” اهـ

{أولئِكَ}[المجادلة/٢٢] أي الذين لا يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم {كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ}[المجادلة/٢٢] أي أثبتَ أو قضى لقلوبهم الإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضع الإيمان {وأيَّدَهُم}[المجادلة/٢٢] أي قوَّاهُم {بروحٍ مِّنْهُ}[المجادلة/٢٢] المراد بالروح النصر على العدو قاله ابن عباس وسمي النصر روحًا لأن أمرهم يحيا به أو الإيمان قاله السدي.

_________

  • البحر المحيط (8/239).

 

 

أو بروح من الإيمان فإنه في نفسه روح للقلوب من حيث كونه سببًا للحياة أو القرءان قاله الربيع بن أنس أو الرحمة قاله مقاتل أو جبريل عليه السلام أيدهم به يوم بدر ذكره الماوردي {ويُدخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِن تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فيها}[المجادلة/٢٢] أي ماكثين فيها أبدًا {رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ}[المجادلة/٢٢] أي بطاعتهم إياه في الدنيا وقَبِل منهم أعمالهم {ورَضُوا عنهُ}[المجادلة/٢٢] بثوابه الجسيم في الآخرة بإدخالهم الجنة وما أعد لهم فيها من النعيم وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {أولئِكَ}[المجادلة/٢٢] أي الذين هذه صفتهم {هم حِزْبُ اللهِ}[المجادلة/٢٢] أي جنده وأنصار دينه {ألَا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفلحُونَ}[المجادلة/٢٢] أي الفائزون.

تمَّ تفسير سورة المجادلة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه وسلم.