بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الصوفي الشيخ عبد الله بن محمد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى في السادس من شهر شوال سنة تمتن وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق للتاسع من أيلول سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو في بيان سؤال العبد يوم القيامة. قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد فإن الله تبارك تعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾([1]) الهوى كل ما تميل الهوى كل ما تميل النفس مما يلائمها من غير داع ديني بل لملائمة الطبع وموافقته من شهوات محرمة وإرادة علو في الأرض وترفع على الناس وتكون كلمة الشخص نافذة على غيره وإرادته نافذةً في الناس من غير وقوف في حد الشرع. الله تبارك وتعالى وعد من خاف مقام ربه أي خاف سؤال الحساب ونهى نفسه عن هواها جنة المأوى أي أن يكون مأواه الجنة وعده أن يكون مأواه الجنة التي لا نكد فيها ولا خوف ولا ضيق ولا شكوى مرض أو عذاب وجعل من لم يخف مقام ربه ولم ينه نفسه عن الهوى مآله سيئا جعل مآله سيئا.
ثم إن الهوى منه ما هو ظاهر يعرف صاحبه أنه شر كالشهوات المحرمة المألوفة الظاهر أمرها للخاص والعام ومنه ما هو خفي لا يهتدي لمعرفته إلا قليل الناس، حتى إن الذين يزعمون أنهم من أهل الذكر عندهم هوى لبس عليهم الشيطان الأمر فظنوه قربة إلى الله وهو بعد من الله، مثال ذلك أنهم انشغلوا بمراعاة الأنغام وتنسيق الحركات وأدى بهم ذلك إلى تحريف اسم الله فكثير من أهل الطريقة ولا سيما الشاذلية تعودوا أن يحرفوا اسم الله بدل أن يقولوا الله باللفظ الصحيح يقولون ءاه وذلك لأنها أخف على ألسنتهم وتوافق الحركات السريعة في اهتزازاتهم ورقصهم. ولقد بلغ الضلال ببعضهم إلى أن قال الذكر بها أي بآه أقرب للفتوح من الذكر بلفظ الجلالة الله فصاروا يعملون هذا أي الذكر بها مراعاة لحركاتهم التي اعتادوها فصاروا يشمئزون من الذي يذكر معهم بلفظ الله. حصل مرة بدمشق اجتماعهم مع هؤلاء ودخل معهم شخص يريد الذكر الصحيح فصار يقول الله الله فانزعجوا منه لأنهم كانوا
تلك الساعة يقولون ءاه ءاه بترتيب خاص مطابق لحركاتهم فأرادوا منه أن يقول مثل ما يقولون ءاه ءاه فكلموه فلم يوافقهم بل ظل يقول الله الله فزاد نفورهم منه لأنه غير عليهم الإيقاع فأرادوا منه أن يخرج من الحلقة من شدة نفورهم ومحافظة على هواهم فهؤلاء فتنهم هواهم لكن الشيطان لبس عليهم الأمر فخيل إليهم أن عملهم هذا في حب الله وهو في الحقيقة معصية لله لأن تغيير اسم الله حرام. وأضافوا إلى ذلك أنهم تلك الساعة يرقصون رقصا فيه تثن وتكسر أي إنهم يتكسرون ويتثنون في رقصهم وهو حرام على الرجال والنساء أي أن الرقص إذا كان فيه تثن وتكسر وأما الرقص الخالي من التثني والتكسر فهو مباح للرجال والنساء كمن كان قفزًا إلى فوق فإنه جائز فهذا نوع من أنواع الهوى الخفي الذي لا يظنه كثير من الناس قبیحًا إلا أهل الفهم والمعرفة أو الذوق السليم فإنهم يدركون أن هذا شيء قبيح. هذا يدرك بواسطة علم الدين والمعرفة بأحكامه وهذا يدرك بذوقه السليم أن هذا عمل مرفوض غير مستحسن في ميزان العمل الذي يفرق فيه بين العمل الصحيح والعمل الخبيث. ومن الهوى أعمال ظاهرها عبادات لكن في النفس إليها طموح من أجل الرياء. الرياء يشجع الإنسان على فعلها لأجل أن يعجب الناس بذلك العمل. ومن الهوى الخبيث الذي يهلك صاحبه حب العلو والسيطرة لأن النفس يلائمها ذلك فيخفى على أكثر النفوس أن الخير للنفس في ترك هواها فالذي يريد أن يعطي نفسه هواها هو يظن أنه يكرم نفسه يظن أنه يكرمها وهو في الحقيقة مهين لها فالذي يريد أن تنفذ إرادته لينظر قبل الإقبال هل إرادته هذه موافقه لمرضاة الله أو مخالفة وذلك باعتبار میزان الشرع فإن وجدها موافقة لمرضاة الله تعالى أقدم على تنفيذها مع الحذر من أن يختلط بها من حظوظ النفس ما يخالف مرضاة الله وإن وجدها مخالفةً لمرضاة الله باعتبار میزان الشرع كفَّ عنها وأعرض فيكون أحيا نفسه وأكرمها، فأما إذا تبع میله الموافق لنفسه فيكون أهلكها، فالأمر بالحقيقة أن إحياء النفس إماتة هواها وإماتتها إعطاؤها هواها. القرءان الكريم دلنا على شفاء النفس الذي يحييها بهذه الكلمة الموجزة ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾([2]) ثم أرشدنا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى ءاله إلى ما يشرح ذلك للعقل فقد روينا في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد غلب الناس ولكن الشديد من غلب نفسه([3]) اهــ الحديث سهل على اللسان ولكن تطبيقه على النفس صعب شاق لا يوفق للعمل به على التمام إلا ذو حظ عظيم فإن في العمل به مخالفة النفس الأمارة بالسوء فقد ذكر الله عن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أنه قال:﴿نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾([4]) ففي ذلك إشارة إلى أن أغلب الناس نفوسهم أمارة بالسوء تستولي عليهم ليس عقولهم تستولي على نفوسهم بل الأمر فيهم بالعكس، أراد يوسف عليه السلام بذلك أن شأن النفس الميل إلى الشهوات المحرمة ولا معصوم عن ذلك إلا من عصمه الله.
قال بعض العلماء في الحث على كسر النفس وحظها:
وحظَّها إن تمته كنت محييه |
| واترك هواها وحاذر أن توليه.اهــ |
يعني أن حياة الإنسان في مخالفة هواه أي أن الحياة الشريفة المحمودة العاقبة في مخالفة النفس وأن موتها أي هلاكها في توليت الهوى على النفس فمن ولَّى هواه على نفسه فقد أهلكها إذا علم ذلك فلا ينبغي للحاكم أن يحب العلوَّ في الأرض أي أن تنفذ مشيئته كيف ما كان الأمر من غير نظر إلى مرضاة الله، ولا ينبغي للوالد أو الوالدة أن يكون محبا للعلو والسيطرة على ولده بل يعتبر العاقل نفسه أن كل ما على وجه الأرض عبد الله وأن الله هو حاكم الجميع وله الطاعة على الجميع ولا أحد يستحق الطاعة على غيره من العباد إلا بإذن الخالق العظيم فمن لاحظ ذلك وعمل به فقد عاش حياة سعيدة هنيئة . روينا أن رسول الله قال رب مكرم لنفسه وهو لها مهين اهــ يعني أن كثيرا من الناس يكرمون أنفسهم بحسب الظاهر بإعطائها ما تشتهيه وبتنفيذ إرادتها يكرمونها بذلك وهم قد أهلكوها باعتبار الحقيقة، أهلكوها وما أكرموها بل أهانوها ورب مهين لنفسه وهو مكرم لها اهـ. وإنما يصيب الإنسان كثيرٌ من الهلاك من طريق حب نفوذ الإرادة من غير تقيد بشريعة الله هذا يهلك الناس كثيرًا.
لنقتدِ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤذون من قبل أممهم فيصبرون ويقابلون ذلك الأذى بالإحسان وذلك كالشجرة المثمرة تخبط بالعصا وتعطى الثمر وذلك لأن مقصودهم مرضاة خالقهم لا يطلبون في مقابل دعوتهم الناس إلى الخير والرشاد أجرًا من الناس وإنما يطلبون مرضاة ربهم.
انتهى والله تعالى أعلم
[1])) سورة النازعات/الآية (40-41).
[2])) سورة النازعات/الآية (40-41).
[3])) رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر بأن الشديد الذي غلب نفسه عند الشهوات والوساوس.
[4])) سورة يوسف//الآية (53).