صنعت لشيخنا الطعام ذات يوم فاحترق الأرز معي فرميته في الزبالة وقدمت له اللوبياء من دون الأرز، فقال لي: أين الأرز؟ قلت: له احترق، فقال شيخنا الزاهد جبار الخواطر: وإن يكن ائت به.
ومرة قال لي: اصنع لي نبيذ العسل أي العسل مع الماء أو الليموناضة، فقلت له: أنت ماذا ترغب؟ فقال: الأسهل، فقلت: كلاهما سهل، فقال: إذا اصنع نبيذ العسل، فذهبت وأحضرت «الليموناضة»، نسيت ما طلب، فشرب ولم يتكلم ولم يعاتبني، ثم تذكرت أثناء شربه فقلت له: لا تؤاخذني
نسيت، فقال: لا عليك.
ومرة قال شيخنا لابن أختي أيمن أن يشتري عصير التفاح ليقدمه للطلاب الذين أرادوا زيارته عند حضورهم، فاشتراه ووضعه في البراد، فجاء بعضهم وشربه ووضع مكانه مرق اللحم، وفي المساء عندما جاء الطلاب قال الشيخ: يا أيمن اجلب عصير التفاح، فذهب أيمن وفتح البراد وفي ظنه أن الذي في القنينة عصير التفاح لأن اللون متقارب، فسكبه وقدمه للطلاب فشربوا ولم يتكلموا، وعندما شرب الشيخ تبين له أنه مرق اللحم، فقال: يا أيمن ذقه، فذاقه فعرف أنه مرق اللحم، فقال له الشيخ: لو سخنته لنا قليلا، ولم يعاتبه.
هكذا أخلاق الأكابر جعلنا الله مثلهم.
ومرضت ذات يوم فغبت عنه أياما فاشتقت إليه، فلما جئت لزيارته وأنا مريض قال لي: لم كلفت نفسك نحن نأتي إليك، ثم أمر أحد إخواننا بردي إلى البيت بسيارته، وفي صباح اليوم الثاني جاء لزيارتي. رضي الله عنه.
وكنت أهيئ له الطعام مدة من الزمن كل يوم ولا أجلس معه للطعام إلا إذا طلب مني ذلك، ذات يوم وجدت الذين عنده كثرة فوضعت الطعام وخرجت من الغرفة حتى أوسع المكان لغيري، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن سأل عني لأجل الطعام وناداني وأجلسني قربه لآكل معه وقال: لي أنت لا تحتاج لإذن للجلوس معي للطعام.
وكان رضي الله عنه من عطفه وحنانه وكرمه يطعمنا بيده المباركة، وكان ذلك من نعم الله علينا وكان الطعام معه ومن يده من ألذ ما نأكل. وكان إذا تأخر بعض من تعود الشيخ أن يجلسه معه للطعام لا يبدأ بالطعام قبل أن ينحي له جزءا من الطعام حتى إذا حضر أكل منه. (ومرة بعد أن جلس طلابه للأكل معه انتبه أن الملاعق الموجودة تنقص واحدة عن عدد الحاضرين فقام وذهب إلى المطبخ وأحضر وملعقة وجاء فقيل له لم كلفت نفسك يا مولانا نحن كنا علنا ذلك فقال رضي الله عنه ألا أساعدكم في شيء).
شيخ شفوق حنون كريم رحيم.
وكان من عادتي أني ءاتي إلى بيت الشيخ من بيت أهلي مشيا وأعود مشيا فأعطاني خمسين ليرة فاستحيت أن ءاخذها منه فأصر علي أن ءاخذها وقال لي: تركب بها بعض المرات بسيارة الأجرة.
وكان شيخنا رحمه الله يذكر مرارا حديث رسول الله ﷺ: «بحسب ابن ءادم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان، أي يكفيه لقيمات وهي ما دون الأحد عشر تحفظ له قوة جسده، أما ما زاد على ذلك فليس الأفضل، فقلة الطعام والشراب هو ما عمل شيخنا به وحث عليه، وذلك اتباعا لرسولنا الأكرم ﷺ وليس للشيخ تعلق بالطعام إنما يأكل قدرا يقوم به البدن بلا زيادة، ومن الشراب كذلك وهذا غالب حاله. فكان طعامه لقيمات تحفظ له قوة جسده، وكثيرا ما لا يزيد في طعامه على اللقيمات ولا يدخل طعاما على طعام بل يأكل مرة واحدة صباحا ومرة ليلا، ولا يشرب مع الطعام، وكان أكثر طعامه مرق اللحم أو غيره مع الخبز، والهندباء والخرشوف «الأرضي شوكي» والحمص واليقطين.
وقال شيخنا: إني والحمد لله لما كنت في سوريا قبل أن أسكن لبنان كان طعامي الخبز والشاي واللبن الرائب وأحيانا البندورة ولم أشتر قط اللحم، كنت أعيش على الفتح، على التوكل. كان معي شيء من المال أصرف منه لما خرجت من بلادي، ومنذ جئت إلى لبنان ما عملت بالأجرة، كنت أدرس الناس العقيدة وأحذر الناس من كفريات، الله تعالى أقبل بقلوب الناس إلي فصاروا يحضرون الدروس ويسمعون. الشيخ حسان كان يأتي إلي لما كنت في الشام كان يقول لي على وجه المباسطة: لا يوجد إلا الشاي والخبز.
ومن الفاكهة كان شيخنا رحمه الله يأكل الدراقن([1]) و«الكيوي» والتفاح الحلو و«المنجا» والكرز وأحيانا الـمشمش الحلو وغيرها. وأما التمر فشيء ثابت، وأحيانا كان ينقع سبع تمرات في كوب من الحليب في الليل ثم في الصباح يأكل التمرات ويشرب الحليب. وكان من عادته أنه يحب أن يشرب الحليب قبل أن يغلى لأن بعض المنافع التي فيه تذهب بالغلي وخصوصا لبن الإبل أي حليبه، وكان يحب أن يشرب الشاي بالحليب مع الهيل وأحيانا يضاف إليه القرفة، وكان يحب أن يشرب مرق اللحم وأن يشرب الماء مع العسل وعصير التفاح الحلو وعصير الجزر وأحيانا عصير القصب، وكان إذا شرب شيئا أو أكله إنما يفعل ذلك لفائدة فيه، وكان يقرأ عنه في كتب الطب العربي ككتاب المعتمد في الأدوية المفردة ويسأل أهل المعرفة عن فوائد هذه الأشياء.
ومرة عملت له زوجته طعاما لذيذا، فأكل لقمة فأعجبه، فطلب كوبا من الماء فسكبه عليه حتى يتغير، فقالت له زوجته: لم فعلت ذلك، فقال: الصالحون إذا أحبوا شيئا غيروه. ومرة كنت ءاكل معه الخبز والشاي بحليب وعليه زيت الزيتون، وكان طعمه لذيذا، وكان يوجد اللبن الرائب، فأخذه وسكبه فوقه وصار يملأ الملعقة ويطعمني بيده. يريد تعليمنا مخالفة النفس وتهذيبها رضي الله عنه.