الجمعة أبريل 18, 2025

الدَّرْسُ التّاسِعُ وَالأَرْبَعُونَ

بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

رُؤْيَةُ النَّبيِّ لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِفُؤادِهِ

دَرْسٌ أَلْقَاهُ الـمُحْدِثُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللّـهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الهرري  الحبشي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيْتِهِ فِي بَيْروتَ وَهُوَ فِي بَيانِ رُؤْيَةِ النَّبيِّ لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً واسِعَة.

الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العالَمينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ وَصَلَواتُ اللّهِ البَرِّ الرَّحِيمِ والْمَلائِكَةُ الـمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الـمُرْسَلِينَ وَعَلَى جَميعِ إِخْوانِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالـمُرْسَلِينَ . أَمَّا بَعْدَ فَقَدْ روينَا بِالْإِسْنَادِ الـمُتَّصِلِ فِي تَفْسيرِ ابْنِ مَرْدَوَيه عَنْ أَبِي ذَرِّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَنْ نَبيِّ اللَّهِ وَ إِنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ بِعَيْنِهِ لَكِنْ رَءَاهَ بِقَلْبِهِ([i]) وَرويْنا فِي صَحيحٍ مُسْلِمٍ مِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَى رَبَّهُ أَيْ رَأَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الـمِعْراجِ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ([ii]) اهَــ.

وَوَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمَا قَالَا رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ اهـ.

وَظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُعارِضُ مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ اَلْلَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا. وَطَريقُ الجَميعِ بَيْنَ ذَلِكَ أَنْ يُقالَ إِنَّ قَوْلَ ابْن عَبَّاسٍ رَءَاهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ وَقَوْلَ أَبِي ذَرٍّ لَمْ يَرَهْ بِعَيْنِهِ وَلَكِنْ رَءَاهَ بِقَلْبِهِ مُقَدَّمَانِ عَلَى رِوايَةِ الإِطْلَاقِ أَي فَنْحَمِلُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوايَةِ الـمُطْلَقَةِ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ.اهــ. عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرُّؤْيَةَ بِاَلْفُؤادِ فَتِلْكَ الرِّوايَةُ تُفَسِّرُ هَذِهِ الرِّوايَةَ، كَذَلِكَ رِوايَةُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَءَاهَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهْ بِعَيْنِهِ.اهـ. مُقَيَّدَةٌ فَتُؤَيِّدُ رِوايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ الـمُقَيَّدَةَ فِيَكُونُ والْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمَا .

فَالْقَوْلُ الصَّحيحُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الـمِعْراجِ بِفُؤادِهِ. اللَّهُ تَعَالَى خَرَقَ العَادَةِ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ قوَّةً فَرَأَى رَبَّهُ بِتِلْكَ القوَّةِ.

وَلَا يَتَوَهَمُ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِي قَلْبِ نَبيِّهِ فَرَءَاهُ الرَّسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ فِي قَلْبِهِ فَهَذَا ضَلالٌ وَمِن اعْتَقَدَهُ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحُلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَاَلْحُلولُ مُسْتَحيلٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الحُلولَ يَقْتَضِي أَنْ يَكونَ جِسْمًا والْجِسْمُ مَخْلوقٌ وَلَيْسَ إِلَهًا .

فالْمُعْتَقَدُ الصَّحيحُ الرّاجِحُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الـمِعْراجِ بِعَيْنِهِ وَلَكِنْ رَءَاهَ بِفُؤادِهِ، والْقَوْلُ الآخَرُ أَيْ القَوْلُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِعَيْنِهِ هُوَ مَشْهورٌ لَكِنَّهُ خِلَافَ الـمُعْتَمَدِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا كَثيرٌ فِي السَّلَفِ وَفِي الخَلَفِ لَكِن هَذَا لَا يُخْرِجُ الشَّخْصُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مُحَدِّثِينَ عَلَى عَقيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَنْزيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الجِسْميَّةِ والْمَكانِ والْجِهَةِ وَمِنْهُمْ فُقَهاءُ وَمِنْهُمْ عَوامُّ فَلَا نَضْلِلُهُمْ بَلْ نَقولُ هَذَا غَلَطٌ، والصَّوابُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَءَاهٌ بِفُؤادِهِ.

أَمَّا الحَديثُ اَلَّذِي رَوَاهُ الإِمامُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا أَيْ مِنْ قَوْلِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ([iii]) اهــ. فَهَذِهِ الرِّوايَةُ اسْتَنْكَرَها الإِمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمَعْنَاهَا عَنْ اَلَّذِينَ صَحَّحُوهَا شَغَلَ بصَرِي نُورٌ فَلَمْ أَسْتَطِعْ رُؤْيَةَ ذَاتِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ لِأَنَّ نُورًا شَغَلَ بَصَري. فَهَذَا مَعْنَاه عِنْدَ اَلَّذِينَ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الرِّوايَةَ ، أَمَّا مِنْ لَمْ يَثْبِتُوهَا كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فَلَا حاجَةَ عِنْدَهُ لِتَأْويلِها، وَأَما مَنْ أَخَذَ بِظاهِرِهَا فَاعْتَقَدَ اَنْ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ. لَوْ كَانَ اللَّهُ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ لَكَانَ حَادِثًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِقًا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي كِتابِهِ بِأَنَّ النّورَ بِمَعْنَى الضَّوْءِ مَخْلوقٌ كَاَلْظُلُماتِ فَقَرَنَ بَيْنَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُماتِ والنّورَ([iv]) النّورُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ بِالْمَعْنَى الصَّحيحِ فَهُوَ الهَادِي أَوْ الـمُنير فَلَا يُوهِمُ نَقْصًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، سَمَّى اللَّهَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ)([v]) أَيْ اللَّهُ هَادِي أَهْلَ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُفَسِّرَ بِقَوْلِ اللَّهِ مُنيرَ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ.

واللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

[i])) رَوَاه الطَّبَرَانِيُّ فِي اَلْمُعْجَمِ اَلْكَبيرِ بَابُ عَطاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .

[ii])) رَوَاه الحاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بَابُ حَديثِ سَمُرَةِ بْنِ جُنْدُبٍ .

[iii])) رواه مسلم في صحيحه باب في قوله عليه السلام نور أنى أراه.

[iv])) سورة الأنعام/ ءاية (1)

[v])) سورة النور/ءاية (35)