الجمعة ديسمبر 12, 2025

رد في الضرع ما جرى في الحلاب

   ومرادهم بهذا أن الإنسان إذا حلب البهيمة فهذا اللبن الذي حلبه لا يعود إلى الضرع كذلك نحن الآن خروجنا من الدنيا. ثم عبد الله وجد كوما من ذهب وكوما من فضة فأخذ من الذهب ما استطاع في ردائه ورجع إلى قومه صار يعطي هذا من هذا الذهب ويعطي هذا ويعطي هذا فأحبوه وجعلوه سيدا لهم. فصار يحسن إلى الناس ويقري الضيف ويصل أرحامه فكان مشهورا بهذا بين العرب. لكن بما أنه كان على عبادة الوثن ولم يكن يؤمن باليوم الآخر ومات على ذلك فلا ينفعه عمله هذا. فمن لم يؤمن بالله ورسوله فلا ثواب له أبدا في الآخرة قال الله تعالى ﴿مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف﴾.

   الكفار هم أحقر خلق الله وإن كانت صورتهم صورة البشر وذلك لأنهم أضاعوا أعظم حقوق الله على عباده فكفروا بالله عز وجل قال الله تعالى ﴿إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون﴾ والمعنى أن الكافر هو أحقر المخلوقات، والدواب جمع دابة وهي كل ما يمشي على وجه الأرض من إنسان وبهائم وحشرات. وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير »لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده إن ما يدهدهه الجعل بمنخريه خير من ءابائكم الذين ماتوا في الجاهلية« أي على الشرك. وهذا الحديث صريح في أن الكافر أخس ما خلق الله.

   ومعنى »ما يدهدهه الجعل بمنخريه« أي القذر ليتقوت به، والجعل حشرة صغيرة سوداء تسوق القذر الذي يخرج من بني ءادم تجعله حبيبات تسوقه لتتقوت به، فهذا الذي يسوقه الجعل الرسول قال خير من هؤلاء الذين كان الناس في أيام الجاهلية يفتخرون بهم يقولون هذا جدي كان كذا أبي كان كذا فالمعنى كفوا عن الافتخار بهؤلاء الذين ما يسوقه الجعل بأنفه خير منهم لكفرهم وذلك لأن شكر الخالق المنعم لا يصح مع عبادة غيره أو تكذيب رسوله الذي أرسله ليتبعه الناس. ولو أنفق هذا الكافر مثل جبل ذهبا للمساكين والأرامل لا يكون شاكرا لخالقه الذي أنعم عليه بالوجود والعقل فلا يكون الكافر شاكرا لله مهما عمل من الخدمات للناس ومهما كان عنده عطف ورحمة وحنان على المنكوبين والملهوفين.

   وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: »عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له« رواه مسلم. وهذا الحديث يدل على أهمية الإيمان والإسلام وأن المؤمن أفضل من الكافر وأن الإيمان شرط لحصول الثواب وصحة الأعمال وأن الأعمال الصالحة لا تقبل من كافر وحكي أن رجلا من الصالحين كان مقطوع اليدين والرجلين مصابا بالعمى وزيادة على ذلك أصيب بمرض الآكلة وهو مرض يصيب الأطراف فيسود العضو المصاب ويهترئ ثم يتساقط، وكان شديد الفقر لا أحد يهتم به حتى رءاه الناس على الطريق فجاءت الدبابير تأكل من رأسه، وكان رضي الله عنه مقطوع اليدين فلا يقدر على دفعها عنه ومقطوع الرجلين فلا يقدر على الهرب منها فمر من أمامه أناس فلما رأوه قالوا: سبحان الله كم يتحمل هذا الرجل، فسمعهم فقال: »الحمد لله الذي جعل قلبي خاشعا ولساني ذاكرا وبدني على البلاء صابرا، إلهي لو صببت علي البلاء صبا ما ازددت فيك إلا حبا« هكذا يكون الصالحون هكذا يكون طلاب الآخرة الذين عرفوا الله فأدوا حقه.
   وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من يرد الله به خيرا يصب منه« المعنى أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا أي رفعة في الدرجة يبتليه بالمصائب. المصائب للمؤمن زيادة درجة عند الله. المؤمن الذي يبتلى بالمصائب أفضل عند الله من المؤمن الذي لا يبتلى بالمصائب، والمسلم الذي هو غارق في المعاصي ولا تصيبه المصائب إلا قليلا فهذا دليل على أن الله أخر عذابه إلى الآخرة. بعض الناس تصيبهم المصائب فيغضبون غضبا شديدا فيكفرون بخالقهم. كان في العرب قبل سيدنا محمد بآلاف من السنين رجل يقال له حمار ابن مالك من قوم عاد. كان بأرض في الجزيرة العربية يقال لها الجوف واد فيه شجر وفيه ماء ثم الله تبارك وتعالى أرسل صاعقة فقتلت أبناءه فغضب غضبا شديدا وكفر كفرا كبيرا قال لا أعبده لأنه قتل أبنائي ثم ما اكتفى بهذا الكفر بل كان إذا مر إنسان بالوادي الذي فيه جاء إلى أرضه يقول له اكفر بالله وإلا قتلتك فإن كفر تركه وإن لم يكفر قتله ثم الله تبارك وتعالى زاده مصيبة، أرسل الله نارا في أسفل الوادي فأهلكت الوادي وما فيه، لم يبق فيه شجر ولا ماء، صار الوادي أسود ومأوى للشياطين. هذا كان عاش قبل أن يكفر أربعين سنة على الإسلام لو صبر على تلك المصيبة التي نزلت به بموت أولاده كان كسب أجرا كبيرا لكن بسبب الغضب كفر بقوله »لا أعبد الله« والعياذ بالله. هذا الرجل ضر نفسه، الله عز وجل لا ينضر بكفر الكافرين ولا معصية العصاة. هو ضر نفسه باعتراضه على الله ونسبة الظلم إلى الله تبارك وتعالى. 

   انظروا الفرق بين ذاك الرجل الصالح الصابر المحتسب وهذا الكافر المعترض على الله، ذاك صبر على المصائب والبلايا فكان من الفائزين وهذالم يصبر بل كفر بالله تعالى فكان من الخاسرين.

   فالصبر أمره عظيم وقد ورد عن بعض الأنبياء أنه قال: »الصبر مع الإيمان يورث الظفر« فالإنسان المؤمن إذا كان صابرا محتسبا يكون من الفائزين يوم القيامة فالصبر ينفع مع الإيمان فيجب الإيـمان بأن الله موجود لا يشبه الموجودات موجود بلا كيف ولا مكان ولا جهة وليس بينه وبين خلقه مسافة وأنه ليس جسما مركبا من أجزاء وليس له جوارح ولا أعضاء، والجسم ما له طول وعرض وسمك وتركيب، ولو جاز أن يعتقد أن خالق العالم جسم لجاز أن تعتقد الألوهية للشمس والقمر أو لغير ذلك من الأجسام، وقد قال إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري في كتاب النوادر: »من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به« وقال الإمام علي رضي الله عنه: »سيرجع قوم من هذه الأمة عند اقتراب الساعة كفارا ينكرون خالقهم فيصفونه بالجسم والأعضاء« رواه ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي، وقال علي رضي الله عنه: »من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود« رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب الحلية، والمحدود عند العلماء ما له حجم كبيرا كان أو صغيرا، وإذا قيل عن الله إنه ليس بمحدود ليس معناه أنه شىء ممتد إلى غير نهاية. من ظن أن الله له امتداد لا نهائي كافر والذي يعتقد أن الله له امتداد ينتهي صغير أو كبير كافر أيضا، كل شىء له مقدار فهو مخلوق قال الله تعالى ﴿وكل شىء عنده بمقدار﴾. فالله تعالى منزه عن الجسم والمقدار والكمية والحد والمساحة منزه عن الجلوس والاستقرار والمحاذاة ﴿ليس كمثله شىء وهو السميع البصير﴾.
   نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين وأن يجعلنا من عباده المتقين وأن يرزقنا رؤية نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجعلنا من أهل الدرجات العلى وأن يرزقنا الفردوس الأعلى إنه على ما نسأله قدير وبعباده لطيف خبير وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى ءاله وصحبه وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين.