الأحد ديسمبر 22, 2024

ردّ الإمام الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي على ابن الزاغوني المجسم

نص الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي (597هـ) على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى، وردّ في كتابه الباز الأشهب على ابن الزاغوني المجسم الذي قال:

فلما قال [تعالى] (ثمّ استوى) [سورة الأعراف/54] علمنا اختصاصه بتلك الجهة، وقال ابن الزاغوني أيضا والعياذ بالله: ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها قال ابن الجوزي ما نصه :

قلتُ: هذا رجلٌ لا يدري ما يقول، لأنه إذا قَدّر غايةً وفصلاً بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقر بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز، ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه.

قلت [أي ابن الجوزي] وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يُقابَل ويحاذَى، ومن ضرورة المحاذِي أن يكون أكبر من المحاذَى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكلّ ما يحاذِي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسةَ والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز، ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالاً، فإن التجاور والتباينَ من لوازم التّحيز في المتحيّزات.

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيّزهِ أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصِّصًا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخلٍ في العالم وليس بخارجٍ منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختصُّ بالأجرام.

وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يَقبل أن يُخلَق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء، وقد حملهم الحِسُّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إنما ذكَر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا. واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر/10] وبقوله (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [سورة الأنعام/18] وجعلوا ذلك فوقية حسيّة ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال تعالى (فوق عباده) قال تعالى (وهو معكم)، فمن حملها على العلم حمل خصمُه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشْبَه أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية. انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى.