ذِكْرُ وِلادَةِ نَبِيِّ اللَّهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيَانُ حَالِ أُمِّهِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ حِينَ وِلادَتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا* قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا* قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا* فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا* فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَّنْسِيًّا* فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا* فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا* ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ* فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/١٦-٣٧].
تقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ وَتَقُومُ بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا أَوْ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لا بُدَّ مِنْهَا، وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ خَرَجَتْ مِنْ مِحْرَابِهَا الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَسَارَتْ جِهَةَ شَرْقِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّوحَ الأَمِينَ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهَا لِيُبَشِّرَهَا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُنَاكَ تَمَثَّلَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ جَمِيلٍ أَبْيَضِ الْوَجْهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلامُ لَمْ تَعْرِفْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ فَفَزِعَتْ مِنْهُ وَاضْطَرَبَتْ وَخَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُ وَارْتَابَتْ فِي أَمْرِهِ حَيْثُ ظَهَرَ لَهَا فَجْأَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَصَارَتْ تَبْتَعِدُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ أَيْ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا مُطِيعًا فَلا تَتَعَرَّضْ لِي بِسُوءٍ لَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ سُرْعَانَ مَا أَزَالَ عَنْهَا اضْطِرَابَهَا وَهَدَّأَ مِنْ رَوْعِهَا وَقَالَ لَهَا: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ أَيْ أَنِّي لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ أَرْسَلَنِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا يَكُونُ طَاهِرًا نَقِيًّا قَالَتْ: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أَيْ لَيْسَ لِي زَوْجٌ وَلَسْتُ بِزَانِيَةٍ فَقَدْ تَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلامُ عِنْدَمَا بَشَرَّهَا جِبْرِيلُ بِالْغُلامِ لِأَنَّهَا بِكْرٌ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ وَلَيْسَتْ زَانِيَةً ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ فَأَجَابَهَا جِبْرِيلُ عَنْ تَعَجُّبِهَا بِأَنَّ خَلْقَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِيَجْعَلَهُ عَلامَةً لِلنَّاسِ وَدَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِيَجْعَلَهُ رَحْمَةً وَنِعْمَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ وَءَامَنَ بِهِ.
وَأَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِي مَرْيَمَ الْبَتُولِ رُوحَ عِيسَى الْمُشَرَّفَةَ عِنْدَهُ فَنَفَخَ أَمِينُ الْوَحْيِ جِبْرِيلُ رُوحَ عِيسَى فِي أَعْلَى جَيْبِ قَمِيصِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلامُ فَوَصَلَتْ بِنَفْخَتِهِ الرُّوحُ مِنْ فَمِ مَرْيَمَ إِلَى رَحِمِهَا عَلَيْهَا السَّلامُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحَمَلَتْ بِتِلْكَ النَّفْخَةِ بِالسَّيِّدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/91]، وَيُقَالُ إِنَّ عُمُرَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلامُ حِينَ حَمَلَتْ بِعِيسَى الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ فَقِيلِ: تِسْعُ سَاعَاتٍ وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.