السبت سبتمبر 7, 2024

ذهاب موسى عليه السلام لميقات الله تعالى وسؤاله الرؤية

 

كان نبي الله موسى عليه السلام قد وعد بني إسرائيل الذين ءامنوا به واتبعوه أن يأتيهم بكتاب فيه تبيان معالم الشريعة وما يأتون وما يتركون، فلمّا أهلك الله تبارك وتعالى فرعون مصر ومن اتبعه من جنوده في البحر وأنجى بني إسرائيل، قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا، فسأل موسى عليه السلام ربه ذلك، فواعده الله تعالى ثلاثين ليلة وأمره تعالى بالصيام فيها ثم يُتبعها بعشر ليال أخرى يصوم فيها موسى أيضًا ليسمعه كلامه ويعطيه التوراة وفيها الأحكام وتفاصيل الشريعة المطهرة، وقيل الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة. فصام موسى عليه السلام أربعين يومًا استكمل فيها الميقات الذي وعده فيه الله تعالى، فلما عزم على الذهاب لميقات الله تعالى استخلف في غيابه أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل فوصّاه وأمره أن يخلفه في بني إسرائيل في غيابه مع أن هارون كان معه نبيًا ورسولاً في ذلك الوقت، ولما جاء موسى عليه السلام لميقات الله تعالى أي في الوقت الذي أمره تعالى بالمجيء فيه، رفع الله تعالى الحجاب المعنوي عن سمعه فكلمه تعالى من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الله وذلك لأن الله متكلم أزلاً وأبدًا من غير حرف ولا صوت كما قال أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر لأن الكلام الذي يكون بحرف وصوت حادث لأن الحروف يتقدم بعضها عن بعض ويتأخر بعضها عن بعض فيستحيل أن يتكلم الله هكذا لأن هذا من الاعراض التي يشترك بها البشر وغيرهم من المخلوقات والله منزه عن الأعراض في ذاته وفي كل صفاته من علمه وقدرته وحياته.

 

وكلامه تعالى قديم أزلي ليس شيئًا ينقص بمرور الزمان أو يتجدد شيئًا بعد شيء، والدليل على أن كلامه تعالى ليس حرفًا وصوتًا يسبق بعضه بعضًا قوله تعالى: {وهُوَ أسرعُ الحاسبين} [سورة الأنعام] لأنه يكلم كلاً منا يوم القيامة ويفرغ من حسابهم في وقت قصير في لحظة ولو كان كلامه لهم بالحرف والصوت لم يكن أسرع الحاسبين، ولا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى يكلمهم بالحرف والصوت لأن الله تعالى كان متكلمًا قبل خلق اللغات اللغة العربية وغيرها. وأما قوله تعالى: {إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لهُ كُنْ فيكون} [سورة يس/٨٢] فمعناه سرعة الإيجاد من غير مشقة ولا تعب من غير تأخر عن الوقت الذي شاء وجود الشيء فيه، وإنما عبر في القرءان بلفظ كن لأن هذه الكلمة أسهل شيء على الإنسان، والقرءان كما قال الإمام أحمد أمثال ومواعظ.

 

وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله الذاتي الأزلي الذي لا يُشبه كلام البشر، وهذا مقامٌ رفيع ومنصبٌ شريف لموسى عليه السلام، فصلوات الله تعالى عليه وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين. ولما أعطي نبي الله موسى عليه السلام هذه المنزلة العالية وهي سماعه كلام الله تعالى الأزلي، طلب عليه السلام من ربه عز وجل أن يراه فقال: {ربِّ أرِني أنظُر إليكَ قالَ لن تراني} [سورة الأعراف/١٤٣] وعلّق الله تعالى رؤية موسى له بثبات الجبل عند رؤيته تعالى، والله عالم في الأزل أن الجبل لن يثبت ولهذا قال الله تبارك وتعالى لكليمه موسى عليه السلام: {ولكنِ انظُرْ إلى الجبلِ فإنِ استقرَّ مكانهُ فسوفَ تراني} [سورة الأعراف/١٤٣] أي أن الله تعالى تجلّى للجبل بعد أن خلق فيه الإدراك والرؤية فاندكّ الجبل دكًّا وموسى عليه السلام ينظر إليه حتى خرّ عليه السلام مغشيًا عليه من هول ما رأى من اندكاك الجبل، فلما أفاق عليه السلام من غشيته قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأعراف/١٤٣]، أي وأنا أول المؤمنين بأنك لا تُرى بالعين في الدنيا وذلك لأن الله لم يوح إلى موسى وإلى من قبله من الأنبياء أنه لا يُرى بالعين في الدنيا، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تخيّروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى ءاخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور”.

 

أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه موسى عليه السلام التوراة وكانت مكتوبة على ألواح، قيل: كانت من زبرجد وجوهر نفيس، وقيل: كانت من خشب والله أعلم، وكان فيها تشريعات ومواعظ وتفصيل لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أمور الحلال والحرام، وقد أمره الله تعالى أن يأخذ ألواح التوراة بعزم ونية صادقة قوية، ويأمر قومه بني إسرائيل بالعمل بها على الوجه الأكمل محذرًا إياهم من مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ* وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ* وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف/١٤٢-١٤٥]، وقال تعالى: { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [سورة البقرة/٥١].

 

فائدة: من المعلوم لدى علماء أهل الحق أنّ كلام الله تعالى الأزلي الأبدي هو صفته بلا كيف وهو ليس ككلامنا الذي يُبدأ ثم يختم، فكلامه تعالى أزلي ليس بصوت ولا حرف ولا لغة، لذلك نعتقد أنّ نبي الله موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى الأزلي بعد أن أزال الله تعالى عنه الحجاب الذي يَمنع من سماع كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي ليس ككلام العالمين، وكذلك سمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج كلام الله تعالى الذاتي الأزلي، فقد أسمعه الله تعالى بقدرته كلامه الأزلي في ذلك المكان الذي هو فوق سدرة المنتهى وهو مكان شريف لم يُعص الله فيه وليس هو مكانًا يتحيز فيه الله، لأن الله تعالى موجود بلا مكان ولا يجري عليه الزمان، والله تعالى ليس حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا كالنور.

 

وليُعلم أن مذهب أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى لا يُرى بالعين الفانية في الدنيا لقوله تعالى لكليمه موسى عليه السلام عندما سأله الرؤية: {لن تراني}، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “واعلموا أنكم لن تروا ربَّكم حتى تموتوا” وإنما يُرى الله سبحانه وتعالى في الآخرة بالعين الباقية يراه المؤمنون الذين ءامنوا بالله تعالى ورسله وهم في الجنة لا يشبه شيئًا من الأشياء بلا مكان ولا جهة ولا مقابلة ولا ثبوت مسافة ولا اتصال شعاع بين الرائي وبينه عز وجل، يقول الله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضِرة* إلى ربِّها ناظرة}[سورة القيامة/٢٢-٢٣].

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أما إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته” رواه البخاري، أي لا تشكون أن الذي ترون هو الله تبارك وتعالى كما لا تشكون في القمر ليلة البدر، ولا يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن بين الله تعالى وبين القمر مشابهة فهو تعالى أخبر في القرءان أنه لا يشبه شيئًا قال تعالى: {ليسَ كمثلهِ شيءٌ وهُوَ السَّميعُ البصيرُ} [سورة الشورى/١١].