الخميس نوفمبر 21, 2024

ذكرُ أخلاقه الشّريفة

اعلموا أنّ الخلق الحسن كان من صفات وشيم جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الله تبارك وتعالى لا يرسل لهداية عباده إنساناً مطعوناً فيه بسفاهة او بخيانة او رذالة او كذب في الحديث، لا يرسل الله عز وجل لهداية عباده إلا إنساناً نشأ على الصدق والعفة والنزاهة في العرض، والخلق الحسن وحسن معاملة الناس. ولقد كان النبي المصطفى ﷺ أوفر الأنبياء حظاً في ذلك لا يسبقه في ذلك أحد بعده ولا سبقه أحد قبله ﷺ، فهو عليه الصلاة والسلام موفق من قبل الله تبارك وتعالى في تصرفاته كلها، طاهر القلب خالص الطوية، لا ينظر إلى المال والنسب، إنما ينظر إلى الفضل في الدين، وهكذا كل تطوراته ﷺ كانت العناية الربانية تحفها، مع أنه عليه الصلاة والسلام نشأ يتيماً لم يجالس الحكماء، إنما عاش كل عمره بعناية الله تعالى إلى أن نزل عليه الوحي وهو في مكة الفيحاء، وقد كان النبي الأعظم ﷺ منذ نشأته وفي كل مراحل حياته ذا خلق عظيم وأخلاق سامية عالية، فقد أخبر الصحابي الجليل أنس بن مالك خادم الرسول ﷺ: “أن رسول الله ﷺ كان أحسن الناس خلقاً”.

وقالت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله ﷺ: “لم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً ولا سخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح او قالت يعفو ويغفر اي يسامح”، رواه أبو داود.

ولقد دلّت الآية الكريمة: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [سورة القلم] على عظيم أخلاقه ﷺ.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت عندما سئلت عن خلق رسول الله ﷺ: “فإنّ خُلُق رسول الله ﷺ كان القرآن” رواه مسلم في الصحيح.

فما أكرمه ﷺ على الله تعالى إذ جعل الله تعالى خلقه القرآن، يرضى بما يرضاه القرآن ويتأدب بآداب ويلتزم أوامره ولا يغضب ﷺ لنفسه وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله تعالى، فإذا انتهكت حرمة الله تعالى كان أشد الناس غضباً لله كما ورد في الحديث الشريف، وكان ﷺ لا يقول في حالة الرضا والغضب إلا الحق قطعاً لأنه ﷺ معصوم محفوظ كغيره من إخوانه الأنبياء.

ومن جملة أخلاقه عليه الصلاة والسلام أنّ الله عز وجل بعثه بالإرفاق اي رفقاً بهذه الأمة لكي يتمم مكارم الأخلاق، قال الله تبارك وتعالى في وصف رسوله الكريم ﷺ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)} [سورة التوبة].

وكان النبي الأعظم ﷺ أشجع الناس وأقواهم قلباً وأكثرهم جراءة لملاقاة العدو، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله ﷺ وكان أشدّ الناس بأساً.

وكان النبي المصطفى ﷺ أسخى الناس كفّاً وأجود الناس بذلاً في سبيل الله، وأخبار كرمه وسخائه ﷺ عديدة منها ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً قطّ إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله فأمر له بغنم بين جبلين، فأتى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً يُعطي عطاء من لا يخاف الفاقة.

وكان النبي المصطفى ﷺ أصدق الناس لهجة أي كلاماً وأوفى الناس ذمة اي عهداً وأماناً وكان أوفى من وفى، وكان أحسنهم معاشرة فقد كان ﷺ على الغاية من التواضع، وكان أكرمهم في عشرة اي في حسن صحبة من يصاحبه ويعاشره، لا يحسب من يجالسه أن سواء أقرب اليه منه لعظم إكرامه له.

وكان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان نظره ﷺ إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، لأنه كان أكثر الناس حياء وأدباً مع ربه سبحانه وتعالى. فقد كان نظره ﷺ إلى الأرض حال السكوت وعدم التحدث أطول من نظره إلى السماء.

وكان النبي المصطفى ﷺ أكثر الناس تواضعاً كيف وقد خير بين ان يكون نبياً ملكاً او نبياً عبداً فاختار ﷺ الثاني وهو أن يكون نبياً عبداً. وكان عليه الصلاة والسلام يجيب كل من دعاه من بعيد او قريب من عبد أو حر أو فقير أو غني أو دني أو شريف، وكان ﷺ أرحم الناس بكل مؤمن وبكل طائف عليه فلا يختص برحمته من يعقل من الناس بل كانت رحمته ﷺ تعمُّ جميع الخلائق حتى من لا يعقل كالوحش والطير حتى إن الهرة كانت تأتيه فيصغي لها الإناء أي يميله لها لتشرب منه، وكان يفعل ذلك غير مرة بل كل هرة أتته يفعل بها ذلك.

وكان النبي المصطفى ﷺ أعفّ الناس عن فعل المحرمات فلم تمس يده الشريفة ﷺ يد امرأة لا تحل له، وكان ﷺ يقول: “إني لا اصافح النساء”([1]). وكان عليه الصلاة والسلام أشد الناس لأصحابه إكراماً لهم، ومن ذلك انه كان لا يمد رجليه بين جلسائه احتراماً لهم. من رآه ﷺ بديهة يعني فجأة من غير مخالطته هابه وعظّمه، ومن خالطه وعاشره أحبه لما يشاهده من محاسن أخلاقه ومزيد شفقته وتواضعه ﷺ وباهر عظيم تألفه وأخذه بالقلوب، فكانت تحنُّ إليه ﷺ الأفئدة وتقرّ به العيون وتأنس به القلوب، فكان كلامه عليه الصلاة والسلام نوراً ومَدْخلهُ نوراً ومَخرجهُ نُوراً وعَملهُ نوراً، إن سكت علاهُ الوقار وإن نطقَ أخذَ بالقلوب والبصائر والأبصار.

وكان ﷺ إذا سُرَّ استنار وجهه حتى تحسب وجهه من السرور بدراً نيّراً.

وكان النبيُّ المصطفى ﷺ غاية في التواضع يمشي مع المسكين والأرملة إذا اتياه في حاجة من غير ما أنفة، وكان ﷺ يخدم نفسه بنفسه من غير ان ينتظر خدمة غيره له، فكان عليه الصلاة والسلام يخصفُ نعله اي يخرزها ويصلحها، ويخيط ثوبه أي يرقعه ويعمل في بيته كما يعمل آحاد الناس، وكان يجلب شاته ويتعاطى خدمة نفسه بنفسه ولا يعيبه ذلك.

وكان عليه الصلاة والسلام في بيته في مهنة أزواجه اي خدمتهم يتعاطى ذلك معهم وربما تحمله عنهم جملة، وذلك مثل تقطيع اللحم الذي يقدم إليه للأكل بالسكين، فإنه كان يتولى ذلك بنفسه ولا يأنف من ذلك، وكان ﷺ يُردف خلفه عبده أو خادمه أو قريبه يفعل ذلك على الحمار وغيره من نحو ناقة أو بغلة ولا يأنف من ذلك.

ومن عظيم أخلاقه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجالس الفقراء والمساكين والعبيد والإماء ويعودهم ويزورهم ويتفقد حالهم ويشهد جنائزهم ويكرم أهل الفضل والكرام حتى يأتوا إليه، وربما بسط لبعضهم رداءه المبارك وكان يقول ﷺ: “إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه” رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما. وكان عليه الصلاة والسلام يحافظ على تألف أهل الشرف ترغيباً لهم ولقومهم في الإسلام، وكان ﷺ يقبل بوجهه وحديثه على أشراف القوم.

ومن أخلاقه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يواجه أحداً من الناس بشيء يكرهه لا سيما جليسه بل يواجهه بالرضا ويقول إذا بلغه عن أحد ما يكرهه: “ما بالُ أقوام يصنعون كذا” ولا يقول ما بال فلان يفعل كذا.

 

كان ﷺ يمزح مع أصحابه مؤانسة لهم وتألفاً لما كانوا عليه من شدة، فكان يمازحهم تخفيفاً عليهم، لكن لا يقول إلا حقاً لأنه ﷺ معصوم ومحفوظ عن الكذب كغيره من الأنبياء، فالمزاح لا ينافي الكمال حيث لم يخرج عن القوانين الشرعية. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجلس في الأكل مع العبيد الأرقاء ويتشبه بهم في الجلوس للأكل فلا يترفع عليهم، وكان يقول ﷺ: “إنما أنا عبد آكلُ كما يأكل العبيد وأجلس كما يجلس العبيد”. وكان ﷺ يقول: “آكلُ كما يأكل العبد”. والمراد بالعبد هنا الإنسان المتذلل المتواضع لربه اي في القعود وهيئة التناول والرضا بما حضر تواضعاً لله تعالى.

وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام “اللهمّ أحيني مسكيناً (أي متواضعاً وأمتني مسكيناً واحشرني في زُمرة المساكين”.

وكان من عظيم أخلاقه ﷺ، أنه كان يذهب إلى بساتين أصحابه يقصد بذهابه إليهم اكرامهم وتألفهم، وكان ﷺ يعجب مما يعجبون ويضحك مما يضحكون فما كان يرى ﷺ بوجهه عبوس، وكان أصحابه حتى يتناشدون فيما بينهم الأشعار بحضرته يضحكون ويذكرون أشياء من أمور الجاهلية فما يزيدهم على ان يشركهم تبسماً في وجههم تلطفاً بهم وإيناساً لهم، فما أعظم أخلاقه ﷺ وحسن معاشرته لأصحابه. وقد وسع حلم النبي ﷺ جميع الناس في معاشرتهم ببسط الخلق فهم عنده في الحلق سواء فقد ثبت من سيرته عليه الصلاة والسلام أنه ما نهر خادماً قطّ فيما فعله او تركه وما قال له في شيء صنعه لم صنعته ولا في شيء تركته بل كان ﷺ يقول: “لو قُدّر شيء” أي لو قدر الله فعل هذا الأمر أو الشيء لكان، وكان مجلسه عليه الصلاة والسلام مجلس حلم وصبر وحياء يبدأُ من لقيه بالسلام ويُؤثُر الداخل عليه بالوسادة أو يبسطُ له ثوباً زيادة في إكرامه.

ومن أخلاق النبي المصطفى ﷺ أنه كان شديد الرحمة بالخلق يعفو ويصفح، ومن أمثلة ذلك أنه قيل له: قد دع نوح على قومه فلو دعوت على من وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسر رباعيتك ولو دعوتَ على دَوْسٍ (قبيلة من اليمن الأزْد) وغيرهم من الكفار، فقال عليه الصلاة والسلام: “إنما بُعثتُ رحمة ولم أُبعثْ لعَّاناً” رواه مسلم، فلم يُجب من سأله إلى الدعاء عليهم رحمةً بهم بل دعا ﷺ لهم فقال: “اللهم اهدِ دَوساً وائتِ بهم مسلمين” فأصبحوا رؤوساً في الإسلام وهذا من عظيم حسن خلقه ﷺ.

 

كذلك لم يكن النبي المصطفى ﷺ فحاشاً ولا لعّاناً ولم يكن بخيلاً ولا جباناً أي ضعيف القلب عن القتال ونحوه، وكان عليه الصلاة والسلام يختار أيسر الأمور ورحمة بأمته، فكان ﷺ إذا خُيّر بين أمرين أو أمور اختار أيسرها إلا أن يكون إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه.

فعن السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها قالت: “ما ضرب رسول الله ﷺ خادماً له قطّ ولا امرأة له قطّ وما ضرب بيده إلا ان يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن انتهك محارم الله فينتقم لله عزّ وجل، وما عُرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما إلا أن يكون مأثماً فإن كان مأثماً كان أبعد الناس منه” رواه البخاري ومسلم.

ومن أحواله عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يراه أحد وهو يضحك بملء فيه، بل كان يضحكه ﷺ في أغلب أحواله تبسماً. وكان عليه الصلاة والسلام يحب الفأل وهو أن يسمع كلاماً حسناً فيتيمّنُ به خيراً، وكان يكره الطيرة وهي التشاؤم بالشيء يسمعه او يراه.

وكان من شأنه وأحواله عليه الصلاة والسلام أنه يعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه ولا يزيده كثرة الأذى عليه إلا صبراً وحكمة، فقد كان النبي المصطفى ﷺ حليماً صبوراً لا يجزي بالسيئة مثلها أي لا يجازي الكلام والفعل القبيح بمثله ولكن يقابله بالعفو والصفح مع القدرة على الانتقام، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه اي جذبه بردائه جبذة شديدة حتى نظرتُ إلى صفحة عنق رسول الله ﷺ قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمّد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثم ضحك ثم أمر له بعطاء. رواه البخاري ومسلم.

ومن ذلك عفوه ﷺ عن المرأة اليهودية التي سمّته، وعن اليهودي الذي تقاضاه دينه فأغلظ عليه في الكلام فلم يردّ الرسول ﷺ بالمثل فأسلم الرجل.

وأخباره عليه الصلاة والسلام في عفوه وصفحه وصبره على أذى الغير له كثيرة جداً وكلها تشهد بعظيم حسن خلقه ﷺ، فسبحان من كمل حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام بهذه الأوصاف والخصال الجميلة والجليلة، وصدق الله العليّ العظيم حيث قال في محكم كتابه واصفاً نبيّه المصطفى ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [سورة القلم].

 

([1] ) رواه مالك في الموطأ وابن حبّان في صحيحه وغيرهما.