دحض ما لحق بالشيخ مُحْيِي الدين بن عربي من شبهات وبراءته من عقيدة الحلول والاتحاد
إن مما ابتُلينا بهِ في هذا العصرِ أناسًا يروِّجون الأكاذيبَ الملفَّقةَ والأقاويلَ الفاسدةَ باسمِ الصوفيةِ وهم في الحقيقةِ ما عرفوا من الصوفية إلا الاسمَ بل هم بعيدونَ كلَّ البعدِ عن التصوفِ كما نرى أناسًا ءاخرونَ يذمُّونَ الصوفيَّةَ بالإطلاقِ ويعتبرونَ التصوفَ كفرًا وزندقة,ً ليستِ الصوفيةُ مذمومةً على الإطلاقِ بل المذمومُ هو من ادَّعى التصوفَ ثم خالفَ الشريعةَ وترك العملَ بما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا بد للصوفيِّ أن يعملَ بما جاء عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا ليس كما يقولُ بعضُ مدعي التصوفِ عن الذين يشتغلونَ بالعلمِ أنتم أهلُ الظاهرِ أما نحنُ أهلُ الباطن، يقولونَهَا على معنى الذمِّ وهذا فسادٌ لا يقبلُه الدين.
فالتصوُّفُ هو صفاءُ المعاملةِ مع اللهِ والصدقُ بالقولِ والعملِ والنِّية، واجتنابُ المحرمِ والتزامُ الواجبِ والإكثارُ من نوافِلِ الطاعاتِ وتعلُّقُ القلبِ بالآخرةِ والعطفُ على الفقراءِ والمساكينِ ومساعدةُ الأراملِ والمحتاجينَ وعدمُ تعلقِ القلبِ بالدُّنيا وزينَتِها مع التواضُعِ والانكسارِ وغضِّ البَصَرِ وحِفظِ الجوارحِ مع الحِلمِ والتأَدُّبِ بآدابِ الشريعةِ واتِّباعِ الرسولِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، والعمل بقولِ اللهِ تعالى (قل إنْ كنتم تحبونَ اللهَ فاتبعونِي يحبِبْكُمُ الله).
الصوفية هم الذينَ صفَتْ نفوسُهم وزكَت أعمالهُم فمن كانَ بهذهِ الصفةِ فهو من أحبابِ اللهِ تعالى، وقد كانَ أولُ الصوفيةِ أبو بكر الصديقُ رضي اللهُ عنه ثم أشباهُه في سيرتِه التي هي صفاءُ المعاملةِ واتباعُ الرسول فمن أدّى الواجبِات واجتنب المحرمِات وأخلصَ للهِ في سرِّه وأحسنَ نيتَهُ فذلك هو الصوفِيُّ الذي تستَنْزِلُ الرحماتُ بذكرِه، ليسَ التصوفُ مجردَ لبسِ الثيابِ الرَّثةِ وعدمِ الاكتراثِ إلى صنوفِ الملذَّاتِ بل لا بد منَ التَّقوى قبلَ كلِّ ذلك، فكم من أناسٍ يظهرونَ أنفُسَهُم بمظْهَرِ التصوُّفِ ثم نراهُم يُحرِّفونَ دينَ اللهِ تعالى بل ومِنهم من يعتقِدُ الحلولَ والاتحادَ أي على زعمِهم أنَّ اللهَ حلَّ فيهم وهذا كفرٌ وضلالٌ، فمثلُ هؤلاءِ هم من أساءوا إلى التصوُّفِ حتى ظنَّ بعضُ الناسِ أن الصوفيَّةَ كلَّهُم على هذا الاعتقادِ.
ومن الكتب التي يجب التحذير منها كتاب [الفتوحات المكية] فإنها تحتوي على كلمات كثيرة من الكفر الصريح الذي لا تأويل له كما قال المحدث الحافظ وليِّ الدين العراقي في رسالة له سمّاها [الأجوبة المرضية](1)، كذا يجب التحذير من كتاب -فصوص الحكم- وبعضٍ غيرها من مؤلفات الشيخ محيي الدين بن عربي رضي الله عنه.
وأمّا الشيخ مُحْيِي الدين بن عربي رضي الله عنه فاعتقادنا فيه أنه من العلماء الصالحين والصوفية الصادقين الزاهدين، ترجمه الحافظ ابن حجر في لسان الميزان(2)، وذكر أنه اعتدّ به حُفّاظ عصره كابن النجار.
وأكثر ما في كتابيه المذكورين مما هو مدسوس عليه مما ليس من كلامه كلمات الوحدة المطلقة، ففي كتابه -الفتوحات المكية- ما يخالف ذلك فإن فيها ذم عقيدة الوحدة المطلقة، وذم عقيدة الحلول، فمما فيه لإبطال الوحدة المطلقة والحلول قوله في الفتوحات المكية (من قالَ بالحلولِ فدينُهُ معلولٌ وما قالَ بالاتحادِ إلا أهلُ الإلحادِ). اهـ
فبعد هاتين العبارتين الصريحتين في ابطال عقيدة الوحدة المطلقة وعقيدة الحلول، لا يجوز أن يصدّق على الشيخ محيي الدين ما في بعض المواضع الأخرى من هذا النوع.
ومعناهُ من اعتقَدَ بالحلولِ أو الاتحادِ فهو كافرٌ ملحِدٌ والعياذُ باللهِ وكانَ من هؤلاءِ رجلٌ اسمُهُ الحلاّجُ كان يدَّعي التصوفَ ثم يقولُ ما في الجُبَّةِ إلا اللهُ وأنا اللهُ وقد بعثَ مرةً برسالةٍ إلى أحدِ مريديهِ يقولُ له فيها من الرحمنِ الرحيمِ إلى فلان، والعياذُ باللهِ من هذا الكفرِ.
فالتصوفُ بريءٌ من مثلِ هذا الرجلِ الذي تفَرَّسَ فيهِ الجنيدُ إمامُ الصوفيةِ العارفينَ حيثُ قالَ له: لقد فتحتَ في الإسلامِ ثغرةً لا يسدُّها إلا رأسُك، فتحقَّقَتْ فراسَةُ الجنيدِ بالحلاجِ الذي قُتِلَ على يدِ الخليفةِ المقتدِرِ باللهِ فأراحَ اللهُ المسلمينَ من فسادِه وشرِّه، وقد قالَ سيدُنا أحمدُ الرفاعيُّ الكبيرُ عن الحلاجِ (لو كانَ على الحقِّ ما قالَ أنا الحق) وليُعلم أيضًا أنهُ ليس من التصوفِ الاجتماعُ باسمِ الطريقةِ بدعوى الذكرِ كما يفعلُ بعضُ المنتسبينَ إلى بعضِ الطرقِ ثم نراهم يحرِّفونَ اسمَ اللهِ كأن يقولوا اللا بدلَ الله ثم يقولونَ بعدَ ذلكَ ءاه ءاه فذلكَ من الحرامِ الذي لا يرضى اللهُ بهِ لأنَّ فيه تحريفًا لاسمِ اللهِ واللهُ تعالى يقولُ (وللهِ الأسماءُ الحسنى فادعوهُ بها وذرُوا الذين يُلحدونَ في أسمائِه).
ومما في الفتوحات المكية مما لا يصدّق عليه ما نقله بعض أهل عصرنا وهو محمد الهاشمي التلمساني نزيل دمشق في رسالة ألفها عن الفتوحات المكية:
كل كلام في العالم كلامه القول كله حَسَن فما وافق الغرض فهو أحسن. أهـ وقد حضرتُ مجلس الشيخ الولي أحمد الحارون الدمشقي رحمه الله وكان معروفا في بلده دمشق بالكشف فسألته أن الشيخ محمدا الهاشمي ألّفَ رسالة ذكر فيها نقلا عن كتاب الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية هذه العبارة المذكورة فقال الشيخ أحمد: هذا الشيخ ما له حق في أن يذكر هذا، الفتوحات المكية فيها دس كثير. أهـ
وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه لطائف المنن والأخلاق مما يؤيد ما ذكرنا ما نصّه(3):
وقد نقل الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية إجماع المحققين على أن من شرط الكامل أن لا يكون عنده شطح عن ظاهر الشريعة أبدا بل يرى أن من الواجب عليه أن يُحِقَ الحق ويبطل الباطل، ويعمل على الخروج من خلاف العلماء ما أمكن. انتهى
هذا لفظه بحروفه ومن تأمله وفهمه عرف أن جميع المواضع التي فيها شطحٌ في كتبه مدسوسة عليه لا سيما كتاب -الفتوحات المكية- فإنه وضعه حال كماله بيقين، وقد فرغَ منه قبيل موته بنحو ثلاث سنين، وبقرينة ما قاله في الفتوحات المكية في مواضع كثيرة من أن الشطح كله رعونة نفس لا يصدر قط من محقق، وبقرينة قوله أيضا في مواضع (من أراد أن لا يضلّ فلا يرم ميزان الشريعة من يده طرفة عين بل يستصحبها ليلا ونهارا عند كل قول وفعل واعتقاد). انتهى
انتهى كلام الشعراني.
ثم قال الشيخ الشعراني في لطائف المنن ما نصه (4):
وليحذر أيضا من مطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه لعلو مراقيها، ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ لا سيما الفصوص والفتوحات المكية، فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه عن الشيخ بدر الدين بن جماعة أنه كان يقول: جميع ما في كتب الشيخ محي الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء فهو مدسوس عليه، وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب القاموس في اللغة.
قلتُ [الشعراني]: وقد اختصرتُ الفتوحات المكية وحذفتُ منها كل ما يخالف ظاهر الشريعة، فلما أخبرت بأنهم دسوا في كتب الشيخ ما يوهم الحلول والاتحاد وَرَد عليّ الشيخ شمس الدين المدني بنسخة الفتوحات التي قابلها على خط الشيخ بقونية فلم أجد فيها شيئا من ذلك الذي حذفته ففرحتُ بذلكَ غاية الفرح، فالحمد لله على ذلك. انتهى كلام الشعراني
قال الشيخ أبو الهدى الصيادي ما نصّه (5):
والكثير من هذه الفرقة قام قائمهم وقعد قاعدهم منهمكا بمطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي طاب مرقده، ولا بدع فكتب الشيخ كثرت فيها الدسائس من قبل ذوي الزيغ والبهتان، وعصائب الشيطان، وهذا الذي يطيب القول به لمن يريد براءة الذمّة من القطع بما لم يعلم والله تعالى قال (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الاسراء، وقد نسبوا أعني الدساسين للشيخ ما لا يصح لا عقلا ولا شرعا، ولا ينطبق على حكمة نظرية، ولا يوافق صحاح القواعد العرفانية. اهـ
ثم قال بعد كلام ما نصه (6):
والحق يقال: الذي عليه أهل الورع من علماء الدين أنه لا يحكم على ابن عربي رحمه الله نفسه بشيء لأنا لسنا على يقين من صدور مثل هذه الكلمات منه، ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكنا نحكم على مثل هذا الكلام بأنه كفر. اهـ
وقال صاحب المعروضات المزبورة أحد الفقهاء الحنفية المشهورين (تيقنا أن اليهود دسوا عليه في فصوص الحكم). اهـ
ـــــــــــــــــــ
1 الأجوبة المرضية، مخطوط (ق/172).
2 لسان الميزان (5/353).
3 لطائف المنن والأخلاق (ص/390).
4 لطائف المنن والأخلاق (ص/394)
5 مراحل السالكين (ص/61)
6مراحل السالكين (ص/6999)