خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ:
خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [سُورَةَ الطَّلاق/12]، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِذَلِكَ، فَأَرْضُنَا هَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنَ الأَرَاضِي السَّبْعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَبْدَعَهَا.
وَالسَّمَوَاتُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَظِيمَةُ الْخِلْقَةِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَةِ الْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَمْكُ السَّمَاءِ الْوَاحِدَةِ مَسَافَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَكُلُّهَا مَشْحُونَةٌ بِالْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُقَدِّسُونَهُ وَلا يَفْتُرُونَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسَافَةَ التي مَا بَيْنَ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسَافَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَلِكَ الْمَسَافَةُ مَا بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ، فَالسَّمَوَاتُ السَّبْعُ مُتَرَاكِبَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الأُخْرَى وَكَذَلِكَ الأَرَاضِي السَّبْعُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [سُورَةَ نُوح]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [سُورَةَ النَّبَأ/16] أَيْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ شَدِيدَةٌ عَظِيمَةُ الْخِلْقَةِ فِي اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَاضِي السَّبْعِ كَانَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا نَعُدُّ أَيْ بِتَقْدِيرِ أَيَّامِنَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/47]، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾ [سُورَةَ ق/38] أَيْ تَعَبٍ وَإِعْيَاءٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/54]، وَمَعْنَى ثُمَّ اسْتَوَى أَيْ وَقَدِ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ أَيْ قَاهِرًا لَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ مَعْنَى ثُمَّ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ أَيْ قَهْرَهُ لِلْعَرْشِ حَصَلَ بَعْدَمَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَنَّ ثُمَّ تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ وَهَذَا مَعْنَاهَا فِي هَذِهِ الآيَةِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَمَا يَتَصَوَّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ بَعْدَمَا خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ صَعِدَ إِلَى السَّمَوَاتِ وَخَلَقَهَا فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ مَرَافِقَ الأَرْضِ الْجِبَالَ واَلأَنْهَارَ وَالْمَرْعَى وَءَادَمَ فِي يَوْمَيِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْعَرْشِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ هَذَا تَحْرِيفٌ لِلْقُرْءَانِ وَوَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّنَقُّلِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَلَيْسَ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَوْكَبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَصْلُحُونَ لِلأُلُوهِيَّةِ لِكَوْنِهِمْ يَتَنَقَّلُونَ، أَلَيْسَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾.
وَكَانَ خَلْقُ الأَرْضِ فِي الْيَوْمَيْنِ الأَوَّلَيْنِ وَهُمَا يَوْمَا الأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ فِي الْيَوْمَيْنِ التَّالِيَيْنِ وَهُمَا الثُّلاثَاءُ وَالأَرْبِعَاءُ، وَأَمَّا فِي الْيَوْمَيْنِ الأَخِيرَيْنِ وَهُمَا الْخَمِيسُ وَالْجُمُعَةُ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَرَافِقَ الأَرْضِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الإِنْسَانُ مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ وَوِدْيَانٍ وَأَشْجَارٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَقْدَ كَانَ بَدْءُ خَلْقِ الْمَلائِكَةِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ السِّتَّةِ وَكَذَلِكَ خَلْقُ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَأَمَّا سَيِّدُنَا ءَادَمُ الَّذِي هُوَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ فَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ءَاخِرِ الْيَوْمِ السَّادِسِ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ فَكَانَ ءَادَمُ ءَاخِرَ أَنْوَاعِ الْعَوَالِمِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ ءَادَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا»، وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ خَلْقِ ءَادَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ بَدَءَهُ التُّرْبَةُ الَّتِي نُقِلَتْ مِنَ الأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ فَعُجِنَتْ هَذِهِ التُّرْبَةُ بِمَاءِ الْجَنَّةِ ثُمَّ مَكَثَ طِينًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ جَعَلَهُ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ ثُمَّ حَوَّلَهُ عَظْمًا وَلَحْمًا وَدَمًا ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ الْرُّوحُ الطَّيِّبَةُ الْكَرِيمَةُ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي﴾ أَيِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِي وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدِي. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ].
فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَ الأَرْضَ أَوَّلًا فِي يَوْمَيْنِ لِأَنَّ الأَرْضَ كَالأَسَاسِ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ السَّمَوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ وَهِيَ كَالسَّقْفِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/32]، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/29].
ومَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أَيْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِخَلْقِ السَّمَاءِ، أَيْ خَلَقَ الأَرْضَ ثُمَّ ألْحَقَ السَّماءَ بِالأَرْضِ، وبَعْضُهُم يَقُولُ ﴿اسْتَوَى﴾ قَصَدَ لكِنْ هَذِهِ فِيهَا مَا فِيهَا لِأَنَّهَا تُوهِمُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَتَجَدَّدُ وَهَذَا مَحْظُورٌ بَاطِلٌ، مَشِيئَةُ اللَّهِ وَاحِدَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ بِعَدَدِ الْمَخْلُوقَاتِ.
فَائِدَةٌ الْحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فِي سِتِّةِ أَيَّامٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيمُ النَّاسِ التَّأَنِّيَ فِي الأُمُورِ وَالتَّرَوِّيَ وَعَدَمَ الِاسْتِعْجَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سُورَةَ يس/82] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي لَحْظَةٍ، وإِنَّمَا مَعْنَاهُ يَخْلُقُ الْعَالَمَ بِدُونِ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ وَبِدُونِ مُمَانِعٍ يُمَانِعُهُ وَبِدُونِ تَأَخُّرٍ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ وُجُودَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أَنَّهُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يُوجِدَ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يَقُولُ لَهُ كُنْ أَيْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كَافٍ وَنُونٍ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنَّهُ يَنْطِقُ بِعَدَدِ كُلِّ مَا يَخْلُقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كُنْ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ اللُّغَاتِ، إِنَّمَا هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَادِهِ تَعَالَى الأَشْيَاءَ بِدُونِ تَعَبٍ كَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ يَكُونُ أَسْهَلَ شَىْءٍ عَلَيْهِ التَّلَفُّظُ بِكُنْ لا يُعَانِي مِنْهُ مَشَقَّةً، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا تَفْهِيمًا لِلْمَعْنَى لإِفْهَامِ الْخَلْقِ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْقُرْءَانُ أَمْثَالٌ وَمَوَاعِظُ» أَيْ لَيْسَ كُلُّ الْقُرْءَانِ عَلَى ظَوَاهِرِهِ.
الإشعارات