خَاتِمَةٌ
(خُلاصَةُ مَا مَضَى مِنَ الأَبْحَاثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ) وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا هُوَ (وَ)أَنَّ (رَسُولَهُ) مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ (وَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ وَلَوْ مَرَّةً فِى الْعُمُرِ وَرَضِىَ بِذَلِكَ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ) وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ« أَىْ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُخَلَّدَ وَيُؤَبَّدَ فِى النَّارِ فَإِنْ دَخَلَ النَّارَ بِذُنُوبِهِ فَلا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ (وَ)أَمَّا (مَنْ عَرَفَ) اللَّهَ (وَنَطَقَ) أَىْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (وَلَمْ يَعْتَقِدْ) مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ (فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلا بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِخَفَاءِ بَاطِنِهِ عَلَيْنَا) فَإِذَا أَظْهَرَ لَنَا إِنْسَانٌ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَتَشَهَّدَ وَصَلَّى وَلَمْ نَعْلَمْ مِنْهُ كُفْرًا نُجْرِى عَلَيْهِ أَحْكَامَ الإِسْلامِ ثُمَّ نَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهِ (وَإِنْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ وَيَكْرَهُ الإِسْلامَ بَاطِنًا أَوْ يَتَرَدَّدُ فِى قَلْبِهِ هَلِ الإِسْلامُ صَحِيحٌ أَمْ لا) أَىْ عِنْدَهُ شَكٌّ بِصِحَّةِ الإِسْلامِ (فَهُوَ مُنَافِقٌ كَافِرٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ فَهُوَ وَالْكَافِرُ الْمُعْلِنُ خَالِدَانِ فِى النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَقَوْلُ الْبَعْضِ) لا يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ إِنَّمَا (يَصِحُّ إِيمَانُ الْكَافِرِ بِلا نُطْقٍ مَعَ التَّمَكُّنِ) أَىْ إِنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ وَجَزَمَ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَّا أَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ فَأَبَى النُّطْقَ بِهَا (قَوْلٌ بَاطِلٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ) وَهَذَا الْقَوْلُ خِلافُ عَقِيدَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ نَقَلَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ لا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ »مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ) عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ (يَكْفِيهِ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِقَادُ لِصِحَّةِ إِسْلامِهِ وَإِيمَانِهِ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ) بِالشَّهَادَتَيْنِ (بِالْمَرَّةِ«) وَكَذَلِكَ مَنْ نَشَأَ عَلَى عَقِيدَةِ الإِسْلامِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ طَالَمَا لَمْ يَعْتَقِدِ اعْتِقَادًا كُفْرِيًّا وَلَمْ يَنْطِقْ بِكَلامٍ كُفْرِىٍّ وَلَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا كُفْرِيًّا (ثُمَّ مَنْ صَحَّ لَهُ أَصْلُ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ ثُمَّ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُسَامِحُهُمُ اللَّهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُسَامِحُهُ وَمَنْ لا يُسَامِحُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَابَ فَأَدَّى جَمِيعَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ« حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) فِى سُنَنِهِ (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) فَمَهْمَا أَذْنَبَ الشَّخْصُ وَتَابَ وَأَذْنَبَ وَتَابَ وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فَبَابُ التَّوْبَةِ مَا زَالَ مَفْتُوحًا لَمْ يُغْلَقْ بَعْدُ (وَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُسْلِمُ أَوْ أُقَاتِلُ قَالَ »أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ« فَأَسْلَمَ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا« أَىْ لِأَنَّهُ نَالَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ الإِسْلامُ كُلَّ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ فَالْفَضْلُ لِلإِسْلامِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَنْفَعْهُ أَىُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ الْتَحَقَ بِالْمُجَاهِدِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا) لِلْجِهَادِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ فَسَأَلَ فَأَرْشَدَهُ الرَّسُولُ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ يُقَاتِلَ) فَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ يُغْفَرُ لَهُ وَلا يُعَذَّبُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ذُنُوبٌ مِثْلُ الْجِبَالِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَفْضَلِ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لا رِيَاءَ فِيهَا فَالشَّهِيدُ مَهْمَا كَانَ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخَيَّرُ مِنْ أَىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ ثُمَّ الشَّهِيدُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ يَحْمِلُونَ رُوحَهُ بِكَفَنٍ بِخِرْقَةِ حَرِيرٍ مِنَ الْجَنَّةِ يَأْخُذُونَ هَذِهِ الرُّوحَ مِنْ عَزْرَائِيلَ وَلا يَتْرُكُونَهَا فِى يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ مِنْ أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا الدَّيْن فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّبُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اللَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ وَفَتْ حَسَنَاتُهُ وَإِلَّا فَمِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ يُؤَدَّى عَنْهُ. وَمِمَّا خُصَّ بِهِ الشَّهِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُرْحَهُ يَكُونُ لَوْنُهُ لَوْنَ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ أَىْ عَلامَةً عَلَى أَنَّهُ فَائِزٌ عِنْدَ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ.
الإشعارات