الدرس السادس والخمسون
حسن الخلق وطول الصمت
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلاة الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وخاتم النبيين وحبيب رب العالمين وشفيع المؤمنين يوم الدين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين.
وبعد فإن الله تبارك وتعالى أنعم علينا بجوارح لنستعملها فى طاعته وما ينفعنا ولنحفظها عن معاصيه. أنعم علينا بهذه الجوارح ليبتلينا فمن استعمل هذه الجوارح فى ما يرضى الله تبارك وتعالى وتجنب استعمالها فى ما حرم الله فهو من الشاكرين ليس عليه فى الآخرة مؤاخذة عليها لأنه استعملها فى ما أذن الله فيه وحفظها عما نهى الله عنه وحرمه.
ثم هذه الجوارح بعضها أشد من بعض فى ارتكاب المعاصى وأشدها ارتكابا للمعاصى اللسان لذلك أوصى رسول الله ﷺ بطول الصمت إلا من الخير [رواه البيهقى فى شعب الإيمان]، الخير هو ما كان من ذكر الله أو قراءة القرءان أو تهليل أو تسبيح أو تحميد أو تكبير وغير ذلك مما هو من تمجيد الله تعالى وكذلك الكلمة التى يقولها المؤمن ليدخل السرور على أخيه المؤمن هذه من حسنات اللسان حتى إن السلام من المؤمن على المؤمن حسنة من الحسنات، إن نوى به وجه الله تعالى يكتسب بالسلام عند الله أجرا، ثم شرط الثواب على هذه الحسنات التى يكتسبها بلسانه من ذكر وسلام على المؤمن هو أن يقصد بها وجه الله تعالى، الله تبارك وتعالى أمر عباده بهذه الأشياء أمرنا بذكره وتمجيده وتسبيحه وتقديسه وما كان من الكلام فيه منفعة أخروية أو منفعة دنيوية مباحة فى شرع الله تعالى مع نية الاستعانة بها على طاعة الله تعالى.
ثم إن رسول الله ﷺ حثنا على أن نخزن ألسنتنا عن ما لا يعنينا. روينا فى كتاب الصمت لعبد الله بن محمد بن عبيد القرشى أن رسول الله ﷺ قال خصلتان ما إن تجمل الخلائق بمثلهما حسن الخلق وطول الصمت اهـ [رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت والبيهقى فى شعب الإيمان] معنى الحديث أن هاتين الخصلتين فيهما خير كبير حسن الخلق وطول الصمت، أما حسن الخلق فهو عبارة عن أن يلتزم الشخص بذل المعروف إلى الناس أى أن يحسن إلى الناس بالقول والفعل ويكف أذاه عنهم ويتحمل أذاهم. حسن الخلق عبارة عن هذه الأمور بذل المعروف أى الإحسان إلى الناس تبذل إحسانك للناس من غير أن تجعل إحسانك فى مقابل إحسان يصل إليك من غيرك بل توطن نفسك على أن تحسن إلى الناس إن أحسنوا إليك وإن لم يحسنوا إليك، تعمل المعروف مع الذى يعرف لك ويقابلك بالمعروف ومع الذى لا يعرف لك معروفك ولا يقابلك بالمعروف تحسن إلى هذا وإلى هذا، هذا الذى كان عليه الرسول ﷺ ليس أن تحسن إلى من يحسن إليك وتسىء إلى من يسىء إليك بل توطن نفسك أى تلزمها الإحسان إلى غيرك بأن تبذل معروفك للناس من غير نظر إلى أنهم يحسنون إليك كما تحسن إليهم أو لا يحسنون إليك فأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يحسنون إلى من يستجيب لهم وإلى من لا يستجيب لهم أى كانوا يحبون الخير للناس لذلك كان دأبهم الصبر على ما يظهر من أممهم الذين يدعونهم إلى الدين فإنهم كثيرا ما كانوا يسيئون إليهم ويتعبونهم ويؤذونهم ومع ذلك يثبتون على محبة الخير لهم. والمراد بالخير هنا هو ما كان خيرا عند الله. ليس الخير هنا يراد به كل ما تحبه النفس. كانوا لا يطلبون منهم أجرا إنما يدعونهم إلى طاعة الله تبارك وتعالى ثم هم يقابلونهم بالإيذاء والسب والافتراء عليهم إلا من رحم الله وهم أهل السعادة الذين شاء الله لهم أن يهتدوا بهؤلاء الأنبياء هؤلاء كانوا يستجيبون لهم من غير أن يؤذوهم كأبى بكر وعلى وأبى ذر الغفارى هؤلاء من السابقين إلى الإسلام من غير أن يسبق لهم أذى لرسول الله ﷺ أسلموا.
وقد ضرب بعض العلماء فى هذا المعنى مثلا قالوا ينبغى للمؤمن أن يكون كالشجرة المثمرة تعطى ثمرها لمن يخبطها ولمن يقطف من غير خبط لها اهـ أى من غير أن يقطع منها غصنا تعطى لهذا وتعطى لهذا ثمرها فالمؤمن ينبغى أن يكون كذلك أى ينفع غيره ويبذل معروفه أى إحسانه لمن يعامله بالمثل ولمن يعامله بالعكس فيطلب الأجر من الخالق، يوطن نفسه ويعقد قلبه على أنه يبتغى الأجر من خالق الناس ولا يبالى إن عرفوا له أو لم يعرفوا له يقول أنا أحسن إليهم بالمعروف إن أحسنوا إلى وإن أساءوا إلى.
قال عليه الصلاة والسلام حسن الخلق وطول الصمت اهـ [رواه البيهقى فى شعب الإيمان] أما طول الصمت فمعناه أن يكثر الإنسان الصمت ولا يتكلم إلا بما فيه خير أى إلا بما ينفعه فى معيشته أو بما هو من الحسنات من ذكر الله وقراءة القرءان وإفادة المسلم شيئا ينفعه فى دينه أو فى دنياه مما ليس فيه معصية لله تعالى لأن الإفادة إذا لم تكن فى ما أذن الله فيه من الأمور التى أباحها وبال على صاحبها، لا يجوز لك أن تفيد إنسانا شيئا يستعين به على معصية الله تعالى وأنت تعلم ذلك، ليس لك فى ذلك خير، إنما إذا أفدت شيئا ينفعه وليس لله فيه معصية هذا الذى فيه أجر هذا الذى يعد من الإحسان والمعروف، فمن أراد ذلك فليعود نفسه على تقليل الكلام، أى الكلام الذى لا يعلم فيه نفعا أخرويا ولا ما هو مما يعنيه فى أمور معيشته فليكف لسانه عنه وليعش على ذلك طول حياته أما من لم يعود نفسه الكف عن الكلام السيىء فإنه ينزلق إلى المهاوى المهلكة المردية التى ترديه إلى نار جهنم. اللسان قد يساعد صاحبه على العمل الذى ينفعه عند الله، قد يكون ذلك العمل الذى يعمله بلسانه خفيفا على اللسان لا يكلفه تعبا مما يرضى الله تبارك وتعالى يرفعه الله بتلك الكلمة درجات فلا يحقرن الإنسان من العمل المعروف الذى يعمله بلسانه شيئا وليسلم على المسلم الذى يعرفه والذى لا يعرفه وإذا عطس مسلم فليشمته لعل هذا الذى يشمته من أولياء الله تعالى فإذا رد عليه بقوله يرحمك الله قد يرفعه الله تعالى بهذه الدعوة الخفيفة من هذا العبد الصالح الذى هو من أولياء الله درجات عالية والذى فعله هذا المشمت أن قال رحمك الله، فهى كلمة خفيفة على اللسان ليس فيها كلفة ولا تعب ثم ذلك الذى شمته إن كان من أولياء الله فرد عليه بقوله يغفر الله لنا ولكم أو بقوله يهديكم الله ويصلح بالكم يرفعه الله تعالى بهذه الكلمة درجات عالية يصلح الله له شأنه وقد يكون قبل ذلك هذا الإنسان مقصرا شديد التقصير فى طاعة الله بعيدا عن الجد والاجتهاد فيقوى الله تعالى بهذه الدعوة همته فيترقى فى الدين عند الله تبارك وتعالى.
وكذلك إذا كان الإنسان يطلق لسانه فى سخط الله تبارك وتعالى قد ينزل فى الآخرة بهذه الكلمة التى هى من سخط الله من نوع الكفر إلى نهاية قعر جهنم. قعر جهنم مسافة سبعين سنة فى النزول من أعلى جهنم إلى القعر، كان ذات يوم رسول الله ﷺ مع أصحابه فسمعوا وجبة فقال أتدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم، قال عليه الصلاة والسلام هذا حجر رمى به فى جهنم منذ سبعين سنة حتى انتهى الآن إلى قعرها اهـ [رواه مسلم فى صحيحه باب فى شدة حر نار جهنم وبعد قعرها] هذا الصوت الذى سمعوه صوت وقوعه فى قعر جهنم. جهنم من حيث المسافة بعيدة بيننا وبينها سبع أراض هذه الأرض والأراضى الستة التى تحت هذه، الله تبارك وتعالى أسمعهم ليسمعوا من رسول الله ﷺ هذه الفائدة التى فيها تنبيه وتحذير. وكثيرا ما يحصل هذا الكلام الذى يردى صاحبه إلى مهاوى جهنم من هذا النوع الذى جاء فى الحديث إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها فى النار سبعين خريفا اهـ [رواه الترمذى فى سننه] بمزحة واحدة، قد يزلق بمزحة واحدة هو لا يرى بها بأسا فيستوجب هذا النزول إلى نهاية قعر جهنم يوم القيامة، اليوم ذكر لى شخص أنه قال لصديق له يمازحه أذبحك فى سبيل الله لو قال أذبحك وسكت لم يقع فى الكفر لكن لما قال أذبحك وزاد كلمة فى سبيل الله وقع فى الكفر، هو كان يمزح ما كان يشاجره إنما كان يمازحه فوقع فى هذه المهلكة العظيمة وهو لا يظن ولا يفكر أنه وقع فى المهلكة. هذه من جملة الكلمات التى قال الرسول ﷺ إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا أى لا يظن أنها حرام لكنها عند الله أحرم الحرام لأنها كفر. هذا الشخص لماذا وقع فى الكفر لأنه جعل اللفظ ذبح هذا المسلم فى سبيل الله وهذا استحلال لأكبر الذنوب بعد الكفر. ما هو أكبر الذنوب بعد الكفر. قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، جعل هذا الذنب فى سبيل الله بلفظه وإن كان لا يعتقد ذلك. الاعتقاد ليس شرطا. من تكلم بكلمة الكفر إن اعتقدها وإن لم يعتقدها خرج من دين الله واستحق النزول فى عمق جهنم إلى النهاية التى هى مسافة سبعين سنة. مثل هذه الكلمة أكثر ما تصدر فى الغضب عندما يغاضب الشخص شخصا ويتشاجر معه فكثيرا ما يكفر يزلق إلى الكفر وقد تحصل فى المزح فالحذر الحذر من التهور بالكلام المزلق إلى جهنم. وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.