الأحد ديسمبر 22, 2024

حكم التجسيم والمجسّمة عند المالكية:

ثبت تكفير المجسّمة عن الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعيّ وأحمد، وثبت تكفيرهم كذلك عن الإمام أبي الحسن الأشعريّ والإمام أبي منصور الماتريديّ رضي الله عنهم، ومثل ذلك رُويَ عن الإمام مالك رضي الله عنه  فقد حكى المجتهد ابن المنذر عنه أنه قال([1]): «أرى أن يستتاب أهل الأهواء، فإن تابوا وإلا ضُرِبت أعناقهم» اهـ. وأهل الأهواء هم الذين ابتدعوا في الاعتقاد كالمعتزلة والمشبّهة والمجسمة والجبرية إلى آخر فِرَقِهم، وهؤلاء ظهروا في القرون السابقة ولم ينقرضوا، بل إلى الآن ما زال أفراخ وأذناب هؤلاء يصولون ويجولون مشوّشين على عقائد المسلمين ودينهم وإن كان بأسماء ومسمَّيات مختلفة.

وقال الشيخ محمد بن أحمد علّيش المالكيّ([2]) عند ذكر ما يوقع في الكفر والعياذ بالله ما نصّه([3]): «وكاعتقاد جسميّة الله وتحيُّزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحْدِث» اهـ.

وكان شيخ المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ صاحب الصحيح (ت 256هـ) قد فَهِمَ شُرَّاح صحيحه أنه كان ينـزّه الله عن المكان والجهة والجسم، فقد قال الشيخ عليّ بن خلف المالكيّ المشهور بابن بطّال أحد شُرَّاح صحيح البخاريّ (ت 449هـ) ما نصه([4]): «قال أبو ذرّ: سألت النبيّ ﷺ عن قول الله سبحانه وتعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا {38} (يس)، قال:«مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ». غرضه ـ أي البخاريّ ـ في هذا الباب رد شبهة الجهمية المجسمة في تعلقها بظاهر قوله: مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ {4} (المعارج)، وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ {10} (فاطر) وما تضمّنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدّم الكلام في الردّ عليهم وهو أن الدلائل الواضحة قد قامت على أن البارئ تعالى ليس بجسم ولا محتاجًا إلى مكان يحلّه ويستقر فيه، لأنه تعالى قد كان ولا مكان وهو على ما كان، ثم خلق المكان، فمحال كونه غنيًّا عن المكان قبل خلقه إياه ثم يحتاج إليه بعد خلقه له، هذا مستحيل، فلا حجة لهم في قوله: (ذِي الْمَعَارِجِ) لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل ـ وفعل الله أزليّ والمفعول حادث ـ، وقد قال ابن عباس في قوله: (ذِي الْمَعَارِجِ)  هو بمعنى: العلوّ والرّفعة. وكذلك لا شبهة لهم في قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)  لأنَّ صعود الكَلِمِ إلى الله تعالى لا يقتضي كونه في جهة العلوّ لأن البارئ تعالى لا تحويه جهة إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صحَّ ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله: (ذِي الْمَعَارِجِ) رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون في جهة لأنّ في ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع لأن الكلم عَرَض، والعَرَض لا يصحُّ أن يَفعل، لأن من شرط الفاعل كونه حيًّا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكَلِمَ إلى الملائكة الصَّاعدين به» اهـ.

وقال أيضًا([5]): «أمر اللهُ تعالى نبيَّه بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده ففعل ما ألزمه من ذلك، فبلَّغ ما أمره بتبليغه وأنزل عليه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ {54} (الذاريات)، ووجه ذكر حديث الحث على تلاوة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} (الإخلاص) في هذا الباب لأنها سورة تشتمل على توحيد الله وصفاته الواجبة له وعلى نفي ما يستحيل عليه، من أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وتضمَّنت ترجمة هذا الباب أن الله واحد وأنه ليس بجسم، لأن الجسم ليس بشىء واحد، بل هو أشياء كثيرة مؤلَّفة، ففي نفس الترجمة الردّ على الجهمية في قولها: إنه تعالى جسم. والدليل على استحالة كونه جسمًا أن الجسم موضوع في اللغة للمؤلَّف المجتمع، وذلك محال عليه تعالى، لأنه لو كان كذلك لم ينفك من الأعراض المتعاقبة عليه الدالة بتعاقبها عليه على حَدَثِها لفناء بعضها عند مجيء أضدادها، وما لم ينفك من المحدَثات فمحدَث مثلها، وقد قام الدليل على قِدَمِه تعالى، فبَطَلَ كونه جسمًا» اهـ.

[1] ) الإشراف على مذاهب العلماء، ابن المنذر، 8/73.

 

[2] ) محمد بن أحمد بن محمد عليش، أبو عبد الله، ت 1299هـ، فقيه من أعيان المالكية مغربي الأصل من أهل طرابلس الغرب ولد بالقاهرة وتعلم في الأزهر، وولي مشيخة المالكية فيه توفي في القاهرة. من تصانيفه: «فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك»، و«منح الجليل على مختصر خليل». الأعلام، الزركلي، 6/19.

 

[3] ) منح الجليل شرح مختصر خليل، محمد عليش، 9/206.

 

[4] ) شرح ابن بطال، ابن بطال، 20/107.

 

[5] ) شرح ابن بطّال، ابن بطّال، 10/402.