وكان شيخنا رحمه الله عاملا بحديث: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» رواه الطبراني وأبو يعلى. فكان يبدي اهتماما كبيرا لمن زاره من كبار السن ولو كان من مريديه، فيقربهم إليه ويجلسهم على الكرسي ويسألهم عن أحوالهم، فإن كان وقت الطعام قدمه على المائدة وجعل القدر في ناحيته، وطلب منا أن نأتي بالماء لنغسل يدي هذا الكبير وإذا أنهى الطعام أن نفعل له مثل ذلك، وغذا دخل عليه كبير وقف ورحب به وأجلسه على الكرسي.
وكان شيخنا عند جلوسه الطويل يضع رجله على كرسي صغير أحيانا لعلة فيها، فغذا دخل عليه مسن استأذنه شيخنا رحمه الله بأن يترك رجله عليها، وأحيانا لا يستأذن بل ينزلها إلى الأرض، وإن ءالمته وأراد مدها يستأذن الحاضرين.
وقد دخل أحد طلاب شيخنا عليه مرة وكان بقرب الشيخ رجل كبير فقبل التلميذ يد الشيخ وجلس، فناداه الشيخ وقال: هذا فلان سلم عليه.
وكان إذا جاءه ضيف من الخارج أكرمه واهتم به ويطلب منا أحيانا أن نأتي له بالطعام والعصير ونهيئ له الطعام والمبيت، وكان الشاي والحليب أكثر ما يطلبه الشيخ للضيوف إضافة إلى البنزهير والدوسمي([1])، وقبل أن يخرج الضيوف من عنده يطعمهم السكر الأبيض.
وقال ابن أختي أيمن مرة أردت الخروج للعمل فلما وصلت إلى الباب خرج الشيخ من غرفته وقال لي: تمهل، معك وقت؟ فقلت: نعم، فقال: تعال، ودخل إلى المطبخ، وقال لي: اعمل الدوسمي([2]) واحدة لي وواحدة لك، وبعد أن عملتها قال لي: اجلس، فشربت أنا وهو، ثم قال لي: الآن إن شئت تذهب إلى العمل.
في ءاخر حياة شيخنا رحمه الله كان اشتد به المرض والألم وكان أحد طلابه بقربه على السرير يمسك بيده اليسرى إحدى يدي تلميذه وكان من شدة الألم يتحرك يمينا وشمالا ويقول: الله، بدلا من ءاخ كما هو عادة أكثر الناس اليوم، فدخل عليه رجل كبير في السن فتوقف عن الحركة وتبسم في وجه ضيفه وقال له: مرحبا بك أهلا وسهلا، ولكن صار من شدة الألم يشد على يد تلميذه حتى ظهر أثر أظافره على يده وهو يحاول عدم إظهار ما به للضيف، وطلب أن يؤتى للضيف بالعصير.
كان شيخنا رحمه الله شديد الأدب والتواضع عاملا بالهدي النبوي وكان إذا دخل الكبير يعلمنا أن يقوم له الصغير وان يقعده مكانه حتى إنه مرة كان أخي مع شيخنا، قال أخي: مع شيخنا، قال أخي: زرنا رجلا كبيرا فجاء بما يضيفنا فنظر الشيخ إلي وقال: خذ عنه، فأخذت عنه وقمنا بالضيافة. وإذا جاء الكبير قام له وصافحه وقبله وأقعده في مكان يليق بحاله ولاطفه وسأله عن حاله وصحته وأهله وطلب منا أن نكرمه بالضيافة عملا بحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي وغيرهم.
وكان لحارس البناء أي الناطور حيث يسكن الشيخ حصة خاصة فكان شيخنا رضي الله عنه مع كثرة شغله ومرضه يسأل عن حارس البناء عن حاله وعياله ويسأل عن مأكله ومشربه، وكان ذا وصل البناء سلم عليه وقبله وكان يكرمه. مرة أرسل أحد أحباب الشيخ لشيخنا صحنا من أنواع اللحم المشوي فلما جلسوا ليأكلوا الطعام ليلا مع الشيخ وضعوا صحن الأرز وصحن اللحم وهذان كانا للذين يأكلون مع الشيخ، والثريد أي الخبز والمرق للشيخ رحمه الله، فرفع الشيخ صحن اللحم وقال لأحد طلابه: أعطه لحارس البناء وسلم لي عليه. ومرة في شهر رمضان دعاه شيخنا مع زوجته إلى الإفطار، فلما حضر أجلسه على الكرسي وزوجته أيضا، فكان حارس البناء وزوجته وشيخنا وزوجته على طاولة واحدة يفطرون، هذا قليل مما حدث مع من كان حارسا لبناء سكن فيه شيخنا، فكان شيخنا رحمه الله عاملا بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من تواضع لله رفعه الله» رواه البيهقي والطبراني وابن حبان.
ولقد حدثني بعض طلاب شيخنا أنه حين كان معه في سفر ونزل ضيفا عند أناس من أحبابه ناداه الشيخ وقال له: إذا نزلت ضيفا عند أناس فعليك بأمور: لا تكثر النوم، ولا تكثر الأكل، ولا تكثر الـمكث في بيت الخلاء، ولا تكثر الكلام، ثم بعد ثلاثة أيام تعمل عمل أهل البيت من تنظيف ونحوه.
ومرة كان يجلس أمام الشيخ فدخل ضيوف كبار في السن، فنظر إليه الشيخ ليتنحى جانبا فلم يفهم، فقال له الشيخ: إذا دخل الكبار تنحى الصغار. رحم الله شيخنا وجعلنا من العاملين بما علمنا.