خَاتِمَةٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ
تُسَنُّ زِيَارَةُ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِجْمَاعِ أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الِاجْتِهَادِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ لِلْمُقِيمِ بِالْمَدِينَةِ وَلِأَهْلِ الآفَاقِ الْقَاصِدِينَ بِسَفَرِهِمْ زِيَارَةَ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَهِيَ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَمَنْ خَصَّ مَشْرُوعِيَّةَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ لِغَيْرِ الْقَاصِدِ بِالسَّفَرِ وَحَرَّمَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِكَلامِهِ بَلْ يَجِبُ نَبْذُهُ وَالإِعْرَاضُ عَنْهُ .
وَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَارَةُ بَعْدَ صَلاةِ رَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَتَحْصُلُ بِالسَّلامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَالأَدَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الزَّائِرُ الْجِدَارَ مُتَنَحِّيًا نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ غَاضًّا طَرْفَهُ مُمْتَلِىءَ الْقَلْبِ بِالإِجْلالِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ بِصَوْتٍ مُتَوَسِّطٍ: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا خِيرَةَ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا صَفْوَةَ اللَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا خَيْرَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا قَائِدَ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ وَأَزْوَاجِكَ وَأَصْحَابِكَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ».
وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلِيَ مَوْقِفَهُ ذَلِكَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى الْيَمِينِ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ فَسَلَّمَ عَلَى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ تَنَحَّى قَدْرَ ذَلِكَ وَسَلَّمَ عَلَى الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَوْقِفِهِ الأَوَّلِ فَقَدْ أَدَّى السَّلامَ كَمَا يَنْبَغِي، ثُمَّ يَتَوَسَّلُ بِالْمُصْطَفَى فِي نَفْسِهِ وَيَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ، وَإِنْ أَوْصَاهُ أَحَدٌ بِالسَّلامِ فَلْيَقُلْ «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلانٍ» أَوْ يَقُولُ «فُلانٌ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ».
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَهْبِطَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، وَلَيَسْلُكَنَّ فَجًّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا وَلَيَأْتِيَنَّ قَبْرِي حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَلَأَرُدَنَّ عَلَيْهِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «وَلَيَسْلُكَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَجَّ الرَّوْحَاءِ». وَلَيْسَ لِلْمَانِعِينَ مِنَ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَسَّكٌ فِي حَدِيثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجَدٍ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِالْمَسَاجِدِ أَيْ لا مَزِيَّةَ فِي السَّفَرِ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلاةِ فِيهِ إِلَّا فِي السَّفَرِ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةَ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَأَلْفٍ، وَخَمْسِمِائَةٍ خَاصَّةٌ بِهَا، فَمَنْ سَافَرَ لِلصَّلاةِ إِلَى أَحَدِهَا حَصَلَ عَلَى الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي لا تَحْصُلُ فِي مَسْجِدِ بَلَدِهِ، فَلا مَزِيَّةَ فِي السَّفَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بنِ حَوْشَب أَنَّهُ قَالَ ذَكَرْتُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّلاةَ فِي الطُّورِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُعْمَلَ إِلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلاةُ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي»، فَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُفَسَّرُ حَدِيثُ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدٍ» لا بِقَوْلِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيْمِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ [فِي فَتْحِ الْبَارِي] «وَهِيَ مِنْ أَبْشَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ»، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ [رَجَز]
*وَخَيْرُ مَا فَسَّرَتَهُ بِالْوَارِدِ *
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ «أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ» فَقَدْ حَمَلَهُ أَصْحَابُهُ أَيْ أَهْلُ مَذْهَبِهِ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ هَذَا اللَّفْظَ أَدَبًا، فَلا حُجَّةَ فِيهِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ لِأَنَّ مَالِكًا رَأَى أَنَّ قَوْلَ الزَّائِرِ زُرْتُ النَّبِيَّ أَوْلَى بِالأَدَبِ مِنْ أَنْ يَقُولَ زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا تَوْجِيهٌ وَجِيهٌ .
وَيُسَنُّ لِلْحَاجِّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ أَيْ يَمْتَلِىءَ مِنْهُ شِبَعًا وَرِيًّا وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ شُرْبِهِ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلا أَنَّ هَاجَرَ زَمْزَمَتْ بَيَدِهَا لَكَانَ عَيْنًا مَعِينًا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ].
وَمَنْ أَرَادَ شُرْبَ مَاءِ زَمْزَمَ فَلْيَقُلْ عِنْدَ شُرْبِهِ اللَّهُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نَبِيَّكَ قَالَ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» وَإِنِّي أَشْرَبُهُ مُسْتَشْفِيًّا بِهِ فَاشْفِنِي وَاغْفِرْ لِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ.
فَائِدَةٌ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّىْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ أَبُو بَكْرٍ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا “بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بريقةِ بَعْضِنَا تَشْفِي سَقِيمَنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا”، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: “أَخَذَ تُرَابًا فَجَعَلَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ عَلَيْهِ”، وَهَذَا نَافِعٌ بِإِذْنِ اللَّهِ حَتَّى إِنَّهُ يَنْفَعُ لِلَسْعَةِ الْحَيَّةِ وَلَدْغَةِ الْعَقْرَبِ وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ لِتُرَابِ الْمَدِينَةِ، أَمَّا تُرَابُ مَكَّةَ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ ذَلِكَ لَكِنْ تُرَابُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُمَا مِنْهُمَا إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْحَصَى عَنْ قَبْرِ حَمْزَةَ لِلصُّدَاعِ وَصُهَيْبٍ لِلْحُمَّى.