تَوْحِيدُ اللَّهِ فِي الْفِعْلِ
رُوِيَ عَنِ الْجُنَيْدِ إِمَامِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ قَالَ: »الْيَقِينُ« ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ: »إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى«، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/96].
وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ«، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ.
إِذِ الْعِبَادُ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا يَكْتَسِبُونَهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16] تَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالشُّمُولَ لِلأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام].
سَاقَ اللَّهُ الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَالْمَحْيا وَالْمَمَاتَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَهَا مِلْكًا لَهُ. فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَلِكَ اللَّهُ خَالِقٌ لِلأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالصَّلاةِ وَالنُّسُكِ، وَالْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ مِنْ بَابِ الأَوْلَى.
وَإِنَّمَا تَمْتَازُ الأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَيِ الَّتِي لَنَا فِيهَا مَيْلٌ بِكَوْنِهَا مُكْتَسَبَةً لَنَا فَهِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ.
وَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ أَوْ يُؤَاخَذُ فِي الآخِرَةِ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَيْ يَصْرِفُ إِلَيْهِ قُدْرَتَهُ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
فَالْعَبْدُ كَاسِبٌ لِعَمَلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِعَمَلِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ كَسْبٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286].
فَلَيْسَ الإِنْسَانُ مَجْبُورًا لِأَنَّ الْجَبْرَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ أَيْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.
وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: »كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ« وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: »الْمُعْتَزِلَةُ زَنَادِقَةٌ«.
وَوَصَفَهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ» الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ« بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَأَبُو مَنْصُورٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: »وَقَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ إِمَامُ أَصْحَابِنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ«، وَهُوَ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْحَدِيثِ.
وَلا تَغْتَرَّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ نَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ »أُصُولُ الدِّينِ« وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ »تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ« تَكْفِيرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ.
قَالَ الإِمَامُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ »تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ« [هَذَا الْكِتَابُ نَادِرُ الْوُجُودِ يُوجَدُ مِنْهُ نُسْخَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ خَطِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَكْتَبَاتِ]: »أَصْحَابُنَا أَجْمَعُوا عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ« أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَةَ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فَرْضٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ: »أَصْحَابُنَا« يَعْنِي بِهِ الأَشْعَرِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ لِأَنَّهُ أَشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ بَلْ هُوَ رَأْسٌ كَبِيرٌ فِي الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ فِي النَّقْلِ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي الْفِرَقِ، فَمَنْ أَرَادَ مَزِيدَ التَّأَكُّدِ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَهُ هَذِهِ، فَلا يُدَافَعُ نَقْلُهُ بِكَلامِ الْبَاجُورِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ قَبْلِ عَصْرِهِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَرْكِ تَكْفِيرِهِمْ فَمَحْمُولٌ عَلَى مِثْلِ بِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ وَالْمَأْمُونِ الْعَبَّاسِيِّ، فَإِنَّ بِشْرًا كَانَ مُوَافِقَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ وَكَفَّرَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ فَلا يُحْكَمُ عَلَى جَمِيعِ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الِاعْتِزَالِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَيُحْكَمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ ضَالًّا.