الأربعاء ديسمبر 11, 2024

(تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَتَصْحِيحُ وُجُودِهِ بِلا مَكَانٍ عَقْلًا)

  (وَ)اعْلَمْ أَنَّ (اللَّهَ تَعَالَى غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَىْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ) كَمَا تَقَدَّمَ (لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ) مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ (وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ) كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا لَطِيفَانِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهُمَا كَثِيفَانِ (التَّحَيُّزَ فِى فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ) الَّذِى يَجْرِى فِيهِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بِلا مَكَانٍ وَلا زَمَانٍ وَلا حَيِّزٍ وَلا جِهَةٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ سُبْحَانَهُ وَهُوَ غَنِىٌّ عَنْهَا وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى نَفْىِ الْحَدِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ صَرِيحَةٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشَبِّهَةُ إِنْكَارَهَا بَلْ أَثْبَتُوهَا عَنْهُمْ وَرَوُوهَا وَإِنْ حَاوَلُوا تَأْوِيلَهَا تَأْوِيلًا تَمُجُهُ الأَسْمَاعُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَلا تَحْتَمِلُهُ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رُوِىَ عَنِ السَّلَفِ فِى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ اهـ وَمَا رَوَاهُ الزَّبِيدِىُّ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِىِّ بنِ الْحُسَيْنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ لا تُحَسُّ وَلا تُمَسُّ وَلا تُجَسُّ اﻫ (وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ. هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) فِى صَحِيحِهِ (وَابْنُ الْجَارُودِ) فِى الْمُنْتَقَى (وَالْبَيْهَقِىُّ) فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ (بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) اهـ وَالْمَكَانُ هُوَ غَيْرُ اللَّهِ قَطْعًا فَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان (وَمَعْنَاهُ) أَىِ الْحَدِيثِ (أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِى الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِىٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ) وَلا مَلاءٌ وَلا فَرَاغٌ (فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ وَهَذَا) مِنْ جُمْلَةِ (مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِهِ الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِى نَفْىِ الْمَكَانِ عَنْهُ) تَعَالَى (بِقَوْلِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ) أَىْ تَحْتَهُ (شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِى مَكَانٍ اﻫ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الرَّدُّ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ فِى حَقِّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ يُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِى الأَزَلِ بِلا جِهَاتٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْجِهَاتِ السِّتَّ هُوَ مَوْجُودٌ عَلَى مَا كَانَ بِلا تَغَيُّرٍ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَلَوْ كَانَ الِاتِّصَافُ بِالْجِهَةِ كَمَالًا فِى حَقِّ اللَّهِ لَكَانَ وُجُودُهُ بِلا جِهَةٍ نَقْصًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

   وَأَمَّا مَعْنَى الظَّاهِرِ الَّذِى جَاءَ فِى الْحَدِيثِ فَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الدَّلائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَأَمَّا الْبَاطِنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ الَّذِى يَعْلَمُ حَقَائِقَ الأُمُورِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بَعْضٌ الْبَاطِنُ هُوَ الَّذِى لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ وَالتَّصَوُّرَاتُ (وَقَدْ قَالَ) سَيِدُنَا (عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَان رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ) فِى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ (وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ) أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لا يُبْنَى عَلَى الْوَهْمِ وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَمْ يَرَهُ عَلَى مَا رَءَاهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَدْ يَكُونُ تَخَيُّلًا كَمَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ (بَلْ) يُبْنَى الِاعْتِقَادُ (عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِى هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ) أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ فَلا يَكُونُ إِلَهًا)[1] فَلَزِمَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ لَيْسَ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَلا حَدٌّ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَهْمُ يَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ فَالْعِبْرَةُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَهُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ لا بِمَا يَسُوقُ إِلَيْهِ الْوَهْمُ كَمَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَهْمُ لا يَتَصَوَّرُهُ كَمَا لا يَتَصَوَّرُ عَدَمَ النُّورِ وَالظَّلامِ مَعًا فِى ءَانٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ وَالْقَلَمَ وَاللَّوْحَ خُلِقَتْ قَبْلَهُمَا  (فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ وَهَذَا) أَىِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ (لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِى هَذَا الْعَصْرِ) وَيُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ هَلْ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُولُوا لا فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا صَحَّ عَقْلًا وُجُودُهُ تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلا خَارِجَهُ وَلا فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى.

   (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ التَّكْفِيرُ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِى نِسْبَةِ التَّمَكُّنِ فِى الأَمَاكِنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا (إِذَا كَانَ يَفْهَمُ) مَعْنَى مَا يَقُولُ أَىْ يَفْهَمُ (مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا فِى اللُّغَةِ وَهُوَ (أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌّ) أَىْ مُنْتَشِرٌ (أَوْ حَالٌّ فِى الأَمَاكِنِ أَمَّا إِذَا كَانَ) لا (يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا اللُّغَوِىَّ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا (أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ) أَىْ يُكْثِرُ اسْتِعْمَالَهُمَا فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ لِجَهْلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى فِى اللُّغَةِ فَيَقْصِدُونَهُ عِنْدَ النُّطْقِ (وَيَجِبُ النَّهْىُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنِ السَّلَفِ) فَلَيْسَ لَهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِى اللُّغَةِ (بَلْ) هُمَا صَادِرَتَانِ (عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُمَا جَهَلَةُ الْعَوَامِّ) وَاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْبَثٌّ فِى كُلِّ مَكَانٍ هُوَ عَقِيدَةُ الْجَهْمِيَّةِ فَإِنَّ جَهْمَ بنَ صَفْوَانَ قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَىْءٍ وَفِى كُلِّ شَىْءٍ وَلا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ اﻫ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ.

   (وَنَرْفَعُ الأَيْدِىَ فِى الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ) كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ (وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ) وَمَعْنَى مَدِّ الْيَدَيْنِ فِى الدُّعَاءِ إِلَيْهَا اسْتِنْزَالُ الرَّحْمَةِ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُخَيِّبُ الْقَاصِدِينَ بِحَقٍّ فَالسَّمَاءُ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ (كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِى الصَّلاةِ) فَهِىَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا. وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّحَيُّزَ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلَأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا) كَمَا تَقَدَّمَ.

   (وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةِ الْعُلْوِ) مِنْ قُدَمَاءِ الْمُشَبِّهَةِ (وَ)مُحْدَثِيهِمْ وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ (يَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِى عِنْدَ الدُّعَاءِ) بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ الَّتِى تَقَدَّمَتْ وَ(بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَىْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ) كَمَا فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ (وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُصَلِّىَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) فِى الصَّلاةِ (إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِى جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِى الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ إِلَّا اللَّهُ فِى التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ) كَانَ (يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ. وَنُسَمِّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ) فَالإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لا إِضَافَةُ حُلُولٍ وَمُلابَسَةٍ أَىْ مُخَالَطَةٍ (وَيُقَالُ فِى الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ) أَىْ حَجْمٌ (أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِى الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ) لا لِيَتَّخِذَهُ مَكَانًا لَهُ أَوْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ.

   (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ) كَمَا يَلْهَجُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ. هَذَا (إِنْ كَانَ يَفْهَمُ الْحُلُولَ) أَمَّا إِنْ كَانَ لا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ يَسْكُنُ قُلُوبَ الأَوْلِيَاءِ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ يُنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ.

   (وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ وُصُولَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِى وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ إِنَّمَا الْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِى الْعَالَمِ الْعُلْوِىِّ وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ فِى مَكَانٍ وَإِنَّمَا الْمَكَانُ لِلرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ فَالْمَقْصُودُ رُؤْيَةُ الآيَاتِ لا الْوُصُولُ إِلَى مَكَانٍ يَشْغَلُهُ ذَاتُ اللَّهِ الْمُقَدَّسُ عَنْ ذَلِكَ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّجْمِ (﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾) أَىْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أَوْ أَقْرَبَ (فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ) كَانَ (رَءَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَادُ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ سَادًّا عُظْمُ[2] خَلْقِهِ مَا بَيْنَ الأُفُقِ كَمَا رَءَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَمَا قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّجْمِ أَيْضًا (﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾) وَهَذَا الَّذِى ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ سَأَلَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذِهِ الآيَاتِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ هُوَ جِبْرِيلُ اﻫ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَفْتَرِى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَنَا بِذَاتِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ الْحَاجِبِ وَالْحَاجِبِ أَوْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ اللَّهِ إِثْبَاتٌ لِلْمَكَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ خلِافُ الْحَقِّ. وَمَا رُوِىَ فِى بَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَهِىَ رِوَايَةُ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهِىَ مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَ الْحُفَّاظِ طَعَنَ فِيهَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِىُّ وَغَيْرُهُ بَلْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهَا عِشْرِينَ خَطَأً أَوْ أَكْثَرَ. وَرُوِىَ عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ أَنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِدُنُوِّ إِكْرَامٍ وَتَقْرِيبٍ وَرَفْعِ دَرَجَاتٍ لا دُنُوَّ مَكَانٍ وَمَسَافَةٍ وَسَوَاءٌ ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَثْبُتْ فَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا تَفْسِيرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا نَعْدِلُ عَنْهُ وَلا نَتْرُكُهُ إِلَى غَيْرِهِ.

   (وَأَمَّا مَا فِى) صَحِيحِ (مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا قَالَ ائْتِنِى بِهَا فَأَتَاهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِى السَّمَاءِ قَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ اﻫ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ) صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فِى الْعَقِيدَةِ لِأَنَّهُ لا بُدَّ لِلِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ فِى أُمُورِ الِاعْتِقَادِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ تُبْنَى عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ لا عَلَى الظَّنِّيَّاتِ اهـ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَعِنْدَ الْبَقِيَّةِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ثَابِتًا بِلا خِلافٍ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (لِأَمْرَيْنِ) الأَوَّلُ (لِلِاضْطِرَابِ) عَلَى فَرْضِ تَسَاوِى رِوَايَاتِهِ فِى الْقُوَّةِ (لِأَنَّهُ رُوِىَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ مَنْ رَبُّكِ فَقَالَتِ اللَّهُ وَبِلَفْظِ أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَبِلَفْظِ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدِينَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ قَالَتْ نَعَمْ) وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلامُ الْبَيْهَقِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إِذَا حُمِلَتْ رِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَمَّا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانَةِ لا عَنِ الْمَكَانِ وَأَنَّ قَوْلَهَا فِى السَّمَاءِ مَعْنَاهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا فَيَنْتَفِى التَّعَارُضُ عِنْدَئِذٍ وَتَصِيرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْوِيَّةً بِالْمَعْنَى مُفَسِّرَةً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَلَيْسَ فِيهَا أَدْنَى مُتَمَسَّكٍ لِلْمُشَبِّهَةِ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فِى الْقُوَّةِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَرِوَايَةُ أَتَشْهَدِينَ إِلَى ءَاخِرِهِ أَقْوَى مِنْ رِوَايَةِ أَيْنَ اللَّهُ فَتَكُونُ هِىَ الرَّاجِحَةَ وَرِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ مَرْجُوحَةً لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا (وَالأَمْرُ الثَّانِى أَنَّ رِوَايَةَ أَيْنَ اللَّهُ مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِى شَرِيعَةِ اللَّهِ مَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ) الَّذِى نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِهِ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُ (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ الآحَادِ إِذَا خَالَفَ الأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ يُرَدُّ وَلا يُقْبَلُ فَهُنَا كَذَلِكَ فَتَكُونُ رِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ شَاذَّةً مُخَالِفَةً لِلأُصُولِ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا (وَ)أَمَّا (لَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ) الأُخْرَى (أَتَشْهَدِينَ) أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى ءَاخِرِهِ فَهُوَ (مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ) فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِى السَّمَاءِ إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهَا فِى كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ) مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الأَحَادِيثِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ صَحِيحٌ لَكِنَّ (عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِى كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ لِرَجُلٍ إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ) مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَيْسُوا مُعَذَّبِينَ فِى الآخِرَةِ (وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذَّبُونَ فِى نَارِ الآخِرَةِ (وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مَعَ نَصِّ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِى الصَّلاةِ وَنَصِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا ءَايَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا فِى مَوْضِعِ الْجَهْرِ وَيُسَرُّ بِهَا فِى مَوْضِعِ الإِسْرَارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ وَلا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ (فَأَمَّا الأَوَّلُ) مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ (فَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ) فِى أَكْثَرِ مِنْ تَصْنِيفٍ لَهُ (وَالثَّانِى رَدَّهُ الْبُخَارِىُّ)[3] وَنَاهِيكَ بِهِ عِلْمًا وَتُقًى وَاتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ (وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ) الإِمَامُ (الشَّافِعِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ) غَيْرُهُ.

   (فَهَذَا الْحَدِيثُ) إِذَا حُمِلَ (عَلَى ظَاهِرِهِ بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ وَ)الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ قَطْعِىُّ الثُّبُوتِ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ (مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالأُصُولِيُّونَ) فَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ مَهْمَا قِيلَ فِى تَصْحِيحِهِ أَوْ تَضْعِيفِهِ هُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ أَىْ هُوَ ظَنِىُّ الثُّبُوتِ لا قَطْعِيُّهُ وَمَا كَانَ ظَنِّىَّ الثُّبُوتِ لا يُؤْخَذُ بِهِ وَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ إِذَا عَارَضَ الثَّابِتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ بِحَيْثُ لا يَكُونُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْخَطِيبُ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَّقِهِ وَالنَّوَوِىُّ فِى التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِى الْوَرَقَاتِ وَغَيْرُهُمْ (لَكِنْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوَّلُوهُ) أَىْ أَوَّلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ. وَأَخْذًا بِالِاعْتِبَارِ لِتَأْوِيلِهِ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ) صَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ (قَالُوا مَعْنَى أَيْنَ اللَّهُ سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ) أَىْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهَا مَاذَا تَعْتَقِدِينَ فِى اللَّهِ مِنَ الْمَكَانَةِ فَإِنَّ لَفْظَةَ أَيْنَ يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانَةِ كَمَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ

أَيْنَ الثُرَيَّا وَأَيْنَ الثَّرَى   وَأَيْنَ مُعَاوِى وَأَيْنَ عَلِى

   وَمِنَ الْجَهْلِ الْبَيِّنِ قَوْلُ بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ فِى رَدِّ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا إِنَّ أَيْنَ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ إِذْ فَاتَهُمْ أَنَّ الْمَكَانَ يَعْنِى الْحَيِّزَ وَالْمَوْضِعَ كَمَا يَأْتِى بِمَعْنَى الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ وَكَلامُ الْعَرَبِ مَشْحُونَانِ بِبَيَانِ ذَلِكَ (وَقَوْلُهَا) أَىْ قَوْلُ الْجَارِيَةِ (فِى السَّمَاءِ) مَعْنَاهُ هُوَ (عَالِى الْقَدْرِ جِدًّا) أَىْ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِىُّ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ

بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا   وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا

   رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. (أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ السَّمَاءَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِى عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ) فَإِنْ حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَكْثَرَ مِنْ نَصٍّ قَطْعِىِّ الثُّبُوتِ وَالدِّلالَةِ قُرْءَانِىٍّ وَحَدِيثِىٍّ (فَإِنَّ ظَاهِرَهُ) الْمُوهِمَ لِلتَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ (ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ) مَنْ تَبِعَ (ظَاهِرَهُ) الْمَذْكُورَ وَاعْتَقَدَهُ لَزِمَهُ (أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيمَانِ) وَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُهَا النَّصْرَانِىُّ وَيَقُولُهَا الْيَهُودِىُّ بَلْ قَالَ مِثْلَهَا فِرْعَوْنُ وَلَمْ يُحْكَمْ لِأَىٍّ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فِى اللَّهِ بِذَلِكَ (وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ) فِى عَصْرِنَا وَهُمُ الْمَشْهُورُونَ بِالْوَهَّابِيَّةِ (رِوَايَةَ مُسْلِمٍ عَلَى ظَاهِرِهَا) كَأَسْلافِهِمْ مِنْ مُجَسِّمَةِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ (فَضَلُّوا وَ)وَقَعُوا فِى التَّنَاقُضِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ (لا) نُأَوِّلُ بَلْ نَحْمِلُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِى الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَحَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا ثُمَّ تَنَبَّهُوا أَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ ذَلِكَ إِقْرَارًا مِنْهُمْ بِأَنَّ السَّمَاءَ ظَرْفٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِيهَا فَيَتَنَاقَضُ ذَلِكَ مَعَ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ فَقَالُوا نَحْمِلُ عِبَارَةَ فِى السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى عَلَى السَّمَاءِ أَىْ فَوْقَهَا فَأَوَّلُوا الْكَلامَ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا ذَلِكَ فَتَنَاقَضُوا وَظَهَرَ تَحَكُّمُهُمْ وَكَانَ تَأْوِيلُهُمْ مُخَالِفًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَبَطَلَ وَكَانَ تَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُوَافِقًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَلا حَرَجٌ.

   وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لا (يُنْجِيهِمْ) أَىِ الْوَهَّابِيَّةَ وَأَسْلافَهُمْ (مِنَ الضَّلالِ قَوْلُهُمْ إِنَّنَا نَحْمِلُ كَلِمَةَ فِى السَّمَاءِ بِمَعْنَى إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) بِذَاتِهِ (لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ أَثْبَتُوا لَهُ) مَكَانًا وَحَيِّزًا وَحَدًّا وَمَسَافَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَاتِّصَالًا بِالْعَرْشِ إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَيْهِ وَانْفِصَالًا وَمَسَافَةً بَيْنَهُمَا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فَوْقَهُ وَيَكُونُونَ أَيْضًا قَدْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى (مَثْلًا وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِى كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) فَعَلَى زَعْمِهِمْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ كِلاهُمَا (فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ أَثْبَتُوا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَذَلِكَ الْكِتَابَ مُسْتَقِرَّيْنِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ كَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهَذَا الْحَدِيثُ) أَىْ حَدِيثُ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ فَوْقَ الْعَرْشِ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِىِّ فَهِىَ) بِلَفْظِ (مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَكِلاهُمَا بِمَعْنىً وَاحِدٍ (وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ) كَلِمَةَ (فَوْقَ) عَلَى مَعْنًى لا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ هِىَ (بِمَعْنَى تَحْتَ)[4] مُحَاوِلًا بِذَلِكَ التَّخَلُّصَ مِنَ الإِلْزَامِ الْمَذْكُورِ ءَانِفًا الْوَارِدِ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ (وَهُوَ) أَىْ مَا حَاوَلَهُ وَزَعَمَهُ (مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِيهِ بِتَحْتٍ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا إِنَّ الإِبْرِيقَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الطَّاوِلَةِ أَوْ إِنَّ الدَّفْتَرَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْكُرْسِىِّ فَكَذَا لا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْعَرْشِ. (ثُمَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحَاذِيًا لِلْعَرْشِ) أَىْ فَيَكُونُ (بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ) فَيَكُونُ لَهُ مِقْدَارٌ (وَكُلُّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ حَادِثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَكَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾.

   (وَالْعَرْشُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ) فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَيْنِ وَلا مُشَابَهَةَ مِنْ أَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ (وَ)اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَهُوَ سُبْحَانَهُ (لا) يَحْتَاجُ لِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لا الْعَرْشِ وَلا الْكُرْسِىِّ وَلا غَيْرِهِمَا لِثُبُوتِ الْعَظَمَةِ لَهُ إِذْ إِنَّهُ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَزَلِىُّ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَطَوَّرُ فَإِذًا لا (يَتَشَرَّفُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يَنْتَفِعُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ) وَلَوْ كَانَ ارْتِفَاعُهُ بِالْمَسَافَةِ وَالْجِهَةِ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا يَزْعُمُ قِسْمٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ أَوْ بِجُلُوسِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا يَزْعُمُ قِسْمٌ ءَاخَرُ مِنْهُمْ صِفَةَ كَمَالٍ لِلَّهِ لَكَانَ اللَّهُ مُتَشَرِّفًا بِالْعَرْشِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ رَبِّنَا تَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةُ كَمَالٍ وَالْعَرْشُ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ فَعَلَى مُقْتَضَى كَلامِهِمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةُ الْعَظَمَةِ هَذِهِ إِلَّا بِالْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِى ذَلِكَ وَلا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا الزَّعْمِ عَلَى مَنْ لَهُ مِسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ.

   (وَ)لْيُعْلَمْ أَنَّ (قَوْلَ الْمُشَبِّهَةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْحَشَرَاتِ) فَإِنَّ الْقُعُودَ لا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا لَهُ جُزْءٌ أَعْلَى وَجُزْءٌ أَسْفَلُ وَيَنْثَنِى وَلَهُ مَقْعَدَةٌ يُلامِسُ بِهَا مَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ قَعَدَ فُلانٌ أَىْ مِنَ النَّاسِ وَقَعَدَ الْقِرْدُ وَقَعَدَتِ الْبَقَرَةُ وَاتَّخَذَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى مَجْلِسِهِ مَقَاعِدَ لِلْجِنِّ (وَكُلُّ وَصْفٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ) فَإِنَّ (وَصْفَ اللَّهِ بِهِ) تَنْقِيصٌ لَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ فِى الْحَقِيقَةِ (شَتْمٌ لَهُ) فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ اللَّهَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ أَوْ يَبُولُ أَوْ يَتَعَرَّقُ أَوْ يَنْسَى أَوْ يَنَامُ أَوْ يَرْتَاحُ أَوْ يَلِدُ أَوْ يَتَزَوَّجُ كَانَ ذَلِكَ سَبًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَشَتْمًا لَهُ[5] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ يَنَامُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَعَرَّقُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيَلِدُونَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَتْمًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لا تُنَافِى هَذِهِ الصِّفَاتُ عَظِيمَ رُتْبَتِهِمْ وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ لَمْ يَجُزْ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا كُلُّ مَا سِوَاهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ نِسْبَةَ أَيَّةِ صِفَةٍ مِنْهَا كَالْقُعُودِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ذَمٌّ وَنَقْصٌ وَنِسْبَةُ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَهُوَ شَتْمٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِذَلِكَ (قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ) الْحَنَفِىُّ مُحَمَّدُ (مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ) اﻫ (أَىْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِّيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِّيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ) أَىْ مِنْ مُقْتَضِيَاتِهِ أَىْ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَا اتَّصَفَ بِهِمَا فَهُوَ حَادِثٌ (وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ) مَثَلًا (حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِى الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ فَلَوْ طَالَبَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ عَابِدُ الشَّمْسِ بِدَلِيلٍ عَقْلِىٍّ) أَىْ لَوْ قَالَ عَابِدُ الشَّمْسِ لِلْمُشَبِّهَةِ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا (عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الأُلُوهِيَّةَ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشَّمْسِ الأُلُوهِيَّةَ) لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَ(لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أَىْ فِى سُورَةِ الزُّمَرِ (﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِعَابِدِ الشَّمْسِ يَقُولُ لَهُمْ عَابِدُ الشَّمْسِ أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ) يَقُولُ لَهُمْ مَعْبُودِى جِسْمٌ كَبِيرٌ جَمِيلٌ مُنِيرٌ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَكُلُّ أَحَدٍ يُحِسُّ بِنَفْعِهِ لِلإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالتُّرْبَةِ وَالْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا مَعْبُودُكُمْ الَّذِى تَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَجْمٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَلا أَنَا رَأَيْتُهُ وَلا أَنْتُمْ رَأَيْتُمُوهُ وَلا يُحِسُّ أَحَدٌ لَهُ بِنَفْعٍ فَأَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ عِبَادَتِى بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مَعْبُودَكُمْ هُوَ الَّذِى يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ دُونَ مَعْبُودِى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ مَعْبُودُنَا هُوَ الْخَالِقُ فَإِنَّهُ يُجِيبُهُمْ بَلْ مَعْبُودِى أَنَا الْخَالِقُ وَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَلا تَكْفِى فِيهِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ مِنَ الدَّلِيلِ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى مَا تَقُولُونَ فَإِنْ قَالُوا مَعْبُودُكَ حَجْمٌ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ فَإِنْ قَالُوا لَهُ صُورَةٌ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا يَحْتَجِبُ أَحْيَانًا قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ مُحْتَجِبٌ طُولَ الأَحْيَانِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا يَتَحَرَّكُ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ يَتَحَرَّكُ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا الشَّمْسُ تَنْزِلُ وَتَطْلُعُ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ (فَهُنَا يَنْقَطِعُونَ) وَيَعْجَزُونَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَقِيدَةَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَسْوَأُ مِنْ عَقِيدَةِ عَابِدِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَعْبُدُ حَجْمًا تَحَقَّقَ وُجُودَهُ وَأَحَسَّ بِنَفْعِهِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ حَجْمًا تَوَهَّمُوهُ وَلَمْ يُحِسُّوا بِنَفْعِهِ وَأَمَّا السُّنِّىُّ فَلا يُعْجِزُهُ عَابِدُ الشَّمْسِ وَلا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الضَّلالِ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ الشَّمْسُ لَهَا مِقْدَارٌ وَحَجْمٌ وَصُورَةٌ وَشَكْلٌ هُوَ الِاسْتِدَارَةُ فَلا بُدَّ لَهَا مِنْ مُخَصِّصٍ خَصَّصَهَا بِذَلِكَ ثُمَّ هِىَ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَةِ الْحَرَارَةِ فَلا بُدَّ لَهَا مِمَّنْ خَصَّهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِمَاذَا كَانَ شَكْلُهَا مُسْتَدِيرًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْضَاوِيًّا أَوْ مُثَلَّثًا أَوْ مُرَبَّعًا وَلِمَاذَا كَانَتْ صِفَتُهَا الْحَرَارَةَ وَلَمْ تَكُنِ الْبُرُودَةَ أَوِ الِاعْتِدَالَ الْعَقْلُ لا يَقْبَلُ أَنْ تَكُونَ هِىَ قَدْ جَعَلَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلا بُدَّ أَنَّ لَهَا خَالِقًا جَعَلَهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَتِلْكَ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخَالِقُ لا يُوصَفُ بِشَكْلٍ أَوْ حَجْمٍ أَوْ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلِذَلِكَ لا يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ خَصَّصَهُ وَلا مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ بَلْ هُوَ الأَزَلِىُّ الأَبَدِىُّ الَّذِى أَخْرَجَ كُلَّ شَىْءٍ فِى الْعَالَمِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.

   (فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَىٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) كَمَا تَقَدَّمَ (أَىْ أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ) أَىْ أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحْمَةً لِلنَّاسِ وَنِعْمَةً أَكْثَرُ مِمَّا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ عَذَابًا لَهُمْ وَنِقْمَةً. (الْمَلائِكَةُ) مَثَلًا (مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ) لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِى سُورَةِ الْمُدَّثِرِ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (وَالْجَنَّةُ) أَيْضًا (مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِىَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ) فَإِنّ َلِآخِرَ أَهْلِهَا دُخُولًا إِلَيْهَا فِيهَا مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا كَمَا صَحَّ فِى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. (وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِىُّ وَالنَّسَائِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا) كَابْنِ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) اﻫ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ كَمَا قَدَّمْنَا تَقْضِى بِالْبُطْلانِ عَلَى مُحَاوَلَةِ تَأْوِيلِ فَوْقَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى دُونَ كَمَا سَبَقَ (فَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ) رَغْمَ ذَلِكَ (أَنْ يُؤَوِّلَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ قِيلَ لَهُ) أَيْضًا (تَأْوِيلُ النُّصُوصِ) أَىْ مَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِىٍّ ثَابِتٍ أَوْ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ وَ)الْمُخَالِفُونَ لَنَا (لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَىْءٌ مِنْ هَذَيْنِ وَلا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ التَّأْوِيلِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَبَقِىَ الأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَىِ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ) فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّوْحَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَرَوْا مَانِعًا فِى الْقُرْءَانِ وَلا فِى الْحَدِيثِ مِنْ ذَلِكَ وَلا عَابَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالُوا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصٍّ شَرْعِىٍّ وَهَذَا يَشْهَدُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا دَلِيلَ يُسَوِّغُ تَأْوِيلَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ (فَعَلَى) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ يَكُونُ (قَوْلُهُ) مُوقِعًا لَهُ فِى مَا عَابَ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَنَعَنَا مِنَ التَّأْوِيلِ مَعَ أَنَّنَا لا نُأَوِّلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَأَوَّلَ هُوَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلا حُجَّةٍ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ (إِنَّهُ) أَىِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ (فَوْقَ الْعَرْشِ يَكُونُ) الْمُشَبِّهُ قَدْ (جَعَلَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مُعَادِلًا لِلَّهِ أَىِ) اقْتَضَى اعْتِقَادُهُ وَكَلامُهُ (أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَاللَّوْحُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ) بِلا شَكٍّ (لِأَنَّ مُحَاذَاةَ شَىْءٍ لِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ).

 

عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْكِتَابَ السَّابِقَ الذِّكْرِ مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

 

(وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ) فَلا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى تَحْتَ (الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ النَّسَائِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى) فِى بَابِ مَا يُجِيرُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيْطَانِ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَىْ سَنَةٍ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ءَايَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) اﻫ (وَفِى لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ) فِى بَابٍ فِى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ (فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ) اﻫ (فَهَذَا) وَمَا سَبَقَهُ (صَرِيحٌ فِى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ) وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ الْجِهَةَ وَارْتِفَاعَ الْمَسَافَةِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ مُشَبِّهٌ لِرَبِّهِ وَمُعَادِلٌ لَهُ بِخَلْقِهِ.

   (وَكَلِمَةُ عِنْدَ) الْوَارِدَةُ فِى الرِّوَايَتَيْنِ الآنِفَتَىِ الذِّكْرِ هِىَ (لِلتَّشْرِيفِ) وَ(لَيْسَ لإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ) كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ قَاصِرُ نَظَرٍ (لِأَنَّ عِنْدَ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ) كَمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْمَكَانِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ هُودٍ (﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) وَلا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ عِنْدَ تَدُلُّ هُنَا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حَيِّزًا وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِجَارَةِ تَقَارُبًا (إِنَّمَا تَدُلُّ عِنْدَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِي جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَمِثْلُ ذَلِكَ فِى الدِّلالَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ السَّجْدَةِ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِكَلِمَةِ عِنْدَ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُجَاوَرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجِوَارِ الْمُشْرِكِينَ فِى أَرْضِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ مَا لا يَقُولُهُ مُوَحِّدٌ وَلا مُشَبِّهٌ.

 

عَوْدٌ إِلَى الْكَلامِ عَنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ (وَ)بَيَانُ فَسَادِ احْتِجَاجِ الْمُشَبِّهَةِ بِهِ.

 

   (قَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ) فِى صَحِيحِهِ (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِى صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلَتِهِ اﻫ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَىْ هَوِّنُوا عَلَيْهَا وَلا تُجْهِدُوهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَثِيرًا (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا) تَخْفَى عَلَيْهِ الأُمُورُ (إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَالَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ اﻫ فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ) الَّذِى يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى (إِذَا أَخَذْتَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا لَبَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ فِى السَّمَاءِ) لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ الأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُصَلِّى وَالْكَعْبَةِ وَظَاهِرَ الْحَدِيثِ الثَّانِى أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ مَا بَيْنَ الرَّاكِبِ الدَّاعِى وَعُنُقِ دَابَّتِهِ وَالْمُعْتَرِضُ يَلْتَزِمُ الأَخْذَ بِالظَّاهِرِ وَتَرْكَ التَّأْوِيلِ وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُمَا أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ فَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتْرُكَ الأَخْذَ بِظَاهِرِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَحَكِّمٌ يَجْرِى خَلْفَ الْهَوَى وَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ مَا وَرَدَ فِى الشَّرْعِ عَلَى مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَأَنَّهُ لا يَتْبَعُ قَاعِدَةً نَصَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَلا قَانُونًا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مِنْ بَيَانِهِ (وَ)بِعِبَارَةٍ أُخْرَى يُقَالُ لَهُ إِنْ قُلْتَ يَلْزَمُ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ وَيَمْتَنِعُ التَّأْوِيلُ اقْتَضَى كَلامُكَ الأَخْذَ بِظَاهِرِ حَدِيثَىِ الْبُخَارِىِّ وَبَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ فِى السَّمَاءِ وَ(إِنْ) أَجَزْتَ التَّأْوِيلَ وَ(أَوَّلْتَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ) اللَّذَيْنِ فِى الْبُخَارِىِّ (وَلَمْ تُأَوِّلْ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ أَىْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ وَيَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ) تَعَالَى (فِى الْيَهُودِ) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا رُوِىَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لا بُدَّ أَنْ يَتَنَاقَضَ اﻫ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَقُولُونَ قَامَتْ عِنْدَنَا الأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَشَاهِدِ الْعَقْلِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَنِ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَكَانِ وَعَنْ جَرَيَانِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِى الْقُرْءَانِ أَنَّ الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَسَاسُهُ وَأَنَّ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةَ وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ لا تَتَنَاقَضُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُنَا رَدُّ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أَىْ بِحَيْثُ لا يُخَالِفُ ذَلِكَ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلا أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ هُوَ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْحَذْفِ أَىْ فَإِنَّ رَحْمَةَ رَبِّهِ أَمَامَهُ أَىْ إِنَّ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِى تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ تَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَإِذَا قَامَ فِى صَلاتِهِ يُنَاجِى رَبَّهُ أَىْ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ لِمُخَاطَبَةِ الرَّبِّ وَالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِدُعَائِهِ وَتَمْجِيدِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَمْ يَلِقْ عِنْدَ ذَلِكَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِى حَقِّهِ أَنْ يَبْصُقَ أَمَامَ وَجْهِهِ. وَأَمَّا مَا فِى الْحَدِيثِ الآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبَ الْحِسِّىَّ الَّذِى هُوَ بِالْجِهَةِ وَالْمَسَافَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِىُّ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ عِبَادِهِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنْهَا فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ.

(وَ)يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ (كَذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾) وَلا وَجْهَ لِمُقَارَنَةِ ثُبُوتِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ بِمَدَى ثُبُوتِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ[6] (فَإِنْ أَوَّلْتَهُ) أَىْ أَوَّلْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (فَلِمَ لا تُؤَوِّلُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ) فَإِنَّ التَّأْوِيلَ فِى ءَايَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا كَمَا تَزْعُمُ لَامْتَنَعَ تَأْوِيلُ كِلَيْهِمَا كَيْفَ (وَقَدْ جَاءَ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِبْلَةُ اللَّهِ فَفَسَّرَ الْوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ) وَأَوَّلَهُ بِذَلِكَ (أَىْ) إِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ وِجْهَةِ السَّفَرِ (بِصَلاةِ النَّفْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ) بَلْ رُوِىَ مِثْلُ ذَلِكَ فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِى بَابِ جَوَازِ صَلاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ فِى السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِىُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أَبِى سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ (﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾) اﻫ فَكَأَنَّكَ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُبْتَدِعًا يُؤَوِّلُ الآيَاتِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَلَى غَيْرِ مَا أَجَازَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَحَكَمَ فَتَبًّا لِقَائِلٍ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَتَبًّا لِقَوْلِهِ.

   (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَهُوَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) فَهُوَ حَدِيثٌ قَوِىٌّ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ بِالْمُسَلْسَلِ بِالأَوَّلِيَّةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَالأَعْلامِ رَوَوْهُ مُسَلْسَلًا شَيْخًا عَنْ شَيْخِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ وَالْبُخَارِىُّ فِى الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِىُّ فِى السُّنَنِ وَقَالَ عَقِبَهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ اﻫ حَدَّثَنِى بِهِ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ بِإِسْنَادِهِ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخِي مُحَمَّدُ سِراج بنُ مُحَمَّد سَعِيد الْجَبَرْتِيُّ الأَنِّيُّ الْمُفْتِي وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللَّهِ الشِّنْقِيطِيِّ الْمَالِكِيِّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بنِ مُحَمَّد الشَّرْنُوبِيّ الأَزْهَرِيّ الْمَالِكِيّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ حَسَنِ بنِ دَرْوِيشٍ الْقُوَيْسِنِيِّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الأَمِيرِ الْكَبِيرِ الْمِصْرِيّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدَ الْجَوْهَرِيّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَالِمٍ الْبِصْرِيّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّمْسِ مُحَمَّدِ بنِ عَلاءِ الدِّينِ الْبَابِلِيّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ الشَّلَبِيّ وُهُوَ أَوَّل ثَنَا الْجَمَالُ يُوسُفُ بنُ زَكَرِيَّا وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْبُرْهَانُ إِبْرَاهِيمُ بنُ عَلِيِّ بنِ أَحْمَدَ الْقَلْقَشَنْدِيُّ وَهُوَ أَوَّل ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْخَطِيبُ صَدرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَيْدُومِيُّ وَهُوَ أَوَّلُ أَنَا النَّجِيبُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْحَرَّانِيُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَلِىِّ ابْنِ الْجَوْزِيّ الْبَكْرِيُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ أَبِي صَالِحٍ الْمُؤَذِّن النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ أَوَّل ثَنِي وَالِدِي أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّن وَهُوَ أَوَّل ثَنِي مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ أَوَّلُ أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ بِلالٍ الْبَزَّاز بِزَاىٍ فَأَلِفٍ فَزَاىٍ وَهُوَ أَوَّل ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ بِشْرِ بنِ الْحَكَمِ الْعبْدِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ أَوَّلُ ثَنِي سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ وَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ بِالأَوَّلِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي قَابُوس مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاص عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاص أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ اهـ (وَفِى رِوَايَةٍ أُخْرَى) قَوِيَّةِ الإِسْنَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ فِى الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرِىِّ فِى تَهْذِيبِ الآثَارِ وَغَيْرِهِمْ (يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الأُولَى لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْوَارِدِ) مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ فِى أَلْفِيَّتِهِ وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ) فَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ كَتَعْلِيمِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةَ الَّتِى هِىَ سَبَبٌ لإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ وَبِإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ وَكِسْوَةِ عَارِيهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَرْحَمْكُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ فِى السَّمَاءِ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحَمَاتِ.

   (ثُمَّ) إِنَّ كَوْنَ (الْمُرَادِ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلائِكَةَ) مِمَّا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَبَيَّنُوهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمِمَّنْ (ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ) زَيْنُ الدِّينِ (الْعِرَاقِىُّ فِى أَمَالِيِّهِ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ الْمَلائِكَةُ اﻫ) أَىْ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا فِى رِوَايَةِ مَنْ فِى السَّمَاءِ أَهْلَهَا وَهُمُ الْمَلائِكَةُ. وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرِّوَايَتَيْنِ اللَّهَ تَعَالَى (لِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلَّهِ أَهْلُ السَّمَاءِ. وَ)رُبَّمَا اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَارِدِ بِالْوَارِدِ هُنَا وَحَمْلِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الأُخْرَى لِقَوْلِهِمْ إِنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُسْتَعْمَلُ فِى الْمُفْرَدِ فَلا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَهَذَا كَلامٌ لا وَجْهَ لَهُ يَرُدُّهُ الْقُرْءَانُ وَالْحَدِيثُ وَلُغَةُ الْعَرَبِ فَإِنَّ (مَنْ تَصْلُحُ لِلْمُفْرَدِ وَلِلْجَمْعِ) كَمَا فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ (فَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِى) حَمْلِ (الآيَةِ) الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ وَلا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ دَعْوًى بِذَلِكَ (وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِى الآيَةِ الَّتِى تَلِيهَا) أَىْ فِى سُورَةِ الْمُلْكِ (وَهِىَ ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَّنْ فِى السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ فَمَنْ فِى هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا أَهْلُ السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمَلائِكَةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتَهُ فِى الدُّنْيَا كَمَا أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَسْلِيطِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ) بَلْ (وَ)يُوَكَّلُونَ بِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ وَإِرْعَابِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ عِنْدَ النَّزْعِ وَفِى الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْحَشْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَثَلًا (هُمْ يَجُرُّونَ عُنُقًا مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِيَرْتَاعَ الْكُفَّارُ بِرُؤْيَتِهِ. وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِى أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ فِى) الْمَجْلِسِ السَّادِسِ وَالثَّمَانِينَ مِنْ (أَمَالِيِّهِ) الْمَحْفُوظَةِ فِى الْمَكْتَبَةِ الظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهَا (لَفْظُهَا الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحِيمُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ) وَهُوَ يَرْوِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِىِّ وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ فَهِىَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ.

   فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ تَمَسُّكَ الْمُشَبِّهَةِ بِالآيَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ فِى سُورَةِ الْمُلْكِ وَحَدِيثِ الرَّحْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِلِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِى السَّمَاءِ وَاقِعٌ فِى غَيْرِ مَحَلِّهِ وَجَارٍ عَلَى غَيْرِ السَّنَنِ[7] الَّتِى تَدُلُّ عَلَيْهَا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَاتُهَا الْمُخْتَلِفَةُ وَلَوْ حُمِلَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِى يُرِيدُونَهُ لَوَقَعَ التَّعَارُضُ فِى الْقُرْءَانِ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى نِسْبَةِ وُقُوعِ الصَّعْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ نِسْبَةِ الْحَيِّزِ وَالصُّورَةِ وَالْحَجْمِ وَالْمَكَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ عَلَى ظَاهِرِهِ لَزِمَهُمْ أَنَّ السَّمَاءَ تَحْوِى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَحْصُرَهُ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَصْعَقُ فِيمَنْ يَصْعَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ قَالُوا لا نَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمُتَبَادِرَةِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْهُ وَإِنَّمَا نَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ نَحْنُ نَقُولُ فَمَا إِنْكَارُكُمْ عَلَيْنَا مَعَ أَنَّ دَلِيلَنَا ثَابِتٌ وَمَا تَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ تَزُولُ عِنْدَ أَدْنَى تَمْحِيصٍ.

   (ثُمَّ لَوْ كَانَ اللَّهُ سَاكِنَ السَّمَاءِ كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ لَكَانَ اللَّهُ يُزَاحِمُ الْمَلائِكَةَ) لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مَمْلُوءَاتٌ بِهِمْ (وَهَذَا) أَىْ مُزَاحَمَةُ اللَّهِ لِلْمَلائِكَةِ (مُحَالٌ فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ) التِّرْمِذِىِّ (أَنَّهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَفِى لَفْظٍ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ) يُصَلِّى فَهُوَ (قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ) اﻫ فَهَلْ يَزْعُمُ الْوَهَّابِيَّةُ وَمَنْ خُدِعَ بِتَمْوِيهَاتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْحَصِرٌ فِيمَا دُونَ قَدْرِ شِبْرٍ أَوْ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَمَا مَعْنَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ بِذَاتِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى هَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَكُونُ كَبِيرًا مُمْتَدًّا عَلَى قَدْرِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَصْغُرُ وَيَتَضَاءَلُ حَتَّى يَسَعَهُ أَقَلُّ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ فِى الشَّطْرِ الثَّانِى مِنَ اللَّيْلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الشَّطْرِ يَحْصُلُ فِى أَوْقَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ فِى الْبِلادِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَيْسَ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلا يَمْضِى وَقْتٌ إِلَّا يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ فِى نَاحِيَةٍ مِنَ الأَرْضِ عَلَى مَدَارِ الزَّمَانِ فَإِنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِى بَلَدٍ هُوَ وَسَطُهُ فِى بَلَدٍ ثَانٍ وَءَاخِرَهُ فِى بَلَدٍ ثَالِثٍ وَهَكَذَا فَهَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ طُولَ الْوَقْتِ نَازِلٌ طَالِعٌ إِذَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ صَارُوا ضَحْكَةً وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَمَوَاقِعِ الإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فِى كُلِّ ءَايَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَلِمَاذَا يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا. بَلْ وَيَلْزَمُهُمْ مِمَّا قَالُوا أَنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ كَمَا زَعَمُوا بَلْ هُوَ كُلَّ الْوَقْتِ فِيمَا بَيْنَ نُزُولٍ عَنْهُ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى وَطُلُوعٍ إِلَيْهِ فَمَاذَا يَقُولُونَ وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَحْظَةً تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ وَتَحْتَ الْجَنَّةِ وَالسَّمَاوَاتِ السِّتِّ وَلَحْظَةً فَوْقَهَا فَمَا أَبْشَعَ عَقِيدَةً يَلْزَمُ عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ.

   (وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ) أَىْ وَأَنَا مُؤْتَمَنٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ أَىِ الْمَلائِكَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ تِتِمَّةُ الْحَدِيثِ (يَأْتِينِى خَبَرُ مَنْ فِى السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ) أَىْ خَبَرُ الْمَلائِكَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (فَالْمَقْصُودُ بِهِ) أَىْ بِقَوْلِهِ مَنْ فِى السَّمَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ (الْمَلائِكَةُ أَيْضًا) لا اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ) عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ (فَمَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا) عَلَى نَفْسِ التَّأْوِيلِ الَّذِى أَوَّلَ بِهِ الْبَعْضُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ (وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ انْسِيَاقًا خَلْفَ وَهْمِهِمُ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا الَّذِى يُثْبِتُهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ بِوَلِىٍّ وَشَاهِدَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ بِحَيْثُ وَقَعَ تَزْوِيجُهَا فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ أَىْ حَصَلَ زِوَاجُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا بِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ[8] (فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهَا) حَصَلَ بِكِتَابَةٍ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْمَوْجُودِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَهُوَ (مُسَجَّلٌ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ لَيْسَتِ الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ) فَإِنَّ (الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ شَخْصٍ فَكُلُّ زِوَاجٍ يَحْصُلُ إِلَى نِهَايَةِ الدُّنْيَا مُسَجَّلٌ) فِى اللَّوْحِ أَىْ إِنَّ زِوَاجَ مَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مُسَجَّلٌ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِحُصُولِ كَذَا وَكَذَا مِنْهُمْ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الأَمْرُ عَلَى مَا كُتِبَ وَبِذَلِكَ يَنْعَقِدُ زِوَاجُهُمْ وَأَمَّا زِوَاجُ زَيْنَبَ فَقَدِ انْعَقَدَ بِمُجَرَّدِ حُلُولِ الْوَقْتِ الَّذِى سُجِّلَ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فِيهِ فَكَانَ زِوَاجُهَا مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ لِأَهْلِ الأَرْضِ فِى انْعِقَادِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ كِتَابَةٍ خَاصَّةٍ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ (وَاللَّوْحُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ) فَهَذَا هُوَ الَّذِى كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْتَخِرُ بِهِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا فِيهِ عِبَارَةُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ زَوَّجَ لا بِلَفْظِ الْجَلالَةِ كَمَا لَوْ قُلْتَ جَلَبْتُ لَكَ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ مِنَ الصِّينِ فَإِنَّ الْجَلْبَ قَدْ حَصَلَ مِنَ الصِّينِ وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ كُنْتَ بِذَاتِكَ مَوْجُودًا هُنَاكَ.

   (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَ(فِيهِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ) مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (إِلَّا كَانَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا الْحَدِيثَ فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْمَلائِكَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِى هِىَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهِىَ لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.

   وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَبَّنَا الَّذِى فِى السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ فَلَمْ يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (وَلَوْ صَحَّ فَأَمْرُهُ كَمَا مَرَّ فِى حَدِيثِ الْجَارِيَةِ) أَىْ مَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ رَبَّنَا الَّذِى تَقَدَّسَ اسْمُكَ فِى السَّمَاءِ أَىْ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمَيْنِ وَهُمَا فِى الْحَقِيقَةِ مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ تَقَدَّسَ وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِى اللُّغَةِ كَثِيرٌ فِيهَا. هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْوِجُ إِلَى تَأْوِيلٍ[9].

   (وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ وَسَمَاوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ) مَعَ أَنَّهُ يَرْوِيهِ فِى بَعْضِ كُتُبِهِ الأُخْرَى الَّتِى لَمْ يَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ فِيهَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَصْحِيحِهِ لَهُ (فَلا حُجَّةَ فِيهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ) كَمَا (ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ) الْبُخَارِىُّ (فِى كِتَابِهِ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ نِدَاءُهُ فِى السَّمَاءِ وَكَانَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِى كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بَلْ ذَكَرَهُ فِى كِتَابِهِ الْمَسَائِلُ وَمُجَرَّدُ الرِّوَايَةِ لا يَكُونُ إِثْبَاتًا) وَقَدْ رَوَاهُ اللَّالكَائِىُّ بِالإِسْنَادِ عَيْنِهِ بِلَفْظِ مِلْكُ اللَّهِ فِى السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُرَيْجِ بنِ النُّعْمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ قَالَ فِيهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَدِيثٍ وَكَانَ ضَعِيفًا فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَدِىٍّ يَرْوِى غَرَائِبَ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ كَانَ أَصَمَّ أُمِيًّا لا يَكْتُبُ اﻫ وَلا شَكَّ أَنَّهُ لا يُنْسَبُ إِلَى مَالِكٍ قَوْلٌ بِمِثْلِ هَذَا السَّنَدِ.

(42) أَىْ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مُخَصِّصٍ. مُصَنَّف.

(43) ضُبِطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِى بَعْضِ أُصُولِ مُسْلِمٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمشَالَةِ وَفِى بَعْضِهَا الآخَرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الظَّاءِ الْمشَالَةِ كَمَا بَيَّنَهُ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

(44) كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى فَتْحِ الْبَارِى.

(45) قَالُوا كَمَا جَاءَ فِى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أَىْ فَمَا دُونَهَا اهـ وَغَابَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ فَمَا فَوْقَهَا فِى الصِّغَرِ أَىْ مَا زَادَ عَلَيْهَا فِى الصِّغَرِ فَمِنْ هُنَا فَسَّرُوا الآيَةَ بِمَا فَسَّرُوهُ لا لِأَنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ بِإِطْلاقِهَا تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى دُونَ.

(46) كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ شَتَمَنِى ابْنُ ءَادَمَ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ إِنَّمَا سَمَّاهُ شَتْمًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْقِيصِ لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ وَالِدَةٍ تَحْمِلُهُ ثُمَّ تَضَعُهُ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ سَبْقَ النِّكَاحِ وَالنَّاكِحُ يَسْتَدْعِى بَاعِثًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ اهـ

(47) أَىْ لِأَنَّ ثُبُوتَ الآيَةِ بِالتَّوَاتُرِ فَهِىَ دَلِيلٌ قَطْعِىُّ الثُّبُوتِ بِخِلافِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ إِذَا حُكِمَ بِثُبُوتِهِ كَانَ ثُبُوتُهُ ظَنِّيًّا فَلا يُقَاوِمُ الْقَطْعِىَّ أَىْ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَنْعِ الْمُشَبِّهِ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ وَحَمْلِهِ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الظَّاهِرِ تُرِكَ الأَخْذُ بِالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا إِذِ الظَّنِّىُّ لا يُلْغِى الْقَطْعِىَّ وَإِنَّمَا يُلْغِى الْقَطْعِىُّ مُخَالِفَهُ الظَّنِّىَّ.

 (48) السَّنَنُ أَىِ الطَّرِيقَةُ.

(49) أَرْقِعَةٍ جَمْعُ رَقِيعٍ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّمَاءِ.

(50) وَذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ لا يُحْتَجُّ بِهِ إِجْمَاعًا فِى مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ.