تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ
(لا يُعْفَى الْجَاهِلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأُصُولِ وَلا يُعْذَرُ فِيمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ) فَالْجَاهِلُ إِذَا كَانَ لا يَعْرِفُ أَنَّ سَبَّ اللَّهِ كُفْرٌ فَسَبَّ اللَّهَ لا يُقَالُ هَذَا مَعْذُورٌ لا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ جَهِلَ الْحُكْمَ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ هَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ كَالْقَاضِى عِيَاضٍ وَابْنُ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الْحَنَفِيَّةُ بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ عَامِدًا لَكِنْ يَجْهَلُ الْحُكْمَ إِنَّهُ يُعْذَرُ خِلافُ الصَّحِيحِ أَىْ قَوْلٌ لا يُعْتَبَرُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ (وَلَوْ كَانَ الْجَهْلُ يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَهْلَ لَوْ كَانَ يُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ فِى الآخِرَةِ عَلَى الإِطْلاقِ (لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا) لِلنَّاسِ (مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا خِلافُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾) فَاللَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (إِلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَنَحْوَهُ) أَىْ مِثْلَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَهُوَ الَّذِى لَمْ يُعَلِّمْهُ أَهْلُهُ وَلا غَيْرُهُمْ أُمُورَ الدِّينِ إِلَّا الشَّهَادَتَيْنِ وَعَاشَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا فَهَذَا (لا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ) شَىْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الَّتِى هِىَ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَإِنْكَارِ (فَرْضِيَّةِ الصَّلاةِ وَتَحْرِيـمِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ أَنَّ هَذَا دِينُ الإِسْلامِ) بَلْ يُعَلَّمُ ثُمَّ إِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَيُطَالَبُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ (وَالْفَرْضُ الأَوَّلُ فِى حَقِّ الأَهْلِ تَعْلِيمُهُمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ كَيْلا يَقَعُوا فِى الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ بِالْعَقِيدَةِ) لِأَنَّ الأَهْلَ مِنْ أَطْفَالٍ وَغَيْرِهِمْ إِنْ تُرِكُوا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِهِمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالْحَدِّ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَاللَّوْنِ وَالتَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَكُلِّ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا فَيَهْلِكُونَ (فَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ نُورَانِىٌّ أَبْيَضُ) أَوْ شَىْءٌ أَزْرَقُ كَلَوْنِ السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ سَاكِنُ السَّمَاءِ (أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَاسْتَمَرُّوا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتُوا عَلَيْهِ خُلِّدُوا فِى النَّارِ نَتِيجَةَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ) لِذَلِكَ صَارَ أَوْلَى مَا يُعَلِّمُ الأَهْلُ الْوَلَدَ الْعَقِيدَةَ يُعَلِّمُونَهُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجِهَةِ فَوْقٍ وَجِهَةِ تَحْتٍ وَجِهَةِ يَمِينٍ وَجِهَةِ شِمَالٍ وَجِهَةِ أَمَامٍ وَجِهَةِ خَلْفٍ وَقَبْلَ وُجُودِ الْفَرَاغِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلامِ وَأَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ وَأَنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعُقُولِ وَالأَذْهَانِ لِأَنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَلا خَالِقَ لِشَىْءٍ سِوَاهُ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ يُعَلَّمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصِّيَامَ صِيَامَ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ عَلَى الصِّيَامِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ السَّرِقَةُ حَرَامٌ وَالزِّنَى حَرَامٌ وَاللِّوَاطُ حَرَامٌ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ وَالْكَذِبُ حَرَامٌ وَضَرْبُ الْمُسْلِمِينَ وَسَبُّهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (قَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ) وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِنَ الأَتْقِيَاءِ الأَوْلِيَاءِ الْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ الْمَعْرُوفِينِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ الْهَالِكِينَ) ذَكَرَهُ النَّوَوِىُّ فِى كِتَابِ الأَذْكَارِ مَعْنَاهُ لا تَنْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتَخَبَّطُ بِالْمَعَاصِى وَالْجَهْلِ فَتَقُولَ أَكْثَرُ النَّاسِ ضَالُّونَ فَتَضِلَّ مَعَهُمْ اتْرُكْهُمْ فِيمَا ضَلُّوا فِيهِ وَاسْتَعْمِلْ عَقْلَكَ الَّذِى هُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ لِتَكُونَ مَعَ النَّاجِينَ اتْرُكْ أَكْثَرَ الْبَشَرِ وَلا تَمْشِ مَعَهُمْ فِى الضَّلالِ وَاسْلُكْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ وَلَوْ قَلُّوا (فَهَلْ هَذَا الْجَهْلُ فِى الْعَقِيدَةِ هُوَ نَتِيجَةُ مَحَبَّةِ الأَهْلِ لِأَبْنَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وَجَاءَ فِى تَفْسِيرِ الآيَةِ أَىْ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ) وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ لِلْجَمِيعِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، اللَّهُ أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالْعِبَادَةِ لَكِنْ مَا شَاءَ لِلْجَمِيعِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (وَبَعْدَ أَنْ جَاءَنَا الْهُدَى وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ بِهِ فَلا عُذْرَ لَنَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾) وَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُعَذِّبُ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا بِدَعْوَةِ الإِسْلامِ الَّتِى جَاءَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ لا يُعَذِّبُهُمْ لا عَذَابَ اسْتِئْصَالٍ فِى الدُّنْيَا وَلا عَذَابًا فِى الآخِرَةِ بِنَارِ جَهَنَّمَ وَبِهَذِهِ الآيَةِ احْتَجَّ الأَشَاعِرَةُ فَقَالُوا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ثُمَّ مَاتَ فَلا يُعَذَّبُ لَوْ عَاشَ يَعْبُدُ الْوَثَنَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهْلِ بِخَالِقِهِ مَعْنَاهُ الْعَقْلُ وَحْدَهُ يَكْفِى فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِدَعْوَةِ الأَنْبِيَاءِ يَكْفِيهِ الْعَقْلُ وَحْدَهُ مِمَّا يَرَاهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ. وَقَالَتِ الْمَاتُرِيدِيَّةُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِى الدُّنْيَا لَيْسَ عَذَابَ الآخِرَةِ، عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ مَعْنَاهُ الْعَذَابُ الْكَاسِحُ مِثْلُ عَذَابِ قَوْمِ نُوحٍ وَهُوَ الْغَرَقُ.