الخميس نوفمبر 21, 2024

الدَّرْسُ السَّابِعُ وَالثَّلاثُونَ

تَفْسِيرُ حَدِيثِ إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ

 

     الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ.

     أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ رُوِّينَا فِى جَامِعِ التِّرْمِذِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ مُخَاطِبًا لِابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ اهـ.

     مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ تَسْأَلَهُ هُوَ اللَّهُ وَهَذَا أَمْرٌ لا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَخَالِقُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلا يَخْفَى أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ هُوَ اللَّه. وَفِى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ [أَىْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الأَوْلَى بِالأَمْرِ] حَدِيثٌ رُوِّينَاهُ فِى صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ اهـ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَوْلَى بِالْمُصَاحَبَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَكَذَلِكَ الأَوْلَى بِأَنْ تُطْعِمَ طَعَامَكَ التَّقِىُّ وَلَيْسَ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ صُحْبَةُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ، لَيْسَ مُرَادُ النَّبِىِّ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ تُصَاحِبَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ إِنَّمَا مُرَادُهُ بَيَانُ أَنَّ الأَوْلَى بِالْمُصَاحَبَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ. وَكَذَلِكَ الْجُزْءُ الثَّانِى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ اهـ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِهِ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يَطْعَمَ طَعَامَكَ هُوَ الْمُسْلِمُ التَّقِىُّ.

     مَنْ هُوَ التَّقِىُّ، التَّقِىُّ هُوَ مَنْ قَامَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ أَىْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَجَنَّبَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، هَذَا هُوَ التَّقِىُّ، مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ يُقَالُ لَهُ تَقِىٌّ. رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ اهـ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ تُطْعِمَهُ طَعَامَكَ هُوَ الْمُسْلِمُ التَّقِىُّ أَىْ أَنَّ إِطْعَامَ طَعَامِكَ الْمُسْلِمَ التَّقِىَّ خَيْرٌ وَأَوْلَى، أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُطْعِمَ مُسْلِمًا غَيْرَ تَقِىٍّ أَوْ كَافِرًا. وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ تُطْعِمَ الْمُسْلِمَ الَّذِى هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْعُصَاةِ وَلا يَعْنِى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ لا يَجُوزُ إِطْعَامُ الْكَافِرِ بَلْ هَذَا جَائِزٌ وَهَذَا جَائِزٌ. إِذَا أَطْعَمَ الْمُسْلِمُ الْعَاصِىَ الَّذِى هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ جَائِزٌ وَفِيهِ ثَوَابٌ. كَذَلِكَ إِذَا أَطْعَمَ الْكَافِرَ مِنَ الْكُفَّارِ هُوَ جَائِزٌ وَفِيهِ ثَوَابٌ.

     هَلْ فِى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ خَفَاءٌ لِمَنْ عَرَفَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مَا فِيهِ خَفَاءٌ. فَالْمُحَرِّفُونَ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ يُورِدُونَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ لِتَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، أَيْنَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ. هَلْ قَالَ الرَّسُولُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، مَا قَالَ. أَلَيْسَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ إِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ فَرْقٌ، بَلَى. لَكِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ دَأْبُهُمْ تَحْرِيفُ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَالتَّمْوِيهُ عَلَى النَّاسِ وَزَخْرَفَةُ الْبَاطِلِ وَإِيهَامُ النَّاسِ الأَمْرَ الْجَائِزَ حَرَامًا أَوْ شِرْكًا وَكُفْرًا هُمْ حَرَّفُوا مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ. هَذَا دَأْبُهُمْ. إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَرِّمُوا التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ. هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحُ الإِسْنَادِ إِنَّمَا هُمْ يُحَرِّفُونَ مَعْنَاهُ. لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَدَّعُونَ، لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى دِلالَةٍ عَلَى تَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، لَيْسَ فِيهِ بِالْمَرَّةِ. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ سُؤَالَ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ، كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ سُؤَالِ وَاحِدٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَذَلِكَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ هَؤُلاءِ لا يُورِدُونَ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا يُورِدُونَهُ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ.

     التَّوَسُّلُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ شَىْءٌ أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ، اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَوَسَّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. هَؤُلاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ إِلَّا التَّمْوِيهَ. هَذَا الْحَدِيثُ يُورِدُونَهُ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ سُؤَالَ غَيْرِ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ حَرَامٌ وَيُورِدُونهُ بِمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالأَوْلِيَاءِ وَالأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ بَلْ هُمْ يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ كُفْرًا بَلْ إِذَا نَادَيْتَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا نِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا حَاضِرًا أَمَامَكَ يَعْتَبِرُونَهُ شِرْكًا كُفْرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ إِلَّا التَّمْوِيهَ أَىْ إِلَّا أَنَّهُمْ يُوهِمُونَ النَّاسَ بِمَا يُورِدُونَهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ أَىْ مِنَ الأُمُورِ الَّتِى تُوهِمُ سَامِعَهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْفَهْمِ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا يَقُولُونَ.

     ثُمَّ هُنَاكَ حَدِيثٌ ءَاخَرُ يُورِدُونَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ هَذَا فَهُوَ صَحِيحٌ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ اهـ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى جَامِعِهِ وَصَحَّحَهُ لَكِنَّ هُنَاكَ حَدِيثًا ضَعِيفًا يَتَشَبَّثُونَ بِهِ لِتَحْرِيمِ الِاسْتِغَاثَةِ وَتَكْفِيرِ الْمُسْتَغِيثِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ. مَا هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ. هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ. هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُومُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ نَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَذَهَبُوا فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ إِنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بِى إِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اهـ [عَزَاهُ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ وَكَنْزِ الْعُمَّالِ إِلَى الطَّبَرَانِىِّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ بَابُ حَدِيثِ عُبَادَةِ بنِ الصَّامِتِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ] هَذَا الْحَدِيثُ هُمْ يَتَشَبَّثُونَ بِهِ لِتَكْفِيرِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالرَّسُولِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ أَوْ بِوَلِىٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَوْ مَنْ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِى أَوْ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ الْجِيلانِىَّ أَغِثْنِى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، يُورِدُونَ هَذَا الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِى لا يُحْتَجُّ بِهِ لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَغِيثِ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُمْ، إِنْ أَوْرَدُوا لَكُمْ حَدِيثًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا وَلَكِنْ هُمْ يُحَرِّفُونَ مَعْنَاهُ فَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهُمْ، إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَسَرَّعُوا بِمُوَافَقَتِهِمْ. هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَمَعَ هَذَا هُمْ يُورِدُونَهُ لِتَكْفِيرِ الْمُسْتَغِيثِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوِ الَّذِى يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنَا أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِنَّا أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْقِذْنَا مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا فَأَنْقِذْنَا وَأَغِثْنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، يُرِيدُونَ بِإِيرَادِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ أَنْ يُكَفِّرُوا الْمُسْلِمَ الَّذِى يَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَوْ بِوَلِىٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.

   هُوَ الِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّوَسُّلُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. إِذَا إِنْسَانٌ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَنْ تُفَرِّجَ كُرْبَتِى أَوْ أَنْ تَحُلَّ لِى مُشْكِلَتِى هَذَا يُقَالُ لَهُ تَوَسُّلٌ بِالرَّسُولِ وَيُقَالُ لَهُ اسْتِغَاثَةٌ بِالرَّسُولِ. الِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّوَسُّلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ النَّحْوِىُّ الْمُتَكَلِّمُ الأُصُولِىُّ الشَّافِعِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ. هَذَا الإِمَامُ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَمَا أَنَّهُ مُحَدِّثٌ حَافِظٌ فِى الْحَدِيثِ وَفَقِيهٌ شَافِعِىٌّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِى الْمَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ وَعَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مُجْتَهِدٌ لَكِنْ لَمْ يُنَادِ بِالِاجْتِهَادِ مَا قَالَ لِلنَّاسِ يَا نَاسُ أَنَا صِرْتُ مُجْتَهِدًا فَتَعَالَوْا خُذُوا بِاجْتِهَادِى مَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُنَادِىَ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ لِيُقَلِّدُوهُ وَيَتْبَعُوهُ، لَيْسَ شَرْطًا، فَإِنَّهُ يَرَى تَقْلِيدَهُمْ لِإِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ كَالشَّافِعِىِّ وَمَالِكٍ وَأَبِى حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِى.

     وَهُنَاكَ أَيْضًا أَمْرٌ يَتَشَبَّثُ هَؤُلاءِ بِهِ لِتَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِىِّ بَعْدَ وَفَاتِهِ. عِنْدَهُمْ قَاعِدَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَهِىَ قَوْلُهُمْ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ. مَنْ وَضَعَ لَهُمْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَلَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ ذَلِكَ. مَا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ قَبْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ، قَالَ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ، مَاذَا يَعْنِى بِهَذَا، يَعْنِى بِهَذَا أَنَّكَ إِنْ تَوَسَّلْتَ بِنَبِىٍّ أَوْ وَلِىٍّ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَرَامٌ بَلْ شِرْكٌ وَكُفْرٌ، إِنْ تَوَسَّلْتَ بِالنَّبِىِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ فِى غَيْرِ مَجْلِسِهِ هُوَ فِى بَلَدٍ وَأَنْتَ فِى بَلَدٍ أَوْ أَنْتَ فِى بَيْتِكَ وَهُوَ فِى مَكَانِهِ إِذَا تَوَسَّلْتَ بِهِ فِى هَذِهِ الْحَالِ عِنْدَهُ أَشْرَكْتَ وَكَفَرْتَ، عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ أَخَذُوا بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ الَّتِى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ الَّتِى لَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ وَلا إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٌ أَوْ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ أَوِ الشَّافِعِىُّ أَوْ غَيْرُهُمْ، مَا قَالَهَا أَحَدٌ.

     هُنَا مَسْئَلَةٌ يَنْبَغِى الِانْتِبَاهُ لَهَا، هُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى أَبِى حَنِيفَةَ، مَاذَا يَقُولُونَ، يَقُولُونَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ لا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَقِّ أَحَدٍ اهـ أَىْ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ نَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ. أَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهَا. فَإِنْ قَالَهَا فَسَّرَهَا جَمَاعَتُهُ بِأَنَّ مُرَادَ أَبِى حَنِيفَةَ بِمَنْعِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَىْ بِحَقِّ فُلانٍ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُوهِمُ أَنَّ عَلَى اللَّهِ حَقًّا لازِمًا لِخَلْقِهِ لِعِبَادِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مُلْزَمًا بِشَىْءٍ. الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْحَسَنَاتِ الْمُطِيعُونَ لَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ إِنَّمَا أَطَاعُوهُ بِتَمْكِينِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ، هُوَ عَلَّمَهُمْ، خَلَقَ فِيهِمُ الإِدْرَاكَ وَالْعِلْمَ هُوَ أَعْطَاهُمْ قُوَّةَ الْكَلامِ وَهُوَ أَعْطَاهُمْ قُوَّةَ الْمَشْىِ، كُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَبِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ أَيْنَ يَكُونُ اللَّهُ مُلْزَمًا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَيْسَ مُلْزَمًا لا لِلأَنْبِيَاءِ وَلا لِلأَوْلِيَاءِ، اللَّهُ لَيْسَ مُلْزَمًا لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا إِنَّمَا هُوَ مُتَكَرِّمٌ مُتَفَضِّلٌ، الثَّوَابُ الَّذِى يُصِيبُ الطَّائِعِينَ مِنْ عِبَادِهِ الأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ فَضْلٌ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ مُلْزَمًا أَنْ يُعْطِيَهُمْ، لِمَاذَا، لِأَنَّهُ هُوَ خَلَقَهُمْ هُوَ أَوْجَدَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ ثُمَّ خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الَّتِى هِىَ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِذًا لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ فَضْلٌ، الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ وَالْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ فَضْلٌ بَلِ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ، هُوَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ عُقُولَهُمْ وَخَلَقَ أَلْسِنَتَهُمُ الَّتِى يَذْكُرُونَ بِهَا وَيُسَبِّحُونَ بِهَا وَيُقَدِّسُونَهُ بِهَا وَهُوَ خَلَقَ فِيهِمُ النُّطْقَ، الإِنْسَانُ هَذَا عِنْدَمَا يُولَدُ هَلْ يَنْطِقُ، لا يَنْطِقُ، مَنِ الَّذِى يَخْلُقُ فِيهِ بَعْدَمَا يَبْلُغُ زَمَانَ النُّطْقِ قُوَّةَ النُّطْقِ، ثُمَّ مَنِ الَّذِى يُلْهِمُ الإِنْسَانَ لِيَعْمَلَ الْخَيْرَ، اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِى يُلْهِمُ الإِنْسَانَ، فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ مُلْزَمًا لِأَحَدٍ بِوَاجِبٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ بِحَيْثُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ يَكُونُ ظَالِمًا، حَاشَى لِلَّهِ. اللَّهُ تَعَالَى لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لا لِلأَنْبِيَاءِ وَلا لِلأَوْلِيَاءِ بَلْ هُوَ الَّذِى تَكَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، هُوَ الَّذِى أَلْهَمَهُمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الَّذِى أَقْدَرَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ. هَذَا كَلامُ جَمَاعَةِ أَبِى حَنِيفَةَ، قَالُوا الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ قَوْلِ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُلْزَمٌ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا وَهُوَ لَيْسَ مُلْزَمًا. هَذَا مَعْلُومٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُلْزَمًا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ الثَّوَابَ فِى الآخِرَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَفَضِّلٌ عَلَى عِبَادِهِ الطَّائِعِينَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ. جَمَاعَةُ أَبِى حَنِيفَةَ قَالُوا إِنَّمَا مَنَعَ الإِمَامُ مِنْ قَوْلِ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ بِحَقِّ فُلانٍ تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ مُلْزَمٌ. أَحَدُ رُؤُوسِ الْوَهَّابِيَّةِ فِى دِمَشْقَ الشَّامِ قَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً كُنَّا فِى مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ مَعَهُ قَالَ أَمَّا التَّوَسُّلُ فَقَدْ كَفَانَا الْمُؤْنَةَ أَبُو حَنِيفَةَ اهـ يَعْنِى أَبُو حَنِيفَةَ حَرَّمَ التَّوَسُّلَ فَنَحْنُ اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ. أَيْنَ حَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّوَسُّلَ، إِنَّمَا مَنَعَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَطْ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ، مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَنَعَ، مَا قَالَ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِى غَيْرِ حُضُورِهِمْ وَفِى غَيْرِ حَالِ حَيَاتِهِمْ، مَا قَالَ هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ.

     ثمَّ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ هَذَا [أَىْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ مِنْ قَوْلِ اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ] فَلَيْسَ فِى هَذَا حُجَّةٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِى يُثْبِتُ جَوَازَ أَنْ نَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ. وَرَدَ حَدِيثٌ حَسَنُ الإِسْنَادِ حَسَّنَهُ حَافِظَانِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ أَحَدُهُمَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَالآخَرُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْدِسِىُّ. هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ مَنْ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هَذَا فَإِنِّى لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلا بَطَرًا وَلا رِيَاءً وَلا سُمْعَةً إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ [رَوَاهُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ] وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْمَسْجِدِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ حَسَنٌ كَذَلِكَ الْحَافِظُ الآخَرُ قَالَ عَنْهُ حَسَنٌ.

     لِوُجُودِ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِى يَتَوَهَّمُونَهُ أَوْ بِالْمَعْنَى الَّذِى قَالَهُ جَمَاعَتُهُ دَلِيلٌ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَنْ يَقُولَ الْمُتَوَسِّلُ فِى تَوَسُّلِهِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ أَوْ بِحَقِّ إِبْرَاهِيمَ أَوْ بِحَقِّ أَبِى بَكْرٍ أَوْ بِحَقِّ عَلِىِّ ابْنِ أَبِى طَالِبٍ، مَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَنَّى يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ. إِذَا جَاءَ الْخَبَرُ انْقَطَعَ النَّظَرُ. هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ. مَعْنَاهُ إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بَطَلَ، بَطَلَ الِاجْتِهَادُ مَعَ وُجُودِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ. مَعَ وُجُودِ هَذَا الْحَدِيثِ نَحْنُ نَقُولُ ذَاكَ الَّذِى يُرْوَى عَنْ أَبِى حَنِيفَةَ مَا فِيهِ دَلِيلٌ. ذَاكَ الَّذِى ذَكَرْتُ لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ رُؤُوسِ الْوَهَّابِيَّةِ قَالَ لِى فِى مُنَاظَرَةٍ مِنَ الْمُنَاظَرَاتِ فِى دِمَشْقَ أَمَّا التَّوَسُّلُ فَقَدْ كَفَانَا أَبُو حَنِيفَةَ الْمُؤْنَةَ، كَلامٌ لا طَائِلَ تَحْتَهُ بَلْ هُوَ هَبَاءٌ مَنْثُورٌ.