الأحد يناير 5, 2025

تَفْسِيرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ سُورَةِ طَه الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى

 

   هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ أَىِ الَّتِى تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى بِحَسَبِ اللُّغَةِ لَكِنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا لِمُنَاقَضَتِهِ لِلآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ وَلِلْحُكْمِ الْعَقْلِىِّ الْقَاطِعِ وَلِذَلِكَ قَالُوا (يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ مَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ كَمَا رُوِىَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لا كَمَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِ اﻫ (وَ)مَنْ فَسَّرَهَا بِاسْتِقْرَارٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَنِيعًا بَلْ (يَكْفُرُ مَنْ) يُفَسِّرُهَا بِذَلِكَ أَوْ (يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ لائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى (بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِى الْعُقُولِ) يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَتُؤَيِّدُهُ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ (فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ) اسْتَوَى عَلَى الْمَعْنَى الْمُوَافِقِ لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ (الِاسْتِوَاءَ) يَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِى أَوْصَلَهَا الْقَاضِى أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِىِّ إِلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى مِنْهَا الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَعُلُوُّ الْمَكَانَةِ وَعُلُّوُ الْمَكَانِ وَبُلُوغُ الأَشُدِّ وَالتَّمَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَهْرُ فِى مَعَانٍ أُخْرَى وَالَّذِى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا عُلُّوُ الْمَكَانَةِ وَالْقَهْرُ وَعُلُّوُ الْمَكَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلاءِ وَلِذَلِكَ حَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ (عَلَى الْقَهْرِ فَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ) الأُمَوِىِّ (قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ) أَىْ سَيْطَرَ بِشْرُ بنُ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَمَلَكَهُ (مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ) أَىْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلا سَفْكِ دِمَاءٍ (وَ)إِذَا قِيلَ مَا (فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ) فَإِنَّ كُلَّ شَىْءٍ مَقْهُورٌ لِلَّهِ قِيلَ فَائِدَتُهُ (أَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ شُمُولُ مَا دُونَهُ مِنْ بَابِ الأَوْلَى) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَإِنَّمَا خُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا فَإِذَا كَانَ مَرْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى عُلِمَ أَنَّ مَا دُونَهُ بِالأَوْلَى مَرْبُوبٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِظْهَارًا لِهَذَا الْمَعْنَى (قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ) أَيْ لِيَدُلَّ بِاحْتِيَاجِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِ مَقْهُورًا تَحْتَ سَيْطَرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ وَبَاقِيًا بِإِبْقَائِهِ مَعَ عَظِيمِ حَجْمِهِ وَاتِّسَاعِ مِسَاحَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعُمُومِهَا (وَلَمْ يَتَّخِذْهُ) أَىْ لَمْ يَتَّخِذِ اللَّهُ الْعَرْشَ (مَكَانًا لِذَاتِهِ) اﻫ (رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) وَغَيْرِهِ. هَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ لِلآيَةِ (أَوْ يُقَالُ) ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ﴾ (﴿اسْتَوَى﴾) أَىِ (اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ) مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَعْنَاهُ لَكِنْ (مَعَ تَنْزِيهِهِ) عَزَّ وَجَلَّ (عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ) وَالِاعْتِدَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَقَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ أَىْ مَعْلُومٌ وُرُودُهُ فِى الْقُرْءَانِ كَمَا فِى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ اﻫ وَفِى رِوَايَةٍ وَالْكَيْفُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ اﻫ وَالْكَيْفُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَأَثْبَتَ مَالِكٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَعْنَى الْمُرَادَ لَكِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى جُلُوسًا أَوِ اسْتِقْرَارًا أَوْ كَيْفِيَّةً أُخْرَى مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ.

   (وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ طَه (﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاِة مِنْ فَوْقٍ وَ)هَؤُلاءِ يُقَالُ لَهُمْ فِى أَيَّامِنَا الْوَهَّابِيَّةُ لِأَنَّهُمْ تَبِعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ظَهَرَ مِنْ نَحْوِ مِائَتَىْ عَامٍ وَأَحْيَا ضَلالاتِ أَحْمَدَ بنِ تَيْمِيَةَ الَّذِى ارْتَضَى الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ وَارْتَضَى الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَاسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ بَعُوضَةٍ فَكَيْفَ بِعَرْشٍ عَظِيمٍ وَارْتَضَىَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ السَّاقِطَةِ وَالْعَقَائِدِ الْمَرْذُولَةِ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَعْرَابِ نَجْدٍ قَاسِيَةٌ قُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ حُلُومُهُمْ[1] شَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ جِسْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِى جِهَةِ الأَعْلَى (مُدَّعِينَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَىْ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ فِيهَا قِيَاسَ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ التَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ جَرَيَانُ الزَّمَانِ عَلَى الْمَوْجُودِ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَكَانَ مَخْلُوقٌ وَالزَّمَانَ مَخْلُوقٌ لَمْ يَكُونَا ثُمَّ أَوْجَدَهُمَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودًا بِدِلالَةِ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ وَغَيْرِهِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ اهـ وَهَؤُلاءِ الْمُخَالِفُونَ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ فَهُمْ إِذًا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ فَإِذَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ انْتَقَضَ مَا زَعَمُوهُ وَصَحَّ وُجُودُهُ جَلَّ وَعَزَّ بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ. وَمُصِيبَةُ هَؤُلاءِ جَهْلُهُمْ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ وَبِلُغَةِ الْعَرَبِ فَأَخَذُوا لِذَلِكَ بِظَوَاهِرِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَةِ مُفَسِّرِينَ لَهَا بِمُقْتَضَى الْحِسِّ بَلْ (وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِى نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ) أَىِ الْمُقَابَلَةُ أَىْ كَوْنُ الشَّىْءِ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ (وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْتِقَالٍ) فَقَوْلُ الأَوْزَاعِىِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ مَعْنَاهُ ءَامِنُوا بِهَذِهِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِى الْقُرْءَانِ وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْكَيْفِيَّةُ نَوْعٌ مِنَ الأَعْرَاضِ أَىْ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى ءَامِنُوا بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِى جَاءَتْ فِى النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُشَبِّهُوهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِىُّ (وَالَّذِى يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ) أَىْ يُبْطِلُهَا هُوَ (أَنْ يُقَالَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ) اللَّهُ (الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ) أَىِ الْمُشَبِّهُ (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيمٌ) لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْمَوْجُودَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مَكَانٌ قَدِيمٌ وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِى الأَزَلِيَّةِ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ وَهَذَا كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ (وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ) كُلُّ مَوْجُودٍ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ وَالْمَكَانُ حَادِثٌ إِذًا (الرَّبُّ تَعَالَى مُحْدَثٌ وَهَذَا) كُفْرٌ أَيْضًا بِالإِجْمَاعِ وَهُوَ (مَآلُ) أَىْ نِهَايَةُ كَلامِ[2] (الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ) نِسْبَةً إِلَى الْحَشْوِ الَّذِى لا اعْتِبَارَ لَهُ وَلا مَرْتَبَةَ [أَىْ فَيَكُونُ أَهْلُهُ مُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْخَيْرِ بَعِيدِينَ مِنْهُ] (لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ ا وَقَالَ الْقُشَيْرِىُّ أَيْضًا فِى التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ) وَنَقَلَهُ عَنْهُ الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ الإِحْيَاءِ (فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ) أَىْ إِذَا ادَّعَى الْمُشَبِّهَةُ تَحَكُّمًا بِلا دَلِيلٍ أَنَّهُ يَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِ الآيَةِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ (قُلْنَا) فِى الْجَوَابِ (اللَّهُ يَقُولُ أَيْضًا) فِى سُورَةِ الْحَدِيدِ (﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وَيَقُولُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ (﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ فَيَنْبَغِى أَيْضًا) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ) مُسْتَقِرًّا (عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا) بِذَاتِهِ فِى الأَرْضِ (وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ) كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِمَا فِى دَاخِلِهَا (فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ) فَإِنَّ تَعَدُّدَ الأَمْكِنَةِ يَقْتَضِى تَعَدُّدَ الأَجْزَاءِ الْحَالَّةِ فِى كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ بِذَلِكَ كَلامُ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةِ وَدَحَضَتْ دَعْوَاهُ. وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةٌ دَامِغَةٌ لِبَاطِلِهِمْ مُفْحِمَةٌ لِمُتَكَلِّمِيهِمْ قَاطِعَةٌ لِدَعَاوِيهِمْ وَلا يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْكَرَامَاتِ عَنْ بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ مِنْ رُؤْيَةِ أَحَدِهِمْ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فِى أَكْثَرَ مِنْ مَكَانٍ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِثْلُ هَذَا لِأَنَّ الْوَلِىَّ مِنْ هَؤُلاءِ يَكُونُ لَهُ شَبَحٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ الْجِسْمِ الأَصْلِىِّ فَيَرَى النَّاسُ أَحَدَ هَذِهِ الأَشْبَاحِ أَىْ مِثَالَ الذَّاتِ الأَصْلِىِّ فِى مَكَانٍ مِنَ الأَمْكِنَةِ بَيْنَمَا يَرَى ءَاخَرُونَ الشَّبَحَ الآخَرَ فِى الْوَقْتِ نَفْسِهِ فِى مَكَانٍ ءَاخَرَ وَلا يَدَّعِى أَحَدٌ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فِى مَكَانَيْنِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا. (قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فَإِنْ (قَالُوا قَوْلُهُ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِى بِالْعِلْمِ وَ﴿بِكُلِّ شَىْءٌ مُّحِيطًا﴾ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ) فَلَمْ يَحْمِلُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عَلَى الظَّاهِرِ (قُلْنَا وَقَوْلُهُ ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) لا يُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ مَعْنَاهُ (قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى انْتَهَى. يَعْنِى أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ) وَيَزْعُمُونَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِى الآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ تَحْرِيفٌ وَتَعْطِيلٌ (فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ) وَمَا هَذِهِ الدَّعَاوَى الَّتِى لا مُسْتَنَدَ لَهَا وَلا دَلِيلَ.

   (ثُمَّ) إِنَّ مِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُغَالِبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ قَاهِرًا فَيَقُولُونَ لِذَلِكَ تَأْوِيلُكُمْ لِلِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ مَرْدُودٌ وَتَفْسِيرُكُمْ بَاطِلٌ قُلْنَا هَذَا لا يَلْزَمُنَا (قَالَ الْقُشَيْرِىُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ) أَىْ تَوَهُّمَ كَوْنِهِ مُغَالِبًا قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ غَالِبًا (لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ هَيْهَاتَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ) فَظَهَرَ أَنَّ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ كَمَا لا يُشْعِرُ قَوْلُهُ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِسَبْقِ مُغَالَبَةٍ أَوْ مَغْلُوبِيَّةٍ لا يُشْعِرُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْقَهْرِ مُغَالَبَةً أَوْ مَغْلُوبِيَّةً (بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ) هَؤُلاءِ (الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ) فَلَوْ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ اتِّخَاذُ كَيْفِيَّةٍ تُنَاسِبُ الْعَرْشَ وَتُلائِمُهُ بَعْدَ حُدُوثِهِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرٍ عَمَّا قَبْلَ وُجُودِهِ وَانْتِقَالٍ مِنْ كَيْفِيَّةٍ إِلَى أُخْرَى وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ. (وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ) فِى تَفْسِيرِ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ (الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى) أَىْ حَصَلَ فِى الْعَرْشِ أَثَرُ فِعْلٍ فَعَلَهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ (أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى) إِذْ أَنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَنْسُبْ إِلَى اللَّهِ صِفَةً لا تَلِيقُ بِهِ فِى مَا قَالَ وَأَمَّا الثَّانِى فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مَحَلًّا لِلتَّأَثُّرِ وَجَعَلَ لِمَخْلُوقٍ هُوَ الْعَرْشُ أَثَرًا فِى الْخَالِقِ تَعَالَى أَىْ جَعَلَ إِحْدَاثَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ مُغَيِّرًا لِصِفَتِهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ عَقَلًا وَنَقْلًا كَمَا لا يَخْفَى (فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ) الْمَعْنَوِىِّ (وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ) لا بِعُلُوِّ الْمَسَافَةِ وَلا بِفَوْقِيَّةِ الْجِهَةِ (وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِى الْمَكَانِ) الْوَاحِدِ أَوْ فِى كُلِّ الأَمْكِنَةِ (وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ ا) وَالْمُقَابَلَةِ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ حَرْفَ عَلَى كُلَّمَا وَرَدَ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْمَكَانِ أَوْ أَنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ حَيْثُمَا اسْتُعْمِلَتْ دَلَّتْ عَلَى الْجِهَةِ الْعُلْيَا فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ[3] وَجَاءَ بِمَا يُنَاقِضُ لُغَةَ الْعَرَبِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْعُلُوَّ الْحِسِّىَّ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ رَكِبُوا رِقَابَ الْمُؤْمِنِينَ.

   (قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ نَبَغَتْ) أَىْ ظَهَرَتْ (نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ) أَىِ السُّفَهَاءِ (لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ) أَىِ اسْتِدَرَاجُهُمْ لَهُمْ (بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِى أَوْهَامِهِمْ لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ) وَحَفِظْتُهُ (عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ) أَىْ فَلَوْلا حَاجَةُ التَّحْذِيرِ مَا كُنْتُ عَرَّجْتُ عَلَى ذِكْرِهِمْ (يَقُولُونَ نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ) مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى تَحْتَمِلُهَا الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ (وَنُجْرِى الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (وَالأَخْبَارَ) الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُوهِمَةَ حَدًّا) لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَزَّ (وَعُضْوًا) لَهُ (عَلَى) هَذَا (الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى قَوْلِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى مَقْصِدِهِمْ وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ (وَهَؤُلاءِ وَالَّذِى أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ) الْمُعْلِنِينَ (ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَ)أَمَّا (هَؤُلاءِ) فَإِنَّهُمْ (أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ) الَّذِينَ لا رُسُوخَ لَهُمْ فِى عُلُومِ الْعَقَائِدِ (فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ وَيُنَاصِرُونَهُمْ (بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِى قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ) الْحِسِّىِّ (وَالِاتِّكَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ) كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ (وَالتَّرَدُّدِ فِى الْجِهَاتِ فَمَنْ أَصْغَى إِلَى) مَقَالِهِمْ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَى اتِّبَاعِ (ظَاهِرِهِمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ) فِى حَقِّ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ (فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِى ا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ التَّأْوِيلَ) لِلآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ (غَيْرُ جَائِزٍ خَبْطٌ) بِلا هِدَايَةِ دَلِيلٍ (وَجَهْلٌ) غَيْرُ مَبْنِىٍّ عَلَى عِلْمٍ (وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِىِّ) وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ ابْنُ مَاجَهْ فِى سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ وَلَوْلا جَوَازُ التَّأْوِيلِ وَحُسْنُ الإِتْيَانِ بِهِ فِى مَوْضِعِهِ لَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. (قَالَ الْحَافِظُ) عَبْدُ الرَّحْمٰنِ (ابْنُ الْجَوْزِىِّ فِى كِتَابِهِ الْمَجَالِسُ وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا) اﻫ (وَ)قَدْ (شَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ) فِى هَذَا الْكِتَابِ (عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِى ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ).

   (وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ فَوْقِيَّةَ الْقَهْرِ دُونَ) فَوْقِيَّةِ (الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ) فَإِنَّ الأُولَى لائِقَةٌ بِالْخَالِقِ تَعَالَى وَالثَّانِيَةَ لا تَلِيقُ بِهِ.

   (وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَجْرِ (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) هُوَ ظُهُورُ وَمَجِىءُ ءَاثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ لِذَلِكَ وَ(لَيْسَ) الْمُرَادُ (مَجِىءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمِلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ وَالْمَعْنِىُّ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَىْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ) فَيَكُونُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَجَازِ الْحَذْفِ حَيْثُ يُحْذَفُ الْمُضَافُ وَيُقَامُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ أَىْ حُبَّ الْعِجْلِ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَجْرِ (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَتْ قُدْرَتُهُ) اﻫ يَعْنِى ءَاثَارَ قُدْرَتِهِ أَىْ فَتَظْهَرُ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ مَظَاهِرُ قُدْرَةِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ (رَوَاهُ) بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ (الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ).

(73) حُلُومٌ جَمْعُ حِلْمٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَاللُّبُّ.

(74) أَىْ مُؤَدَّى كَلامِهِمْ أَىْ مَا يُوصِلُ إِلَيْهِ كَلامُهُمْ.

(75) أَىْ أَبْعَدَ فِى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَنْ طَلَبِ مَقْصُودِهِ.