قال المؤلف رحمه الله: [ليسَ بِعَرَضٍ ولا جسمٍ].
(الشرحُ): أنَّ الله تبارك وتعال ليس عَرَضًا لأن الله تعالى قائمٌ بذاته فوجودُه ليس قائمًا بغيرِهِ والعَرَضُ قائمٌ بغيره فهو لا يقوم بذاته بل يفتقر إلى محلٍّ يقوم به ويكون ممكنًا، ولأن منه ما لا يبقى زمانين والله ليس مقترنًا بالزمن.
وقد تقدم تفسير الجسم أنه ما تركب من جوهرين فأكثر وما كان كذلك كان مُحدَثًا كما تقدَّمَ.
قال سيف الدين الآمديُّ في كتابه غاية المرام في علم الكلام ما نصُّهُ فإنْ قيل ما نشاهده من الموجودات ليس إلا أجسامًا وأعراضًا وإثباتُ قسمٍ ثالثٍ مِمَّا لا نَعْقِلُهُ، قُلنا مَنْشَأُ الخَبْطِ هٰهنا إنما هو من الوهمِ بإعطاء الغائب حكمَ الشاهد والحكم على غير المحسوس بما حُكِمَ به على المحسوس والوهمُ كاذبٌ غيرُ صادقٍ بل وقد يشتَدُّ وَهْمُ بعض الناس بحيث يقضِي به على العقل وذلك كمن ينفر عنِ المَبيت في بيت فيه ميت لتوهمه أنه يتحرك أو يقوم وإن كان عقله يقضِي بانتفاء ذلك، فاللبيبُ مَن ترك الوهم جانبًا ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبًا. وإذا عُرِفَ أن مستند ذلك ليس إلا مجردَ الوهم فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان فإنَّا قد بَيَّنا أنه لا بد من موجود هو مُبْدِئُ الكائنات وبيَّنا أن لا جائز أن يكونَ له مِثْلُ من الموجودات شاهدًا ولا غائبًا، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبيَّن أن ما يقضِي به الوهمُ لا حاصلَ له.
ثم لو لزم أن يكون جسمًا كما في الشاهد للزم أن يكون حادثًا كما في الشاهد وهو ممتنع لما سبق اهـ.
وقال الإمامُ أبو القاسم الأنصاريُّ النيسابوريُّ شارحُ كتاب الإرشاد لإمام الحرمين نقولُ سبيلُ التوصلِ إلى دَركِ المعلومات الأدلةُ دون الأوهام ورُبَّ أمرٍ يَتوصل العقلُ إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرِكُ العقلُ موجودًا يحاذي العرشَ مع استحالة أن يكون مثلَ العرش في القدر أو دونَهُ أو أكبرَ منه وهذا حكمُ كلِّ مختَصٍّ بجهةٍ. ثم نقول الجوهر الفرد لا يُتصور في الوهم وهو معقولٌ بالدليل، وكذلك الوقتُ الواحد، والأزلُ والأبدُ، وكذلك الروحُ، ومَن أراد تصوير الأرض والسماء مثلًا في نفسه فلا يتصور له إلا بعضُها، وكذلك تصوير ما لا نهاية له من معلومات الله تعالى ومقدوراته، فإذا زالت الأوهامُ عن كثيرٍ من الموجوداتِ فكيف يُطْلَبُ بها القديمُ سبحانه الذي لا تُشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يُتصور في الوهم فإنه لا يُتَصَوَّرُ إلا صورةٌ ولا يَتَقَدَّرُ إلا مُقَدَّرٌ قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومَن لا مِثلَ له لا يَتَمَثَّلُ في الوهمِ، فَمَن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته، وقد قيل في قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ} [النجم: 42] إليه انتهى فِكْرُ مَن تَفَكَّرَ، هذا قول أُبَيِّ بنِ كعبٍ وعبدِ الرحمٰنِ بن أبي نُعْم، ورُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا فِكْرَةَ في الربِّ اهـ. ورُوِيَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال إذا ذُكر اللهُ تعالى فانتهوا اهـ.
وقد قال الفقيهُ المتكلم ابنُ المعلم القرشيُّ في كتابه نجم المُهْتَدِي ما نصه والذي يَعبُدُ جسمًا على عرشٍ كبيرٍ ويجعل جسمَهَ كقدر أبي قُبَيس أو سبعة أشبار بشبرِهِ كما حُكِيَ عن هشام الرافضيِّ أو كلامًا ءَاخَرَ تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم فقد عبدَ غيرَ اللهِ فهو كافرٌ اهـ.
ونقلَ ابنُ المعلم القرشِيُّ عنِ الإمامِ أبي عبد الله محمد بن عمر الأنصاريِّ القرطبيِّ قال والذي يقتضِي بطلان الجهة والمكان مع ما قررناه من كلام شيخنا وغيره من العلماء وجهان أحدهما أن الجهة لو قُدِّرَتْ لكان فيها نَفْيُ الكمالِ وخالقُ الخلق مستغنٍ بكمالِ ذاته عمَّا لا يكون به كاملًا.
والثاني أنَّ الجهة إما أن تكون قديمةً أو حادثةً فإن كانت قديمة أدَّى إلى محالين أحدُهما أن يكون مع البارئ في الأزل غيرُه، والقديمان ليس أحدُهُما بأن يكون مكانًا للثاني بأَوْلى مِنَ الآخَر فافتقرَ إلى مخصِّصٍ يُنقَلُ الكلام إليه وما يُفْضِي إلى المُحَالِ محالٌ اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا جَوهرٍ].
(الشرحُ): أنه يستحيلُ على الله تعالى أن يكون جوهرًا وهو في عُرف المتكلمين من أهل السُّنَّةِ الجزءُ الذي لا يتجزأ مِن القلة مع تحيزه ويكون جزءًا للجسم فاللّٰهُ تعالى منزهٌ عن ذلك.
ويمتنع إطلاقُ الجوهرِ والجسمِ على الله من جهةِ عدم ورود الشرع بذلك مع تبادر الفهم إلى المركب المتحيز وقد اتفق أهلُ السُّنَّة أنه لا يجوز إطلاق لفظٍ غيرِ واردٍ على الله إذا كان يُوهم ا لا يليقُ بذاته تعالى كلفظ السَّخِيِّ هذا مع كونِهِ وصفًا فما كان جامدًا من أسماء الأعيان كالرُّوح فإنه ممنوعٌ بالأولَى وبالإجماعِ فإطلاقُ سيد قطب عبارةَ [الريشة المبدعة] و[القوة الخالقة] على اللهِ ممنوعٌ بالاتفاق لأنه ليس وصفًا فالريشة اسم من أسماء الأعيان والقوة صفةٌ وليست لفظًا من ألفاظ الوصف.
فإن قيل كيف جاز إطلاقُ الموجودِ والواجبِ والقديمِ والصانعِ والأزليِّ ونحو ذلك على الله مِمَّا لم يَرِدْ به الشرعُ نصًّا قلنا جاز إطلاق ذلك على الله بطريق الإجماع وهو دليلٌ شرعيٌّ.
قال أبو إسحاقَ الشيرازيُّ في اللمعِ اعلمْ أنَّ الإجماعَ لا ينعقدُ إلا عن دليلٍ فإذا رأينا إجماعهم على حكم علمنا أنَّ هناكَ دليلًا جمعهم سواءٌ عرفنا ذلك الدليلَ أو لم نعرفْهُ اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا مُصوَّرٍ].
(الشرحُ): أنَّ الله تبارك وتعالى يستحيل أن يكون مصوَّرًا أيْ ذا صورةٍ وشكلٍ مثلِ صورة الإنسان أو الفرس أو غيرهما لأن ذلك من خواص الأجسام تحصل لها بواسطة الكميات والكيفيات وإحاطة الحدود والنهايات.
ونقل الحافظ البيهقيُّ في الأسماء والصفات عن الحافظ المحدث الفقيه أبي سليمان الخطابِيِّ أنه قال إنَّ الذِي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بِذِي صُورةٍ ولا هيئة فإن الصورة تقتضِي الكيفيةَ وهِيَ عنِ الله وعن صفاته مَنْفِيَّةٌ اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا مَحدودٍ].
(الشرحُ): أنَّ الله تعالى مُنَزَّهٌ عن أن يكون ذا حدٍّ ونهايةٍ كسائر الأجسام فالعرشُ الذي هو أكبر الأجرام محدودٌ وكذا الذرة محدودة لأنَّ الفرق بينهما من حيث كثرةُ الأجزاء وقِلَّتُهَا، فالعرش أجزاؤُهُ كثيرةٌ والذَّرَّةُ أجزاؤُها قليلةٌ فلا يَتوهمْ متوهِّمٌ غافلٌ عن تنزيه الله تعالى أنَّ مرادهم بِنَفْيِ المحدودية عَنِ الله أنَّهُ ليس شيئًا صغيرًا قليلَ الأجزاء بحيث يدخل تحت الحصر وإنما هو شَيْءٌ لا نستطيعُ أنْ نُحصِيَ أجزاءَهُ كالعرش بل المرادُ أنه سبحانه لا أجزاءَ له لأنه ليس جسمًا واسعَ المِساحةِ ولا جسمًا صغيرَ المِساحةِ فينبغِي الاهتمامُ ببيان هذه العبارة لطلاب العلم على الوجه الذي يَنْفِي عنهم توَهُّمَ المعنَى الفاسد لأنه قد يتوهم بعضُ الجهال في أيامنا أنه إذا قيل الله ليس له حدٌّ أو ليس بمحدود أن معناه جِرْمٌ كبير، واعتقاد الجِرم في الله كفر فمن اعتقده جِرمًا صغيرًا أو اعتقده جِرمًا كبيرًا كالعرش أو أوسعَ منه فهو جاهلٌ بالله غيرُ عارفٍ بربه فالله تعالى منزهٌ عن الحدود أيْ لا يجوز عليه عقلًا ولا شرعًا أن يكون له حدٌّ فلا يجوز أن يقال إنَّ له حدًّا لا نعلمه بل هو يعلمه كما قال بعض المجسمة من الحنابلة مِن أسلاف ابن تيمية وذلك لأن المحدود يحتاج إلى من حدَّهُ والمحتاج إلى غيره محدَّثٌ والمحدَّثُ لا يكون إلٰهًا لأن من شرطِ الإلٰه الأزلية والقِدَم.
والذرةُ المتقدِّمُ ذِكْرُها عند أهل اللغة والمتكلمين تُطلق على النملة الصغيرة الحمراء التي تَزِنُ المائةُ منها كوزنِ حبة شعيرٍ وتُطلق أيضًا على الهَباءِ الذي يُرى في شعاع الشمس الداخل من النافذة.
ويكفِي لِنَفْي الحدِّ والحجم عن الله تعالى من حيثُ النَّصُّ الشرعيُّ قوله تعالى في سورة الشُّورى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] [الشورى: 11]؛ لأنه لو كان حجمًا لكان له أمثالٌ لا تُحْصَى وهذا من الأوليَّات في مفهومات هذه الآية لأن لفظَ شَيْءٍ نكرةٌ ذُكِرَتْ في الآية في معرض النَّفْيِ فيشمل كلَّ ما سوى الله من حجم كثيف وحجم لطيف، فقول مشبهة العصر إن معنى الآية ليس له مِثلٌ فيما نعرفه عجيبٌ في التحريفِ لغةً وشرعًا وعقلًا وزيغٌ من القول لا يُلتفت إليه.
قال نُعيم بن حمَّاد ما نصه من شَبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر اهـ.
وقال الحافظ المجتهد إسحاق بن راهويه من وصف الله فشبه صفاتهِ بصفاتِ أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم اهـ.
وقال الإمام الطحاويُّ في عقيدتِهِ التي سمَّاها ذِكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ومَن وصف الله بمعنًى من معاني البشر قد كفر اهـ. أيْ أن من وصف الله تعالى بوصفٍ من أوصاف البشر فقد كفر لإثباتهِ المماثلةَ بينه تعالى وبين خلقه وذلك مَنْفِيٌّ بالنصِّ وبالقضيةِ العقليةِ وهِيَ أنه لو كان متصفًا بصفة من أوصاف البشر لكان يجوز عليه ما يجوز على البشر من حدوثٍ وفناءٍ وتطوُّر وتغيُّرٍ ونحوِ ذلك ومن جاز عليه ذلك فلا يصلح أن يكون مكوِّنًا للحادثاتِ تعالى الله عن ذلك.
وحُكِيَ عن الإمام الشافعيِّ رَضِيَ الله عنه أنه قال مَن انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهِي إليه فكرُهُ فهو مُشَبِّهٌ وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو مُوَحِّدٌ اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا مَعدودٍ ولا مُتَبَعّضٍ ولا مُتَجَزِّئٍ ولا مُتَركِّبٍ].
(الشرحُ): أنه تعالى ليس ذا عدد وكثرة يعني أن الله منزه عن الكمية لأن الكمية تقتضي التركيبَ كالمقادير أو التعدُّدَ كالأفراد المتعددة وكلا ذلك مستحيل على الله فهو تعالى ليس ذا أبعاض ولا أجزاء ولا تركيب من أجزاء لأن هذا يوجب الاحتياج المُنَافِي للقِدم فما له أجزاء يُسَمَّى باعتبار تأليفه منها متركبًا وباعتبارِ انحلاله إليها متبعضًا ومتجزئًا.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا مُتَنَاهٍ].
(الشرحُ): أنَّ التناهِي من صفات المقادير والأعداد والله متعالٍ عن ذلك لذلك فهو منزه عن التناهِي.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُوصَفُ بالمَاهِيَّةِ].
(الشرحُ): أنه تعالى لا يوصف بالمُجانسة للأشياء وذلك مأخوذٌ من قولهم ما هو أيْ مِن أيِّ جنسٍ هو.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا بالكَيفِيَّةِ].
(الشرحُ): أنَّ الله تعالى منزه عن الكيفية ومراده بالكيفية ما كان من نحو اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مِمَّا هو من صفات الأجسام وتوابع التركيب.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يتمكَّنُ فِي مكان].
(الشرحُ): أنَّ الله منزه عن التمكن في مكان لأن التمكن عبارة عن نفوذِ بُعْدٍ أي امتدادٍ في بُعْدٍ ءَاخَرَ يسمونه المكانَ، واللهُ منزه عن الامتداد والمقدار لاستلزامه التجزؤ.
والدليل على ذلك أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزمُ قِدَمُ الحَيِّزِ أوْ لا فيكون محلًّا للحوادث وكلا ذلك مستحيلٌ. وأيضًا إما أن يُسَاوِيَ الحيِّزَ أو ينقصَ عنه فيكون متناهيًا أو يزيدَ عليه فيكون متجزئًا.
وإذا لم يكن في مكانٍ لم يكن في جِهَةٍ لا عُلْوٍ ولا سُفلًٍ ولا غيرِهما لأنَّ الجهةَ إما حدودٌ وأطرافٌ للأمكنة أو نفسُ الأمكنةِ باعتبار عروض الإضافة إلى شيءٍ.
وربما قال بعض المجسمة [جهة العُلْو غيرُ جهة السُّفْلِ لأنَّ جهة السُّفْلِ نقصٌ يجب تنزيهه عنها وأما جهةُ العُلْوِ فكمالٌ] فالجواب أن يقال لَهُم الجهاتُ كلها لا تقتضى الكمال في حد ذاتها لأن الشأن ليس في عُلُوِّ المكان بل الشأنُ في عُلُوِّ القَدْرِ بل مِنَ المُشَاهَدِ في البشرِ أنَّ أحدَهم قد يختصُّ بالمكان العالِي ومَن هو أعلى منه قدرًا يكون في المكان المنخفض ويحصل ذلك للسلاطين فإن حرسهم يكونون في كان عالٍ وهم أسفلَ منهم فلم يكن في عُلُوّ الجهةِ وعُلُوِّ المكانِ شأنٌ.
ثم إنَّ الأنبياء مستقرهم في الدنيا الأرضُ وفي الآخرة الجنةُ وهم أعلى قدرًا من الملائكة الحافين حول العرش والذين هم في أعلى من مستقر الأنبياء من حيثُ الجهةُ فكونُ مُسْتَقَرِّ حملة العرش مثلًا فوق مستقرِّ الأنبياء من حيث الجهة ليس دليلًا على أنهم أكمل من الأنبياء بل ولا على مساواتهم لهم.
فإذا تقرر هذا فلا يُهَوِّلَنَّكُمْ قولُ المشبهة إنَّ القولَ بأن الله موجود مِن غير أن يكون مُتَّصِلًا بالعالم ولا منفصلًا عنه ولا داخله ولا خارجه نَفْيٌ لوجودِ اللهِ. يُقال لهم هذه شبهة بنيتموها على أصل غير صحيح وهو أنكم جعلتم شرطَ الوجود أن يكون الشيءُ له اتصالٌ أو انفصالٌ وأن يكون داخلَ العالم أو خارجَه، بل المشبهة يعترفون أن الله كان موجودًا قبل العالم لا داخلَه ولا خارجَه فيقال لهم كذلك بعد أن خلق العالم هو موجود كما كان لا داخلَ العالم ولا خارجَهُ فتبطُلُ بهذا شبهتُهُم وتموِيْهُم.
ولو كان اللهُ داخل العالم لكان مَحويًّا بالعالم ومظروفًا وذلك يقتضِي إثبات الكمية لله تعالى ولو كان كذلك لكان له أمثالٌ في خلقه، ولو كان خارجَ العالم لكان محاذيًا للعالم بقدر العالم أو أصغر أو أكبر منه وذلك يقتضِي تقديرَ ذاتِ الله ويؤدِّي إلى إثبات الجزء له تعالى وذلك يُنَافِي الأزلية والقدم فإنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي جعل خلقه على مقاديرَ مختلفة ولو كان له مقدار لكان له أمثال في خلقه.
وبعبارة أخرى يُقال كل شَيْءٍ له مقدار فهو مخلوق حادث يحتاج إلى من عله على ذلك المقدار كالإنسان له مقدارٌ أربعةُ أذرع طولًا وذراعٌ عَرضًا فهو بحاجة لمن جعله على ذلك المقدار وكالشمس لها كمية يعلمها الله فَهِيَ محتاجة إلى مَن خصصها بتلك الكمية وكالأرض والسماءِ العرشِ كلٌّ له كميةٌ فاللّٰه لا تكون له كمية لا صغيرةٌ ولا كبيرةٌ.
وقد نصَّ الإمام المحدث الحافظ المفسر عبد الرحمٰن بن الجوزيِّ الحنبليُّ على نَفْيِ التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى فقال في كتابه دفع شُبَهِ التشبيه يَحْكِي قولَ المجَسِّمِ الحنبليِّ ابنِ الزاغونِيِّ قال يعني ابنَ الزاغونِيِّ المجسمَ [وقد ثَبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاتُه فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من شَيْءٍ يحصل به الفصل فلما قال: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ} [الحديد: 4] علمنا اختصاصه بتلك الجهة] قال [ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها] قال ابنُ الجوزيِّ قلتُ [هذا رجلٌ لا يدرِي ما يقول لأنه إذا قَدَّر غايةً وفصلًا بين الخالق والمخلوق فقد حدَّده وأقرَّ بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهرَ ما تحيّز ثم يُثبت له مكانًا يتحيز فيه. قلتُ وهذا كلام جَهلٍ مِن قائله وتشبيهٌ محضٌ فما عَرف هذا الشيخُ ما يجب للخالق وما يستحيل عليه فإن وجودَه تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بُدَّ لها من حيز. والتحتُ والفوقُ إنما يكون فيما يُقابَلُ ويحاذَى. ومن ضرورة المحاذِي أن يكون أكبرَ من المحاذّى أو أصغرَ أو مثلَه وأن هذا ومثلَه إنما يكون في الأجسام. وكلُّ ما يُحاذِي الأجسامَ يجوز أن يَمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتُها فهو حادثٌ إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولُها للمباينة والمماسةِ فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه وإن منعوا جوازَ هذا عليه لم يبقَ لنا طريقٌ لإثبات حَدَثِ الجواهر. ومتى قدَّرنا مستغنيًا عن المحل والحيز ومحتاجًا إلى الحيز ثم قلنا إما أن يكونا متجاورَين أو متباينين كان ذلك محالًا فإن التجاور والتباينَ من لوازم التَّحيز في المتحيّزات، وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيّز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزًا لم يخلُ إما أن يكون ساكنًا في حيّزهِ أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يُوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، وما جاورَ أو باينَ فقد تناهى ذاتًا والمتناهِي إذا خُصَّ بمقدار استَدْعَى مُخصِّصًا، وكذا ينبغِي أن يُقال ليس بداخلِ في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروجَ من لوازم المتحيزات وهما كالحركة والسكون وسائرِ الأعراض التي تختصُّ بالأجرام] ثمَّ قال [وقد حملهم الحِسُّ على التشبيهِ والتخليطِ حتى قال بعضُهُم إنما ذَكَر الاستواءَ على العرش لأنه أقربُ الموجودات إليه وهذا جهلٌ أيضًا لأن قربَ المسافة لا يُتصور إلا في حقِّ الجسم. وقال بعضُهُم جهة العرش تحاذِي ما يقابله من الذات ولا تحاذِي جميعَ الذات وهذا صريحٌ في التجسيم والتبعيض ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلا مذهبنا. واحتج بعضُهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] [فاطر: 10] وبقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وجعلوا ذلك فوقيةً حِسِّيَّةً ونَسُوا أنَّ الفوقية الحسيَّةَ إنما تكون لجسم أو جوهر وأن الفوقية قد تُطلق لعلو المرتبة فيقال فلان فوق فلان. ثم إن كما قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] فمَن حَمَلها على العِلْم حَمَلَ خصمُهُ الاستواءَ على القهر] اهـ. أيْ وليس له أن ينكر عليه وإلَّا كان متحكمًا. قال [وذهبت طائفةٌ أنَّ الله تعالى على عرشه وقد مَلَأَهُ والأشْبَهُ أنه مُمَاسٌّ للعرش والكرسِيَّ موضِعُ قدميه. قلتُ المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقيةً] انتهى كلام ابن الجوزيِّ ولقد أجاد وشفى وكفى.
وقال الإمام المحدِّثُ الفقيهُ الشافعيُّ أبو منصور البغداديُّ الذي وصفه ابنُ حجرٍ المَكِّيُّ بأنه الإمام الكبير إمام أصحابنا أي الشافعيةِ وهو من جملة مشايخ البيهقيِّ قالَ [وأجمع أصحابُنا على إحالة القول بأنه في مكان أو في كل مكان ولم يُجيزوا عليه مماسةً ولا ملاقاةً بوجهٍ مِنَ الوُجُوهِ ولكن اختلفت عباراتهم في ذلك فقال أبو الحسن الأشعري إن الله عزّ وجلّ لا يجوز أن يقال إنه في مكان ولا يقلا إنه مباين للعالم ولا إنه في جوفِ العالم لأن قولَنا إنه في العالم يقتضِي أن يكون محدودًا متناهيًا وقولَنا إنه مباينٌ له وخارجٌ عنه يَقتضِي أن يكون بينه وبين العالم مسافةٌ والمسافةُ مكانٌ وقد أطلقنا القول بأنه غير مُمَاسّ لمكان] انتهى.
وقال الحافظُ النوويُّ الشافعيُ ما نصه [وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد أو عنادٍ أو استهزاء هذا قولٌ جملى وأما التفصيل فقال المُتَوَلِّي مَن اعتقد قِدَمَ العالم أو حدوث الصانع أو نَفَى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا قادرًا أو أثبت ما هو منفِيٌّ عنه بالإجماع كالألوانِ أو أثبت له الاتصالَ والانفصالَ كان كافرًا] اهـ.
وقال الغزاليُّ مصحِّحُ الاتصال والانفصال الجسميةُ والتحيز وهو محالٌ على البارئ فانفك عن الضدين كما أن الجمادَ لا هو عالم ولا جاهل لأن مُصَحِّحَ العلم هو الحياة فإذا انتفتِ الحياةُ انتفى الضدان اهـ.
وقال الشيخ أبو المعين ميمون بن محمد النسَفي الحنفي لسانُ المتكلمين في تبصرةِ الأدلة في ردِّ قولِ المشبهة إنه تعالى لَمَّا كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم وليسَ بداخلِ العالم فكان خارجًا منه وهذا يُوجِبُ كونَه بجهة منه قال [والجوابُ عن هذا الكلام على نحو ما أجبنا عن الشبهة المتقدمة أنَّ الموصوف بالدخول والخروج هو الجسمُ المتَبعّضُ المتجزئُ فأما ما لا تَبَعُّضَ له ولا تَجُزُّؤَ فلا يُوصف بكونهِ داخلًا ولا خارجًا] اهـ.
ولَمَّا قالتِ المشبهةُ الله تعالى موجودٌ إذًا غما أن يكون مُمَاسًّا للعالم أو مباينًا عنه وأيُّهما كان ففيه إثباتُ الجهة قل في ردِّ كلامهم إنَّ ما ذُكرَ هو مِن وَصْفِ الجسم وقد قامت الدّلالةُ على بطلان كونهِ جسمًا ألا ترى أن العَرَضَ لا يُوصَفُ بكونِه مُماسًّا للجوهر ولا مباينًا له اهـ. ثم قال: [وهذا كلُّهُ لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحِق الوجودِ بل هو من لواحِقِ التبعُّضِ والتجزُّئِ والتناهِي وهِيَ كلُّها محالٌ على القديم تعالى] اهـ. يعنِي أنه ليس مِن شرط الموجودِ كونُ غيره مُمَاسًّا له أو مُباينًا أو متصلًا به أو منفصلًا عنه أو داخلًا فيه أو خارجًا عنه إنما هذا مِن شرط التبعيض والتَّجَزُّئِ والتناهِي وذلك كلُّه محالٌ على القديم تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يَجْرِي عليه زَمانٌ].
(الشرحُ): أنَّ الزمانَ عند أهلِ السُّنَّة عبارةٌ عن مُتَجَدِّدٍ يُقدَّر به مُتَجَدِّدٌ ءَاخَرُ. وهو عند الفلاسفة عبارةٌ عن مقدار حركة الفَلَكِ واللهُ منزَّهُ عن ذلك جميعًا.
وما ذكره المؤلف من التنزيهات يُغنِي ذِكْرُ بعضِها عن بعضٍ إلَّا أنه أراد التفصيلَ والتوضيحَ بأبلغِ وجهٍ وأَوْكَدِه.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يُشبِهُهُ شَيْءٌ].
(الشرحُ): أنَّ اللهَ لا يماثلُهُ شَيْءٌ، فإذا أُريد بالمماثلة الاتحادُ في الحقيقة فظاهرٌ، وإذا أُريد بها كونُ الشيئين بحيث يَسُدُّ أحدُهما مَسَدَّ الآخر أيْ يصلُح كلٌّ لِمَا يصلُح له الآخَرُ فإنَّ شيْئًا مِن الموجودات لا يَسدُّ مَسَدَّهُ في شَيْء مِن الأوصاف لأنَّ أوصافَه مِن العلم والقدرة وغيرِ ذلك أجلُّ وعلى مِمَّا في المخلوقات بحيث لا مناسبةَ بينهما.
قال بعضُهُمُ المماثلةُ إنما تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف حتى لو اختلفا في وصف واحد انتفت المماثلة وهذا غيرُ سديدٍ لأن أهلَ اللغة لا يمتنعون من القول بأن زيدًا مثلُ عمرٍو في الفقه إذا كان يساويه ويَسُدُّ مسدَّه في ذلك الباب وإن كان بينهما مخالفةٌ في وجوهٍ كثيرةٍ. ونسبةُ ذلك إلى الأشعريِّ فيها نظرٌ فإنه لا تُحفَظُ له عبارةٌ صريحةٌ في ذلك بلِ المُتَعَارَف في المخاطَبَات في اللغة وفي الشرعِ يقضِي بجواز إطلاق المثلية من غير اشتراط ذلك كما جاء في الحديث الحِنطةُ بالحِنطة مِثلًا بِمِثْلٍ أي في الكيل لا في جميع الأوصاف.
وقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه أنَّى يُشبه الخالقُ مخلوقه. اهـ. أي أنَّ الله سبحانه لا يُشبه شيئًا ولا يُشبهُهُ شَيْءٌ أيْ لا يُشارك شيئًا من المخلوقات في صفَةٍ من صفاتِهِ ولا يشاركه شَيْءٌ مِن المخلوقات فيها.
قال الفقيهُ المؤرخ المتكلم ابن المعلم القرشيُّ ما نصُّهُ قال القشيريُّ في عقيدته قال شيوخُ هذه الطريقة على ما يدل عليه متفرقاتُ كلامِهم ومجموعاتُها ومصنفاتُهم في التوحيد إنَّ الحقَّ سبحانه مُوجِدٌ قديم واحد حليم قادر عليم ماجد رحيم مريد سميع مجيد رفيع متكلم بصير متكبر قدير حيٌّ باقٍ أحدٌ صمد وإنه عالمٌ بعلم قادرٌ بقدرة مريدٌ بإرادة سميعٌ بسمع بصيرٌ ببصر متكلمٌ بكلام حيٌّ بحياةٍ باقٍ ببقاء ثم قال فيها وإنه أحديُّ الذاتِ لا يُشْبِهُ شيئًا من المصنوعات ولا يُشبهه شَيْءٌ من المخلوقات ليس بجسم ولا جوهر ولا عَرَضٍ ولا صفاتُه أعراضٌ ولا يُتصور في الأوهام ولا يتقدر في العقول ولا له جهةٌ ولا مكانٌ اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يَخرُجُ عن عِلمِهِ وقُدرتِهِ شَيْءٌ].
(الشرحُ): أنه لا يخرج عن علم الله ولا عن قدرته شيء لأن الجهلَ بالبعض أو العجزَ عن البعض نقصٌ وافتقارٌ إلى مُخَصِّصٍ. والنصوص القطعية ناطقة بعموم العلم وشمولِ القدرة قال تعالى {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقال تعالى: {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
(تنبيهٌ): قولُنا عِلمُ الله متعلق بكل شيْءٍ يدخل فيه الواجبُ العقليُّ والجائزُ العقليُ والمستحيلُ العقليُّ، أما مُتَعَلَّقُ القدرةِ فهو الممكن العقليُّ ليس الواجبَ العقليَّ والمستحيلَ العقليَّ فهٰذان لا يدخلان في قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة هود: 4]؛ لأنه لو تعلقت القدرة بالواجب العقليِّ لكان الأزلِيُّ حادثًا لكن لا يُعَدُّ ذلك عجزًا من الله تعالى عن هٰذين فلا يقال عاجزٌ عنهما كما لا يُقالُ قادرٌ عليهما بل يقال القدرةُ لا تتعلقُ بهما لأن تعريفَ الواجب العقليِّ أنه ما لا يَقبل العدمَ أصلًا لذاتِهِ وتعريفَ المستحيلِ العقليِّ أنه ما لا يَقبل الوُجُودَ أصلًا لذاتِهِ.
قال المؤلف رحمه الله: [ولهُ صفاتٌ أَزليةٌ قَائمةٌ بذاتِهِ].
(الشرحُ): أنَّ الله تعالى له صفاتٌ أزليةٌ قائمةٌ بذاته، ولا يُقال حالَّةٌ بذاته ولا حالَّةٌ في ذاته ولا إنها بعضُ ذاتِهِ ولا أنها متصلةٌ بذاتِهِ بل نقولُ صفاتٌ قائمةٌ بذاتِهِ أيْ ثابتةٌ له سبحانَهُ لا تنفكُّ عنه كما ينفكُّ الغيرُ عنِ الغيرِ، فنقول عِلْمُهُ تعالى صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ قائمةٌ بذاته وقدرتُهُ صفةٌ أزليةٌ قائمةٌ بذاته يتأتَّى بها الإيجادُ الإعدامُ وإراداته صفة قديمة قائمة بذاته يخصص بها الممكناتِ ببعضِ ما يجوز عليها بدل بعض، بها خصَّص الجسمَ الأبيضَ بالبياض دون السواد وخصَّص القصير بالقصر دون الطول وخصص الطويل بالطول دون القصر، وقد كان جائزًا في العقل أن نكون طوالًا كما كان ءَادَمُ ستينَ ذراعًا بل كان جائزًا أن نكون أطولَ منه فخصَّصَنَا اللهُ تعالى بهذا الطول الذِي نحنُ عليه، وهذا التخصيصُ هو المشيئةُ وهو الإرادةُ.
قال المؤلف رحمه الله: [وهِيَ لا هُوَ ولا غَيرُهُ].
(الشرحُ): أنَّ صفاتِ اللهِ ليستْ عينَ الذاتِ ولا غيرَ الذاتِ، فبقولنا هذا نَفَيْنَا ما تقوله المعتزلةُ مِنْ نَفْيِ قيامِ الصفاتِ باللهِ تعالى قالوا لو كان لله صفاتٌ لكانت أزليةً ولو كانت أزليةً لتعدَّدَ القدماءُ فبطل التوحيدُ بل هو قادرٌ لذاته وعالمٌ لذاتِهِ قلنا نحنُ أهلَ السُّنَّةِ لا نُثبتُ صفاتٍ هِيَ غيرُ الذاتِ حتَّى يكونَ في إثباتِها إثباتُ تعدُّدِ القدماء بل نقولُ اللهُ ذاتٌ واحدٌ متصف بصفاتِ لا هي عينهُ ولا هي غيرُه أيْ لا يصح انفكاكُها عنه كالغَيْرَين ولا هِيَ عينُهُ بل لَهَا مفهومٌ غيرُ مفهوم الذات لأنك إذا قلتَ علم الله يُفهم من هذه الكلمة غيرُ مفهوم الذاتِ المقدس وإذا قلت اللهُ يُفهم منه الذاتُ فلا يلزم من قولنا الله له علم قديم وقدرة قديمة وإرادة قديمة وسمع قديم وبصر قديم وحياة قديمة وكلام قديم قائماتٌ بذاته إثباتُ ءَالِهَةٍ ولا يلزم إثباتُ قِدَمِ الغير ولا تَكَثُّرُ ذواتٍ قُدَماء بل أثبتنا إلٰهًا واحدًا متصفًا بصفاتٍ أزليةٍ بأزلية الذات أيْ نقولُ اللهُ واجبُ الوجودِ بذاتِهِ وصفاتُه واجبةٌ لذاتِهِ الواجبِ فليس في ذلك إشكالٌ. أمَّا النصارى وإن لم يصرحوا بالقدماء المتغايرة لكن لزمهم ذلك لأنهم أثبتوا الأقانيمَ الثلاثة التي هي الوجودُ والعلمُ والحياةُ وسمَّوها الأبَ والابنَ وروحَ القدس وزعموا أن أُقنوم العلم قد انتقل إلى بدن عيسى عليه السلام فجوزوا الانفكاكَ والانتقالَ على صفات الله فكانت ذواتًا متغايرةً وعندا لا يجوز أن تنتقل صفةُ الإله لأن الأزلِيَّ لا يطرأ عليه التغير.
وما أجهلَ هؤلاء الذين عندما تأتِي ليلةُ النصف مِن شعبان يفزعون إلى المساجد ليحضروا دعاءً على زعمهم يُغَيِّر الله تعالى مشيئتَهُ لأجلِهِ ولِمَنْ يحضرُهُ في هذه الليلة فهؤلاءِ ما عرفوا اللهَ تعالى وكذَّبُوا قوله عزَّ وجلَّ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29].
قال المؤلف رحمه الله: [وهِيَ العِلْمُ والقدرةُ والحياةُ والقوةُ والسمعُ والبصرُ والإرادةُ والمشيئةُ].
(الشرحُ): أنَّ مِنَ الصفات التي هي أهمُ معرفةً على المؤمن هذه المذكورات وإلا فصفات الله ليست محصورة في هذا القدر ولكن بعضها يجب معرفتُه تفصيلًا وجوبًا عينيًّا وبعضها لا.
قال أهل الحق العلم صفة أزلية تكشف المعلومات عند تعلقها بها.
والقدرة صفة أزلية تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها. والقوة مرادفةٌ للقدرة فالقوةُ هي القدرةُ.
والسمعُ صفةٌ تتعلق بالمسموعات، والبصرُ صفةٌ تتعلقُ بالمُبْصَرَات فيسمعُ اللهُ تعالى كُلَّ المسموعاتِ بسمعِهِ الأزلِيِّ ويَرَى كُلَّ المَرئِيَّاتِ برؤيتِهِ الأزليةِ. وقال بعضُ الأشاعرةِ المتأخرين السمعُ يتعلقُ بالمسموعاتِ وغيرِها مِنَ الموجودات والبصرُ يتعلق بالمُبصَرَات وغيرِها مِنَ الموجودات.
أما الإرادةُ أي المشيئةُ فهما عبارتانِ عن صفةٍ للحيِّ توجب تخصيص أحدِ المَقْدُورِينَ في أحد الأوقات بالوقوع مع استواء نسبةِ القدرة إلى الكل.
أما البقاء فهي عند الأشعريِّ صفةُ معنًى وصفات المعانِي على هذا ثمانية.
وبعض المتأخرين قالوا يجب معرفة عشرين صفة لله وجوبًا عينيًّا فأضافوا إلى ما تقدَّمَ كونَهُ تعالى قادرًا وكونه مريدًا وكونه عالمًا وكونه حيًّا وكونه سميعًا وكونه بصيرًا وكونه متكلمًا سَمَّوْهَا معنويةً لكونها لازمةً من ثبوت صفات المعانِي لأنه من ثبوت القدرة يلزم كونه قادرًا وبثبوت العلم يلزم كونه عالمًا. والتحقيقُ أنه يكفِي اعتقادُ ثبوتِ العلم لله والقدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة والكلام والبقاء لأنه يحصل من اعتقاد أن لله قدرة اعتقاد كونه قادرًا.
ولَمَّا قال المؤلف كغيره من أهل الحق [وله صفاتٌ أزليةٌ] علمنا بطلان قول الكرّامية عن مشيئة الله حادثة تتجدد في ذاته كما قال ابن تيمية.
والكراميةُ طائفةٌ كان يتزعَّمُها محمد ابن كَرَّام وهو متقدمٌ على ابن تيمية بزمانٍ طويل لكن يجمعهما تشبيهُ اللهِ بخلقه. عند الكراميةِ اللهُ تعالى له إرادة متجددة وهذه صفةُ المخلوق لا الخالق.
وكذلك يقول ابن تيمية كلام الله قديم النوع حادث الأفراد فالله تعالى عنده يتكلم بالحرف إن كان عربيًّا وإن كان عبريًّا وإن كان سُريانيًّا فيجعل الحرف قديمًا باعتبارٍ وحادثًا باعتبارٍ، وهذا دليلٌ على نقصان عقله كما قال الإمام الحافظ أبو زرعة العراقي [علمُهُ أكبرُ من عقله] اهـ. فالحرفُ إما عربيٌّ كائنٌ بلغة العرب أو أعجميٌّ بغيرها من اللغات وكلها حادثة مخلوقةٌ يسبق بعضها بعضًا عند الكلام بها فكيف يجعلها ابنُ تيمية بالنسبة إلى الله قديمة النوع حادثة الأفراد فهو باعتقاده هذا ضَاهَى الكرامية مِن وجهٍ وضَاهَى الفلاسفة المحدَثين من وجهٍ لان الفلاسفة المحدثين يقولون العالم أزليُّ النوع حادث الأشخاص وإنْ كانَ يَرْبأ بنفسه أن يُقال عنه إنه مع الفلاسفة. وقوله هذا موجودٌ في عدّةٍ من مؤلفاته فليُحذر.
(فائدةٌ): قالت المعتزلة إنَّ الأمر هو الإرادة فعندهم كلُّ ما أمرَ الله به فقد أراده وقع أو لم يقع للك قالوا أمَرَ اللهُ تعالى عباده بالإيمان وقد شاء وقوعَهُ منهم جميعًا ولكن لم تنفذْ مشيئةُ اللهِ تعالى وغلبَتْ مشيئةُ الكفارِ مشيئتَهُ تعالى فكفروا. وقال أهلُ السُّنَّةِ الإرادةُ ليستْ هِيَ الأمر فقد يأمرُ الإنسانُ بما لا يريدُ حصولَهُ كمن يريدُ أن يُظهِرَ لإنسانٍ ءَاخَرَ أنَّ عبْدَهُ لا يُطيعُهُ بل يَعصيهِ فيأمر عبدَهُ بِشَيْءٍ وليس قصدُهُ أنْ يُنَفِّذَ ما أمرَهُ به بل يريد أنْ لا يفعلَهُ لإظهارِ عصيانِهِ وعدمِ امتثالِهِ لأمرِهِ.