هذا الفصل معقود لبيان التناقضات الكثيرة التي يقع فيها الألباني في حكمه على الأحاديث وعلى الأحكام الفقهية التي يصدرها، فأحببنا أن نسلّط الضوء على بعض هذه التناقضات، ليكون القارئ على بيّنة من أمره حتى لا يغترّ به وبكتبه.
وهنا أمرٌ مهم ينبغي تبيانه، فقد يقول قائل: إن هذه التناقضات نتيجة اجتهاد الألباني، فقد اجتهد العلماء السابقون في أحكام خالفت اجتهاداتهم السابقة. فالجواب وبالله التوفيق:
أولاً: إن الألباني ليس بمجتهد؛ بل ليس بعالم ولا فقيه، ولا أقول هذا لمجرد أني أردّ عليه في هذا الكتاب؛ بل من طالع في كتب([1]) علماء أهل السُّنَّة، المؤلَّفة في أصول الفقه، في باب الاجتهاد وشروطه، وَجَدَ بأدنى تأمّل أن هذا المدّعي لا تتوفّر فيه هذه الشروط، فقد ذكر علماء الأصول أن الاجتهاد: هو استخراج الأحكام التي لم يَرد فيها نصٌّ صريح لا يحتمل إلا معنًى واحدًا من الكتاب والسُّنَّة، وهو وظيفة المجتهد الذي له أهلية ذلك، بأن يكون: حافظًا لآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، ومعرفة أسانيدها، ومعرفة أحوال الرواة، قوّة وضعفًا، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وغيرها، مع إتقان اللغة، بحيث يعرف مدلولات النصوص الشرعية على حسب اللغة التي نزل بها القرءان، ويعرف النحو والصرف والبلاغة، ومعرفة ما أجمع عليه المجتهدون وما اختلفوا فيه، حتى لا يخرق إجماع من كان قَبلَه، ويشترط فوق ذلك شرط، وهو ركن عظيم في الاجتهاد، وهو فقه النفس، أي: قوّة الفهم والإدراك، وتشترط العدالة أيضًا، كما تقدّم.
ثانيًا: إن العلماء اشترطوا لأخذ العلم أن يكون الذي يتلقى عنه قَدْ أخذ من أفواه العلماء الثقات سماعًا ومشافهة، وقد تقدّم في الكتاب بعض أقوال العلماء في ذلك، ويسمّون من يأخذ من الكتب من دون مشافهة صَحَفيًّا، ولا يقولون عنه عالم؛ بل وينهون طلاب العلم أن يأخذوا عنه، لأن سنده منقطع، كالألباني لا مزية فيما حصّله، ولأن العلم لا يؤخذ بالمطالعة، فمطلق إنسان يستطيع أيضًا أن يطالع ويقرأ في الكتب.
ولو كان هؤلاء المغرورون يظنّون أنهم يصيرون علماء بهذه الطريقة ما كان رسول الله قال([2]): «إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من العبادِ، ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبقِ عالـمًا اتخذ الناسُ رُوؤسًا([3]) جهّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ علمٍ فضلُّوا وأضلّوا»، وموضع الشاهد في الحديث هو قوله : «يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ» مع أنّ الكتب في زماننا هذه متوفّرة وبكثرة جدًّا، أكثر بكثير مما مضى، لسهولة طباعتها بالآلاف، وتوزيعها في أقطار الأرض بوقت قصير، مقارنة مع ما كان يحصل في الماضي من كتابتها باليد ونشرها عبر الترحال على الدواب وما شابه ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إن الله يقبض العلم بذهاب الكتاب، ولا يعني هذا أننا نهمل تقييد العلم بالكتب؛ بل هذا سنة العلماء الذين هم حافظون لِما في الكتب.
فالحذر الحذر من الذين يحثون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم ومتبوعيهم بعيدين عن هذه المرتبة، فهؤلاء يخربون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين.
والآن سنذكر بعض هذه التناقضات.
[1])) الزركشي، تشنيف المسامع (4/5)، الغزالي، المستصفى (2/350)، الأسنوي، نهاية السول (4/547).
[2])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم (1/50).
[3])) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/195): «قال النووي: ضبطناه بضمّ الهمزة والتنوين: جمع رأس. قلت: وفي رواية أبي ذر أيضًا بفتح الهمزة وفي ءاخره همزة أخرى مفتوحة: جمع رئيس».اهـ.