تمهيد في معنى التصوف
التصوف مرتبة عالية وهو إصلاح القلب بالوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا، فهو مبني على الكتاب والسنة وذلك باتباع شرع الله تعالى والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأحوال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال، وتسليم الأمور كلها لله من غير إهمال في واجب لا مقاربة محظور، وحاصله اتصاف بالمحامد وترك للأوصاف الذميمة.
فهو مسلك قائم على العلم والعمل أعلاه علم التوحيد وأداء الواجبات قبل النوافل ثم عمل البر والخير والزهد والتحلي بالأخلاق الحسنة.
قال الله تعالى: {تَتَجافى جُنُوبهم عنِ المضاجعِ يدعونَ ربهُم خَوفًا وطمَعًا ومَمَّا رزقْناهُم يُنفقون* فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفِيَ لهُم من قُرَّةِ أعيُنٍ جزاء بما كانوا يعملوا} [سورة السجدة] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: “إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين” رواه الطبراني.
وقد اشتهر حديث عند الصوفية وهو حديث حارثة بن مالك أن الرسول عليه السلام لقي ذات يوم فقال له: “كيف أصبحتَ يا حارثة” قال: “أصبحت مؤمنًا حقًا”. قال: “انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة” قال: “عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني بأهل النار يتعاوَوْن فيها” قال: “عزفت فالزم، عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه” أخرجه الطبراني.
وهذا الحديث متداول بين الصوفية، وإن كان هذا الحديث ضعيف ضعفًا خفيفًا فقد ذُكر في فضائل الأعمال، ويُعمل به كما ذكر السيوطي في تدريب الراوي وغيره.
فهذا هو مشرب القوم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في حاله وخُلقه، وكان عليه الصلاة والسلام خُلُقه القرءان، وكان أكثر الناس تواضعًا وزهدًا، وكان أعفّ الناس، مَن صحبه أحبه لما يشاهده من محاسن أخلاقه ومزيد شفقته وتواضعه وباهر عُظم تآلفه وأخذه بالقلوب.
وكان صلى الله عليه وسلم يمشي مع المسكين والأرملة إذا أتياه في حاجة ما يفعل ذلك من غير أنفة. وكان يخصِف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه ولا يعيبه ذلك، ويكون في مهنة أهله، وكان يردف خلفه عبده أو خادمه أو قريبه يفعل ذلك على دابته، وكان يجالس الفقراء والمساكين والعبيد والإماء ويعودهم ويزورهم، ويتفقد حالهم، ويشهد جنائزهم، وما سئل عليه الصلاة والسلام شيئًا من متاع الدنيا يباح إعطاؤه فقال لا، وكان يجلس في الأكل مع الفقراء والمساكين، وكان لا يعيب طعامًا قط بل إن أحبه أكله وإن كرهه تركه، وكان يلبس من الثياب ما وجده من إزار وقميص وجبة صوف، وربما يلبس الإزار وحده ليس عليه غيره، وربما كان عليه مِرط [1] من صوف أو خز، ففي سنن أبي داود: “خرج علينا رسول الله وعليه مرط مرحل [2] من شعر أسود”. وربما صلى بثوب واحدٍ ملتحفًا به بغير زائد عليه، وكان لا يسبل القميص ولا الإزار أي لا يرسلهما إلى الأرض بل يجعل الإزار والقميص فوق كعبيه، بل ربما كان إزاره وقميصه لنصف الساق، يفعل ذلك تواضعًا، وربما نام على العباءة يثنيها ثنيتين، وربما نام على الحصير ويؤثر الحصير في جنبه الشريف، فقد أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقدٌ على حصير من جريد وقد أثر في جنبه، فبكى عمر فقال له: “ما يبكيك” قال: ذكرت كسرى وملكه، وهرمز وملكه، وصاحب الحبشة وملكه، وأنت رسول الله صلى الله عليك وسلم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أن لهم الدنيا ولنا الآخرة”. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، والوارد عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك كثيرٌ. وقد قال عليه الصلاة والسلام: “من في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، وقال: “ما لي وللدنيا، وما للدنيا ومالي، ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها”. فعلى هذا كان سيدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثله ورد عن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فقد ورد عن نبي الله عيسى عليه السلام فيما رواه الحسن البصري قال: “كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر [3]، ويأكل الشجر، ويبيت حيث أمسى”. وكان سيدنا عيسى عليه السلام يبيت حيث أمسى في مسجد أو غير مسجد ما اتخذ بيتًا، وكان يأكل ما يُتقوت به من بُقول الأرض كالمُلوخية والهندباء والخبيزة نيئة من غير طبيخ. هكذا أنبياء الله عليهم السلام زهادٌ عبادٌ عارفون طالبون للآخرة، وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام مع ما أعطاه الله تعالى من السلطان والجاه وخدمة الجن له كان يأكل خبز الشعير.
على هذا كان أنبياء الله عليهم السلام وعلى هذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أدّب المتقين، وعلّم الزاهدين، ووطد الدين، ونُصر بالرعب مسيرة شهر، وضجت الأكوان باسمه، ورجفت فرائص ملوك الأرض لذكره في كل زمان ومكان، وقد مات عليه الصلاة والسلام ولم يشبع من خبز الشعير، مع أنه أعطى ما بين لابتيها [4] غنمًا، وملأ رداء عمه العباس ذهبًا، وأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، فالله أكرم أنبياءه، واصطفاهم لمقام النبوة، وخصهم بما لا يخصَّ به أحدًا من البشر، وأغناهم عن الناس، فسلَّموا لله تسليمًا كاملاً، واستغنوا بالله، وأيقنوا أنه المالك الكريم الرازق الخالق المدبر لمخلوقاته في كل حين، فأنفقوا ولم يقتروا، وأيقنوا أن كلاً من عنده، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أوَليس قال عليه الصلاة والسلام بلال: “أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً” رواه الطبراني وأبو نعيم.
وتبع أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المشرب، وردّ أهل الردة على أعقابهم، ونام على قطيفة لم يكن عنده في البيت سواها، ثم أمر بها فأعيدت إلى بيت المال. وكذلك الفاروق عمر رضي الله عنه فتح الاقطار، ومصّر الأمصار، وعزّ به الدين واستنار، وخطب عام وفاته وعليه ثوب فيه أربعون رقعة.
وهذا ذو النورين عثمان رضي الله عنه فقد روي أنه رؤي يقبل في المسجد وهو يومئذ خليفة وأثر الحصى في جنبه، وكذلك أبو الحسنين علي الأكرم عليه السلام وهو الذي رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا على التراب مرة فسماه أبا تراب، وكان كرم الله وجهه يلبس إزارًا مرفوعًا ويقول: “يُخشع القلب، ويقتدي به المؤمن”.
وتبعهم على ذلك أهل الولاية والإرشاد من التابعين الأمجاد، فكان لهم من نورهم قبس، ومن حال نبيهم صلى الله عليه وسلم نفس، ودلوا المسلمين على المنهج القويم، والصراط المستقيم، وعلى مشرب نبيهم وجليل حاله، وغيرهم كثير ولو أردنا ذكرهم لطال.
وقد قال الحسن البصري: أدركت سبعين بدريًا ما كان لباسهم إلا الصوف.
وكلهم من رسول الله ملتمسُ *** غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
يقول العارف بالله الزاهد العلامة الشيخ عبد الله الهرري ناصحًا مريديه: “إياكم والغفلة بالتنعم وتعلق الهمم بتكثير الأموال”، والتنعم هو التوسع في الملذات من المطعومات والمشروبات ومن الملبس الفاخر، وتركُ التنعم هو سنة الأنبياء.
واعلم أن معنى التصوف الحقيقي كان في الصدر الأول من عصر الصحابة، فالخلفاء الأربعة كانوا صوفيين معنًى، واعلم أن صاحب كتاب حلية الأولياء الحافظ أبو نعيم أحدَ مشاهير المحدثين بدأ كتابه الحلية بصوفية الصحابة، ثم أتبعهم بصوفية التابعين، وهكذا. فإذا رمت معرفة القوم والتيقن من صدق حالهم وصفاء مشربهم، فهاك ما ذكرناه لك، فتأمل.
[1] مرط: أي كساء.
[2] مرحل: فيه صور تشبه الرحل، والرحل ما يوضع على البعير للركوب، يقول امرؤ القيس:
خرجت بها أمشي تجرّ وراءنا *** على أثرينا ذيل مرط مرحل
[3] الشعر: الصوف.
[4] لابتيها: واللابة هي الحرة، والحرة أرض فيها حجارة سود وللمدينة المنورة لابتان وهي حدود الحرم.