بسم الله الرحمن الرحيم
درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ الأصوليّ عبد الله بن محمّد الهرري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيانِ معرفة أن تقدير الله لا يتغيّر. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله رب العالمين له النعمةُ وله الفضل وله الثناءُ الحسن صلوات الله البَرّ الرحيم والملائكةِ المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وحبيب رب العالمين وعلى جميع إخوانِهِ من النبيين والـمُرسلين وءال كلّ والصالحين وسلامُ الله عليهم أجمعين.
أما بعدُ فإنَّ بعض الجُهّال يعترضون على قول عامَّةِ الناسِ اللهمّ إنّا لا نسألك ردَّ القضاءِ ولكن نسألك اللطفَ فيه، يقولون هذا معارِضٌ للحديث الحسن الذي رواهُ الترمذيّ في سننه لا يَرُدُّ القضاءَ إلا الدعاءُ([i]) اهـ يقولون كيف لا ندعو الله برَدّ القضاء والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يُرَدُّ. الجوابُ أن يُقال لهم يوجد قضاءان قضاء مُبرَمٌ وقضاءٌ معلَّقٌ فالقضاءُ المبرمُ لا يرُدُّهُ شيءٌ لا دعوةُ داعٍ ولا صدقةُ متصدق ولا صلة رحم، والقضاءُ الـمُعلَّقُ معناه أنه معلق في صحف الملائكة التي نقلوها من اللوح المحفوظ فيكون مكتوبًا عندهم مثلاً فلانٌ إنْ دعا بكذا يُعطَى كذا وإن لم يفعل لا يُعطَى وهم لا يعلمون ماذا سيكون منه فإن دعا حصل ذلك ويكونُ دعاؤُه ردَّ القضاءِ الثانيَ المعلقَ. هذا معنى القضاء المعلق أو القدر المعلق، وليس معناه أن تقديرَ الله الأزليّ الذي هو صفتُهُ معلقٌ على فعل هذا الشخص أو دعائه فالله يعلم كلَّ شيء بعلمه الأزليّ يعلمُ أيَّ الأمرَين سيختار هذا الشخصُ وما الذي سيُصيبُه وكتبَ ذلك في اللوحِ المحفوظِ أيضًا وعلى مثل هذا يُحمل الحديثُ الذي رواه البيهقيّ في كتاب القضاء والقدر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَر ولكن الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر اهـ فقوله لا ينفع حذر من قدر معناه في ما كتب من القضاء المحتوم وقوله ولكن الله عز وجلّ يمحو بالدعاء ما شاء من القدر معناه المقدور المعلّق. ويدلُّ على ذلك ما ورد في حديث مسلم([ii]) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: سألتُ ربّي لأمَّتي ثلاثًا فأعطاني ثِنتَين ومَنَعَني واحدةً سألتُهُ ألَّا يُهلِكَ أمَّتي بالسَّنَةِ المجاعة العامّةِ فأعطانيها وسألتُهُ ألَّا يُسلّطَ عليهم عَدُوًّا من غيرِهِم فَيَسْتأصلَهُم فأعطانيها وسألتُهُ ألَّا يجعلَ بأسَهُم بينَهُم فمَنَعَنيها وقال يا محمدُ إني إذا قَضَيتُ قضاءً فإنهُ لا يُرَدُّ اهـ والكلامُ في هذا الحديث على القضاء المبرم وعلى كل حالٍ مشيئة الله وتقديرُهُ وعلمه لا يتغير.
قال الغزاليُّ في الإحياءِ فإن قلتَ فما فائدةُ الدعاءِ والقضاءُ لا يُرَدُّ فالجوابُ أنّ مِنَ القضاء رَدُّ البلاء بالدعاء فالدعاءُ سببٌ لردّ البلاءِ واستجلابِ الرحمةِ كما أن الترسَ سببٌ لرد السهم والماء سبب خروج النبات اهـ.
وخرَّجَ الترمذي في جامعهِ عن أبي خزامة واسمه رفاعة عن أبيه قال سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرأيتَ رُقًى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاةً نَتَّقِيها هل تَرُدُ مِن قَدَرِ الله شيئًا قال عليه الصلاة والسلام هيَ من قَدَرِ اللهِ([iii]) اهـ قال أبو عيسى أي الترمذيّ هذا حديث حسن وفي بعض نسخه حسن صحيح اهـ.
ثمّ تأمّلْ جوابَ عمرَ الفاروقَ رضيَ الله عنه لأبي عُبَيدةَ حين همَّ بالرجوع عن الدخول على أرض بها الطاعون وهي الشام فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد على سؤال أبي عُبيدة رضي الله عنه أفِرارًا من قَدَرِ الله فأجابه عمر نعم نَفِرُّ مِن قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله أي إذا خرجنا من هذه الأرض إلى أرض أخرى كل ذلك يكون بتقدير الله ولا يكون ذلك منافيًا للتوكل، وذلك في الوقعة المعروفة بطاعون عمواس الذي أتى على كثير من جِلَّةِ الصحابةِ وخِيرة الفاتحين فكانوا شهداء الطاعون.
فالمسلم عندما يدعو الله تعالى يعتقدُ جزمًا أن دعاءَهُ لا يغير مشيئةَ الله تعالى لكن الدعاءُ بخير عبادةٌ. الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ما رواه الترمذيّ في سننه الدعاءُ مُخُّ العِبادةِ([iv]) اهـ والعبادة هنا معناها الحسنات فنحن عندما ندعو بدعاء حسن يكون اعتقادنا أن هذا الدعاءَ فيه أجرٌ وقد يدفعُ الله عَنَّا شيئًا من البلاء بسببه وإن شاء الله تعالى في الأزل أن يُستجابَ دعاؤنا استُجيبَ. ومعنى قوله تعالى: ﴿ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾([v]) أطيعوني أثبكم. ومعنى قوله تعالى: ﴿كُلَّ يومٍ هُوَ في شَأنٍ﴾([vi]) ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم يَغفِرُ ذنبًا ويُفرِّجُ كَرْبًا ويَرْفَعُ قومًا ويضعُ ءاخَرينَ([vii]) اهـ رواه ابن حبان في صحيحه وليس معناه أنَّ الله يغير مشيئته. ويوافق هذا قولُ الناس سبحان الذي يغيّرُ ولا يتغير وهو كلام جميلٌ إذ التغيُّر محلُّهُ في المخلوقات وليس في الله وصفاته فيكون معنى الآية أن الله يُغَيّرُ في خلقه ما شاء.
ومعنى قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ﴾([viii]) أثيب الطائعَ على طاعته الموافقة للشرع.
وأما قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يشاءُ ويُثبِتُ﴾([ix]) فليسَ معناه المحو والإثبات في تقدير الله إنما فسره الإمامُ الشافعيُّ رضيَ الله عنه بالناسخ والمنسوخ كما جاء في كتاب القضاء والقدر للبيهقي، أي أن الله يمحو ما يشاءُ من القرءان أي يرفعُ حكمَه وينسخُه بحكم لاحِق ويُثبتُ ما يشاء من القرءان فلا ينسخُه وما يُبدَّلُ وما يُثبتُ كلُّ ذلك في أمّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ فهو مشتمل على الممحوّ والمثبَتِ وهذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاتِهِ فلا نسخ. قال الحافظ البيهقيّ في كتاب القضاء والقدر هذا أصح ما قيل في تأويل هذه الآية اهـ.
فيعلم مما تقدم أن قول العوامّ اللهم إنا لا نسألُكَ ردَّ القضاءِ راجعٌ إلى القضاء المبرم لا المعلَّق فلا تعارضَ بين هذا وبين الحديث. والحمد لله رب العالمين.
انتهى والله تعالى أعلم.
[i])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء.
[ii])) رواه مسلم في صحيحه باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.
[iii])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في الرقى والأدوية.
[iv])) رواه الترمذيّ باب ما جاء في فضل الدعاء.
[v])) سورة غافر/الآية 60.
[vi])) سورة الرحمن/الآية 29.
[vii])) رواه ابن حبان في صحيحه باب ذِكْر الإخبارِ بأنَّ أسبابَ هذهِ الفانيةِ الزَّائِلةِ يَجري عليها التَّغيُّرُ والانتقالُ في الحالِ بعدَ الحالِ.
[viii])) سورة البقرة/الآية 186.
[ix])) سورة الرعد/الآية 39.