الأحد ديسمبر 22, 2024

تفسير قول الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[سورة الرعد: 11]

قال الفقيه العلامة عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى رحمةً واسعة:

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.

أمَّا بعدُ: فهذا تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. قوله تعالى: {مَا بِقَوْمٍ}، أي: نعمةً أنعم بها على قوم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، أي: حتى يفسقوا عن طاعة ربهم بعد أن كانوا بحالة الطاعة([i]). المعنى أن القرية، أي: البلدة التِي هِيَ كانت على الإيمان والطاعة فما داموا على تلك الحال لا يسلبهم الله النعمة التي أنعم بها عليهم وإنما يصابون بزوال النعمة إذا فسقوا بأن كفروا وارتدوا أو كانوا مسلمين مطيعين ثم فسقوا فَجَرُوا بشرب الخمور والملاهِي والفواحش والظلم والتجبر على الناس ونحو ذلك هذا معنى الآية ليس معنى الآية أن الله يغير مشيئته فالذي يتوهم أن هذه الآية تعطِي أن الله يغير مشيئته فذلك جهل واضح فإما أن يكون من الجهل باللغة بمكان بعيد وإما أن يكون فيه شائبةُ إلحاد كأنه يريد أن يطعن فِي كتاب الله وأن ينسب إليه ما هو ضد عقيدة القرءان والحديث.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} (ما) هذه من حيث اللغة إما أن تكون نكرةً موصوفةً وإما أن تكون اسمًا موصولًا([ii])، فإن قُدّرت نكرة موصوفة فالتقدير إن الله لا يغير نعمة موجودة فِي قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي: يُغَيّرُوا حالهم من حيث الطاعة بأن ينتقلوا من الطاعة إلى الكفر أو إلى الفجور، هذه بلاد اليمن التي اليوم أغلبها رمال قاحلة ليس فيها نبات والماء يقل فيها جدًّا ما كانت هكذا إنما صارت هكذا لما كفروا بالنبيّ الذي أرسل إليهم فقلبها الله تعالى أرضًا قاحلة يابسة عديمة المياه لم يبق فيها من الماء إلا شيء قليل جدًّا هؤلاء لولا أنهم كفروا تغيروا عما كانوا عليه من الإيمان والطاعة لبقيتْ حالتهم على ما كانت عليه لكن الله تعالى جازاهم والله تعالى عالم فِي الأزل أنهم يكونون إلى مدة كذا بحالة كذا من الإيمان والطاعة ثم يتغيرون عن تلك الحال إلى حالة الكفر والفسوق والعصيان كان عالـمًا فِي الأزل وشاء ذلك فليس هناك أمر يخفَى على الله، الله تعالى عالم بتطورات المخلوقات عالم فِي الأزل بما يحدث من المخلوقات وما يحدث فيهم من التغير إما إلى الخير والازدياد منه وإما إلى غير ذلك عالم بكل ذلك وشاء ما يحدث فِي العالم من التطور، لا يتجدد له علم ولا تتجدد له مشيئة، هي مشيئته الأزلية المتعلقة بتخصيص الممكن العقلي فلا تتطور له مشيئة لا تحدث له مشيئة جديدة، بمشيئته الأزلية يُصرّف الأشياء كيف شاء فِي الأزل، وكذلك قلوب العباد هو مطلع على ما سيحدث فيها من النوايا الله تعالى عالم قبل أن يخلقها بما سيحدث لها من التقلبات.

فهذا الذي يظن أن الآية معناها: أن الله يغير مشيئته إما أن يكون جاهلًا باللغة وإما أن يكون فيه شائبة إلحاد وكيفما كان فليتب إلى الله بالرجوع إلى الإسلام بتغيير ما ظنه من الظن الفاسد إلى العقيدة الصحيحة ثم يتشهد شهادةَ الإسلام وإلا فإنما يضر نفسه ولن يضر الله تعالى شيئًا {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]. هذه الآية ترجع فِي المعنى إلى ءاية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمـٰن: 29]، أي: يحدث ما شاء من خلقه كل يوم ليس معناه: أنه هو يشاء مشيئاتٍ متجددةً ليس معناه: أنه كل يوم تحصل له مشيئة لا، لا تحدث له مشيئة؛ لأن مشيئته هي مشيئة واحدة أزلية أبدية يخصص بها الممكنات على حسب ما ثبت فِي علمه الأزلي فهو تعالى يغير أحوال خلقه ولا يتغير، هو لا يتغير إنما يغير أحوال مخلوقاته، هذا الكلام السائد بين الناس الله يُغَيّرُ ولا يَتَغَيَّرُ من أحسن الكلام. انتَهَى.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.

[i])) قال الطبريُّ فِي تفسيره {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من ذلك بظلم بعضهم بعضًا واعتداء بعضهم على بعض فتحل بهم حينئذٍ عقوبته وتغييره.اهـ. وهو مأخوذ من كلام مجاهد وإبراهيم وقتادة وغيرهم وهو الذي قاله الماتريديّ فِي تفسيره وهو ما فِي تفسير السمرقنديّ والقشيريّ والثعلبيّ والواحديّ والسمعانيّ والكرمانيّ والبغويّ وابن الجوزيّ والرازيّ ونقله عن جميع المفسرين.اهـ.

[ii])) فيكون التقدير إن الله لا يغيرُ الذي بقوم أي حالَ الرخاء والأمن الذي هم عليهِ حتى يغيروا ما بأنفسهم فيتبدل حالهم من الطاعة إلى العصيان.