ترجمة الإمام الهرري رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:
فإن الله عز وجل قد أكرمني منذ صغري قبل البلوغ بمعرفة شيخنا الشيخ عبد الله ابن محمد الهرري رحمه الله ورضي عنه، إذ كان والدي الشيخ محمد الشريف رحمه الله يعرفه، وكان الشيخ عبد الله يتردد إلى منزلنا ويبيت عندنا أحيانًا.
وكان الشيخ عبد الله رحمه الله يأتي أحيانًا يزورنا بالليل ونستفيد منه، وكان والدي رحمه الله يسأله ويستفيد منه، ويلتقي الشيخ أحيانًا في بيت والدي ببعض أهل بيروت من الكبار. وقد التقى مرةً في بيتنا بالشيخ بهاء الدين الكيلاني مفتي عكار رحمه الله فصار الشيخ بهاء الدين يسأله في العلم فاستفاد منه بفضل الله.
ومرةً سأل والدي الشيخ محمد الشيخ عبد الله رحمهما الله قال له: أصحيح أنك تجتمع بالأولياء في غار حراء؟ فقال شيخنا الشيخ عبد الله: ما اجتمعت بهم في غار حراء، فقال له والدي: أصحيح أنك اجتمعت بالخضر عليه السلام وقرأ لك على صدرك فصرت لا تنسى ما تحفظ؟ فقال شيخنا رحمه الله: صحيح.
وكان الشيخ عبد الله رحمه الله يأتي أحيانًا يزورنا بالليل في المطر، أذكر ذلك في صغري، وأحيانًا حين كان لا يجدنا كنت أراه عندما نعود مع عامل يعمل بحمل الحطب في دكان قرب بيت والدي يقعد معه بجانب الدكان، كانا يأكلان اللبن والخبز.
نسبه رضي الله عنه:
هو العالم الجليل شيخ الإسلام والمسلمين قدوة المحققين وعمدة المدققين صدر العلماء العاملين الإمام الزاهد الشيخ أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف ابن عبد الله بن جامع الهرري موطنًا الشيبي العبدري القرشي نسبًا الشافعي مذهبًا مفتي هرر. ولد رضي الله عنه في مدينة هرر حوالي سنة ١٣٢٨ﻫ – ١٩١٠م.
قال شيخنا رضي الله عنه: “عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن جامع إلى هنا أحفظ. جامع هو جدي الثالث في هرر. شجرة النسب ضاعت وأنا في عمر ثماني سنوات. النسب ينتهي إلى بني شيبة من جهة الأب، أما من جهة الأم فبكري.
والد جامع لا أحفظ اسمه، هاجر من مكة إلى الصومال، دخلها ثم استقر فيها، تخمينًا لعله كان في القرن الثاني عشر.
عندنا يضاف الشخص إلى اسم أبيه، وبعض العشائر يضاف عندهم اسم الشخص إلى شهرة له ليس إلى اسم الأب. نحن ليس عندنا في هرر شهرة غير الأسامي، ينتهي نسبنا إلى بني شيبة”.
نشأته وطلبه للعلم رضي الله عنه:
لقد أكرم الله تعالى شيخنا رحمه الله بمشايخ من الصالحين الأولياء في بلده، ففي صغره كان مع الشيخ محمد عبد السلام وهو قطب ولي كبير وفقيه عالم، وقد حدثنا شيخنا رحمه الله مرةً قال: كان شيخنا الشيخ محمد عبد السلام يستتبعني خلفه وأنا صغير ويحملني كتابين، فسألت شيخنا رضي الله عنه: ما الكتابان؟ قال: كان يحملني كتابًا كبيرًا في الفقه الشافعي وكتاب شرح ملحة الإعراب، قلت له: ماذا فعلتم بالكتابين؟ قال: أقرأني الكتابين، قلت له: كم كان عمركم يومئذ؟ قال: نحو ثماني سنوات.
وقال شيخنا رحمه الله: “في بلادنا كانوا إذا أرادوا طلب العلم يرحلون إلى زبيد، شيخنا الشيخ أحمد عبد المطلب كان تخرج في الفقه من زبيد، أما في الحديث والقراءات ففي مكة، وكان من شدة عبادته كأنه ملك في صورة بشر. كان إذا نظر إلى الصحيفة مرةً يحفظها، وقد أخذ علي عهدًا إذا رأيت فيه مكروهًا أن أنبهه، قال لي: إن رأيت مني مكروهًا فنبهني، ما رأيت مثله في العبادة. البعض كانوا يقولون له: اذهب إلى السلطان عبد الحميد – يعنون حتى يكرمك – وكان لا يذهب بل كان زاهدًا. وكان له تأليف في الفقه من سبعة ءالاف بيت، هو ما قال لي لكن بعض الطلاب قالوا لي هذا. وهذا التأليف للشيخ أحمد يمكن أنه أحرق”.
وقال شيخنا رضي الله عنه:
زهده رضي الله عنه:
سئل شيخنا رحمه الله: كيف تعيش؟ كيف تصرف؟ من أين يأتيك المال؟ فقال: “أعيش على الفتح متوكلًا على الله، أنا منذ خرجت من بلادي ما أخذت أجرةً على تعليم الدين ولا مرةً، قضيت في الشام عشرين سنةً ءاكل الخبز والشاي والخبز واللبن، وأحيانًا الخبز والبندورة”.
وأذكر في صغري لما كنت ألازم شيخنا رحمه الله في بيته في برج أبي حيدر حيث كان يسكن في الطابق السابع أنه كان يعطيني المال لأشتري اللبن فنأكل الخبز واللبن، وأحيانًا كان يعطيني المال ويقول لي: اشتر البندورة وقطعها قطعًا كبارًا حتى نأكلها بالخبز، وأحيانًا كنا نأكل ما يأتي من بعض الناس الطيبين من الطعام.
وحين أريد أن أهيئ الطعام ليأكله كنت أقول له: أسخنه؟ فيقول: لا لماذا تسخنه؟! نأكله كما هو. كان رحمه الله من أزهد الناس، يأكل لقيمات.
مرةً كنت معه في البيت وحدنا فقال لي: ائت بالطعام، فذهبت إلى المطبخ وفتحت البراد فلم أجد فيه شيئًا بالمرة فرجعت إليه وقلت: لا يوجد طعام، قال: ألا يوجد زيت؟ قلت: بلى، قال: ألا يوجد خبز؟ قلت: بلى، قال: هذا طعام ائت به، لا تقل لا يوجد طعام. تعلمنا منه هذا والحمد لله.
وقد أخبرنا شيخنا رحمه الله قال: في بلادنا ما نمت على سرير قط، كنا ننام على بساط من القش غلظه قدر الكف، والطعام في هرر كل يوم واحد، ثريد غالبًا معه لحم هذا في العاصمة، أما الفلاحون فكانوا يسخنون الماء وفيه الملح يبلون فيه الخبز ويأكلون.
كان شيخنا رضي الله عنه لا يلتفت إلى أمور الدنيا إنما همه الآخرة، همه أن يعلم الناس العقيدة والأحكام، حتى إنه مرةً سأله شخص في بيت والدي رحمه الله: متى تعلمنا الحديث وأنت عالم بالحديث محدث مشهور؟ فقال له رحمه الله: حتى نبلغ الأمل في تحطيم هؤلاء الملحدين.
وكان رضي الله عنه يقرأ الكتب والمخطوطات في الليل، وفي النهار يعلم الناس ما استطاع، ويذكر الله تعالى كثيرًا، وأكثر ما كان يقوله من الذكر “لا إله إلا الله” حتى وهو يأكل يتوقف أحيانًا ويهلل، وهو يدرس أحيانًا بين جملة وأخرى أو حين يعيد الذي يلقنه الشيخ الكلام ليعيد يهلل هو يقول: “لا إله إلا الله”.
حسن خلقه وهمته رضي الله عنه:
وكان رضي الله عنه لطيف المعشر حسن الأخلاق، يكلم الناس بأدب وتواضع، يكلم الصغير والكبير ويقضي حاجات الناس ما استطاع، وينصت لجلسائه ويؤنسهم.
وكان رحمه الله قليل الكلام إلا من خير، لا يتكلم فيما لا منفعة فيه، وكان ما ينصح به يعمل به، جزاه الله عنا وعن المسلمين خيرًا.
وكان رحمه الله منذ عرفته إلى أن توفي يقوم الليل، لا أذكر مرةً أنه لم يقم الليل لا في حضر ولا في سفر ولا حتى في شدة المرض.
ثناء العلماء والصالحين عليه رضي الله عنه:
لما كنت في الأردن اجتمعنا ببعض الناس الذين يعرفون شيخنا الشيخ عبد الله رحمه الله ومنهم الدكتور عبد السميع أنيس، وكان يسكن في الأردن والأصل هو من حلب، قال: زارنا الشيخ عبد الله في حلب منذ خمس وأربعين سنةً – وهو عرف الشيخ على الشيخ عبد الرحمن السبسبي، وهذا الشيخ عبد الرحمن السبسبي قال شيخنا: هو مظنة ولاية أخذت منه الإجازة بالطريقة الرفاعية – قال الدكتور عبد السميع: أخي كان مقعدًا فرأى النبي ﷺ في الرؤيا وأشار إلى الشيخ عبد الله الهرري ليمسح له على رجليه، فمسح له فقام معافًى.
وكان الشيخ عبد الله رحمه الله قد أخذ في القراءات على الشيخ فايز الديرعطاني في المدرسة الكاملية، وكان شيخنا رحمه الله له غرفة في مسجد القطاط في حي القيمرية بدمشق أخذني إليها وأنا صغير، وكان يأتيه بعض طلبة العلم إلى هناك ويجتمع ببعض المشايخ، وكان يتردد إليه الشيخ أحمد الحارون أيضًا وهو من الأولياء الصالحين المعروفين في دمشق مدفون بها وقبره يزار قرب قبر الشيخ رسلان. قال شيخنا: الشيخ أحمد الحارون كان يغلب عليه الصحو لكن كان يمزح حتى لا يغلو الناس في الاعتقاد به. وأخبرنا شيخنا رحمه الله أنه كان يقدم للشيخ أحمد الحارون مما يأكل منه هو أي الخبز واللبن والخبز والزيت حتى قال الشيخ أحمد الحارون للشيخ عبد الله رضي الله عنهما مرةً: ما هذا؟! كل مرة خبز وشاي وخبز ولبن؟!
وكان الشيخ الصالح الشيخ مشهور ينزل في بيت شيخنا أحيانًا، وهو رجل معروف بالصلاح، مرةً دخل على شيخنا رحمه الله وقعد عند قدميه وأمسك بهما، فأحس شيخنا أنه يريد أن يقبل قدميه فقال له: أعفني من هذا يا شيخ مشهور، فقال الشيخ مشهور: لا، والدي الشيخ شتيوي قال لي: إذا وصلت للشيخ عبد الله الحبشي فقبل أن تقبل يديه قبل رجليه، ثم نظر إلينا الشيخ مشهور رحمه الله وقال: قال والدي: الشيخ عبد الله هو رئيس الأولياء في كل الدنيا، الشيخ عبد الله كل مائتين أو ثلاثمائة سنة حتى يأتي واحد مثله.
وحدثني زوج عمتي الحاج شفيق العرجا رحمه الله قال: زرنا مع الشيخ عبد الله الشيخ محمدًا الحراني، وهذا الشيخ محمد الحراني مدفون في إسطنبول، الآن قبره هناك مكتوب عليه صديق الخضر – الشيخ عبد الله قال لنا: كان الشيخ محمد الحراني يلتقي بالخضر، والشيخ عبد الله قال عنه إنه من الأبدال – قال الحاج شفيق: فلما وصلنا إلى الشيخ محمد الحراني نظر إلى الشيخ عبد الله وقال: مرحبًا بشيخ الأبدال. الشيخ محمد الحراني حج سبع مرات ماشيًا من حران إلى مكة وذهب إلى سيدنا أحمد الرفاعي ماشيًا أيضًا، ويقال إنه لما وصل إليه وزاره خرج الرفاعي رضي الله عنه وقعد يقرأ معه القرءان.
وقبل وفاة شيخنا رحمه الله بمدة ليست طويلةً جاءه رجل لا أعرفه من قبل فقال: أنا أبو علي فليطي، اسمعوا هذا عن الشيخ عبد الله، منذ خمسين سنةً كان الشيخ
عبد الله يزورنا في بلدنا عرسال يبيت عندنا يأتي من دمشق، وكان إذا نزل الثلج يعم البيوت فنقوم صباحًا نفتح بالرفش بين البيوت حتى يعطي بعضنا بعضًا شيئًا من الخبز أو المازوت ونحو ذلك، فجاءنا الشيخ مرةً وقد نزل الثلج بالليل وهو بائت عندنا، فقمنا في الصباح وفتحنا بالرفش بين البيوت حتى يناول بعضنا بعضًا على العادة فنظرنا فما وجدنا الشيخ عبد الله في الغرفة، ثم جاء بعض الناس من دمشق لما فتحت الطرقات فقالوا: الشيخ عبد الله الهرري في دمشق، فصرنا نقول: الشيخ
عبد الله الحبشي شيخ الخطوات.
فتاويه رضي الله عنه:
سألت شيخنا رضي الله عنه: أليس حفظ فتاويك أمر مهم؟ قال: بلى. ومرةً وأنا خارج من منزل الشيخ رحمه الله دعاني وأخذ دفتري وصار يتصفحه وقال لي: هذه المسائل التي تكتبها إذا أراد أحد أن يأخذها قل له “تقرأها علي” أي يقرأ الذي يأخذ هذه المسائل علي لأنني سمعتها من شيخنا رحمه الله.